القصة من الداخل: لماذا لا يمكن للنخبة العسكرية الإسرائيلية تحقيق السلام؟ (باتريك تايلر)

باتريك تايلر*

عرض: سماح عبد الصبور*

Patrick Tyler, Fortress Israel: The Inside Story of the Military Elite Who Run the Country–and Why They Can’t Make Peace, (New York: Farrar, Straus and Giroux, 2012).

لم تحقق عملية السلام مع إسرائيل منذ اتفاق أوسلو 1993 وحتى تلك اللحظات أي تقدم، أو تقر جديدا في الوضع الفلسطيني، بل تتزايد النزعة الإسرائيلية نحو الحرب مع تنصلات إسرائيلية دائمة من اتفاقيات السلام مع السلطة الفلسطينية، ومزيدا من التعنت في سياسات الاستيطان والتوسع في الأراضي الفلسطينية، الأمر الذي يدعو للتساؤل حول حقيقة السعي الإسرائيلي للسلام كما يدعي قادتها، وهو الأمر الذي حدا بالكاتب الأمريكي باتريك تايلر، مراسل صحيفة نيويورك تايمز السابق، إلى السعي لدراسة النزعة العسكرية لدى القادة الإسرائيليين، وصعوبات تحقيق السلام مع العرب في كتابه الجديد المعنون بـ" قلعة إسرائيل: القصة من الداخل للنخبة العسكرية التي تدير البلد، ولماذا لا يمكن أن يتحقق؟" من خلال دراسة تاريخية تحليلية للنخبة العسكرية الحاكمة في إسرائيل منذ الآباء المؤسسين للدولة العبرية، ودورهم في إفشال عملية السلام في الشرق الأوسط . وفيما يلي عرض لأهم أفكار الكتاب:

العسكريون في إسرائيل وفرص السلام

يتطرق تايلر في كتابه للسياسة الخارجية والدفاعية لإسرائيل، ويرى أن إسرائيل يحكمها مجموعة من النخبة العسكرية والاستخباراتية الذين لا يسعون لإعطاء فرصة حقيقية للسلام مع العرب عامة، والفلسطينيين خاصة. ويعترف في البداية بأن الدول العربية تقع عليها مسئولية تأجيج مشاعر الكراهية ضد إسرائيل، ولكنه يعلن أن هدفه الرئيسى هو أن يتحدث بواقعية وبإنصاف عن مبدأ الدفاع عن النفس في المجتمع الإسرائيلي، وأن يبين ضغوط النخبة الحاكمة في إسرائيل من أجل تقويض فرص المصالحة وذلك بسرد الأحداث التاريخية اعتمادا على مجموعة واسعة من المصادر والوثائق السرية التي رفعت عنها السرية ليقدم لنا الكاتب قصة التنافس والصراع في الشرق الأوسط منذ حرب السويس، مرورا بحرب الأيام الستة، والحروب ضد لبنان وغزة، وحملات المداهمات والاعتقالات التي لا تنتهي ضد المناضلين الفلسطينيين.
ويسرد الكاتب عملية صنع القرار في إسرائيل، القائمة بالأساس على مبدأ "الدفاع عن النفس " في العقيدة الصهيونية من قبل صانعي القرار في إسرائيل، والسعي الدائم لدى قادتهم للابتعاد عن المفاوضات، وتسوية الصراعات سلميا، مفضلة المزيد من العنف والعدوانية.

النزعة العسكرية لدى الآباء المؤسسين لإسرائيل

تناول تايلر الثقافة العسكرية داخل الدولة العبرية والفكر الصهيوني منذ بدايته على يد بن جوريون أحد الآباء المؤسسين لإسرائيل، والذي سعى لتثبيت النزعة العسكرية في المجتمع الإسرائيلي في إطار السعي لتوسيع الحدود للدولة الناشئة آنذاك، وحيازة مزيد من الأراضي.
وفي إطار تأكيد مجتمع تسيطر فيه النزعة العسكرية بسبب الذاكرة التاريخية الجماعية للإسرائيليين حول محرقة اليهود ، فقد ذكر بن جوريون في 1960 أنه إما أن تبقى إسرائيل حرة وقوية ومستقلة، أو ستتم إبادتها كما أباد هتلر اليهود في ألمانيا، في إطار تأكيد ضرورة تسليح إسرائيل عسكريا، وصولا إلى امتلاك القنبلة النووية التي تم الكشف عن أسرارها في مفاعل ديمونة لاحقا .
وركز الكاتب في الفصل الأول للكتاب أصول النزعة العسكرية لدى بن جوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، حيث تحدث بن جوريون عن استراتيجية قومية عسكرية طموح لإسرائيل، وذلك لبدء جولات جديدة للحرب مع العرب لتوسيع رقعة إسرائيل من خلال الحروب الاستباقية، اعتمادا على القوة العسكرية وحيازة السلاح النووي. وغذت أفكار بن جوريون الروح العسكرية في الدولة الناشئة، فقد كان بن جوريون يأمل في تعبئة الإسرائيليين خلف قيادتهم عبر تلك الحروب، الأمر الذي جعل الإسرائيليين غير متساوين في التسلسل الهرمي الصهيوني تبعا لبن جوريون .
في إطار سعيه لبناء القوة الصلبة الإسرائيلية، قرأ بن جوريون كثيرا عن فنون الحرب، وتكتيكات الدفاع في ساحة المعارك الحديثة، وعن الأسلحة النووية وقدراتها، ودرس مشاكل الجيش الإسرائيلي بتفاصيلها، واجتمع مع القيادات العسكرية الإسرائيلية، وتوصل لمعضلات حقيقية تواجه الجيش الإسرائيلي آنذاك، وعلى رأسها أن نصف المجندين في الجيش من المهاجرين الذين لا يجيدون فن القتال، وذلك بجانب عزلة إسرائيل التي يحيط بها العرب، مع إمكانية التحالف مع القوى الكبرى آنذاك للسعي لتدمير إسرائيل الناشئة. لذلك، كان على إسرائيل السعي للتسلح جيدا، وتأكيد مبدأ الدفاع عن النفس لدى مواطنيها ومجنديها، والحاجة الملحة لجيش قوي قادر على رد العدوان، ونقل المعركة خارج الأراضي الإسرائيلية.

الرغبة في السلام لدى بعض قادة إسرائيل

انتقل تايلر إلى فترة رئيس الوزراء الثاني لإسرائيل، موشيه شاريت، الذي توفي عام 1965 ، وهو الذي سعى إلى أن يحد من النزعة العسكرية في السياسة الخارجية الإسرائيلية، ومن سياسات الانتقام التي كان يتبعها بن جوريون تجاه الفلسطينيين، والتي لم يسلم منها حتى اللاجئون العزل، ولكن فشل في ذلك إلى حد كبير، حيث تفوقت النزعة العسكرية في النهاية على ما عداها من نزعات أخلاقية داخل إسرائيل.
يرى تايلر أن أية فرصة لتحقيق السلام من الجانب الإسرائيلي وكل توجه ضد النزعة العسكرية في السياسة الإسرائيلية يعود إلي رؤية وإلهام شاريت، وقد جاء بعده رئيس الوزراء الثالث ليفي أشكول الذي كان مترددا إلى حد كبير في الذهاب إلى حرب 1967 نتيجة لمحاذير استراتيجية، ولكن غلبت النزعة العسكرية في النهاية.
وبعدها بأربع سنوات، اقترح موشيه ديان الانسحاب من قناة السويس، وكانت تلك هي الحكمة التي أراد شاريت أن يوحي بها إلى زملائه العسكريين، وقد لاقت أفكار شاريت عن السلام أصداء معقولة داخل ضباط الجيش الإسرائيلي في وقته .

التنشئة العسكرية في المجتمع الإسرائيلي

يتناول تايلور قصة صعود الجنرالات من العسكر إلى مؤسسات صنع القرار في إسرائيل، ويعزو ذلك إلى عملية التنشئة داخل المجتمع الإسرائيلي للأطفال منذ الصغر داخل كل عائلة إسرائيلية , حيث يتم قضاء ثلاث سنوات للخدمة العسكرية بعد التعليم الثانوي، ويتم القبول في وحدات الكوماندوز، وأسراب القوات الجوية وغيرها.وبمجرد الدخول في الحياة العسكرية، فإنهم يظلون فيها مدى الحياة ليس فقط من خلال كونهم مطلوبين في الاحتياطي حتى سن 49 , ولكن من خلال الولاء والاحتياطات السرية، لما يملكونه من أسرار عسكرية مدى الحياة.
ويرى تايلر أن الجيش في إسرائيل هو المؤسسة الأكثر حيوية في الدولة، والأكثر تمويلا وتنظيما، ويتميز بثقل حجمه، وتوسع خدماته، ويتدرب الشباب الإسرائيلي في الاستخبارات العسكرية. ويعد الجيش عصب الاقتصاد الإسرائيلي، حيث تقوم العديد من الشركات بالتعاقد مع المؤسسة العسكرية في إسرائيل. ويذهب المتدربون في المؤسسات العسكرية إلى عالم السياسة، ولكنهم في العادة يفشلون في التحول لاحتراف السياسة، وتغلب عليهم النزعات العسكرية. ويرى تايلور أن المؤسسة العسكرية غير متجانسة على الإطلاق، وتضم العديد من التيارات المتعارضة داخلها من اليمين واليسار.
كما يرى أن السلام في إسرائيل لن يتحقق إلا إذا اعتقدت النخبة العسكرية في السلام وتبنته كاستراتيجية وطنية، حيث إن إسرائيل لا تزال غير قادرة على خلق جيل من القادة قادر على التواؤم والتكيف مع ظروف العصر من أجل إنهاء عزلة إسرائيل، وتغيير النموذج العسكري الإسرائيلي. ولكن تظل إسرائيل تستخدم القوة العسكرية بشكل كبير ومتكرر، وتعطي تحركاتها مبررات أخلاقية من أجل الحصول على مزيد من الأراضي، وتبرير هجماتها الانتقامية المتكررة ، وهذه الاستراتيجيات، من وجهة نظر تايلور، أضاعت فرصا كثيرة للسلام، وسعت لتحويل إسرائيل إلى قلعة عسكرية داخل قفص صلب، على حد قوله.

مبدأ الدفاع عن النفس كمبرر للقوة العسكرية

دفع مبدأ الدفاع عن النفس في العقيدة الإسرائيلية مناحم بيجن وغيره من القادة والجيش الإسرائيلي إلى تجاهل جميع التحذيرات من أن القوة العسكرية لا يمكن أن تكون لها نتائج ناجحة في بلد شديد التعقيد مثل لبنان، وأن أسس السلم والتعايش مع إسرائيل لا بد أن تبدأ من تسوية القضية الفلسطينية. ونتيجة التعنت الإسرائيلي، عجزت إسرائيل عن درء موجة من التفجيرات الفدائية، وذلك نتيجة لعقيدة صهيونية جامدة ترى أن القوة العسكرية وحدها هى التي تعمل في الساحة الخارجية، وأن الطبيعة البشرية لا يمكن أن تتغير، ولن يتحقق السلام.ونتيجة لتلك التحركات العسكرية، عانت إسرائيل من تزايد تلك العمليات. فمناحم بيجن الذي دعا للسلام مع مصر 1979 هو ذاته الذي غزا لبنان 1982 . ورغم أنها أدت إلى إضعاف منظمة التحرير الفلسطينية، فإنها أدت لعدو أكثر قوة، هو حزب الله اللبناني.
يرى الكاتب أن فشل إسرائيل في تحقيق السلام لا يُعزى فقط للقادة العسكريين، ولكنه أيضا لفشل السياسات الإسرائيلية ذاتها، والتعنت الإسرائيلي، وأحيانا فشل التوقيت. ولا يمكن إنكار دور المستوطنين اليهود والنزعات الدينية المتشددة لدى بعضهم، الأمر الذي أدى إلى اغتيال إسحاق رابين قبل أن يتمكن من المضي قدما في التسوية مع الفلسطينيين .
ويتطرق تايلر أيضا إلي دور الإسرائيليين المولودين داخل إسرائيل والذين رآهم أكثر تشددا، ومنهم الجنرالات الذين يصرون على النزعة العسكرية، ويرون أن الدبلوماسية هي دليل على الضعف، وكذلك رجال الدولة الذين يعقدون معاهدات السلام مع جيرانهم من ناحية، ثم يقومون بعقد صفقات الأسلحة مع الولايات المتحدة الأمريكية من ناحية أخرى.

القادة الإسرائيليون ذوو الخلفية غير العسكرية وفرص السلام

على الرغم من أن الآباء الأوائل لإسرائيل لم يحصلوا على مناصب عسكرية حتى قيام إسرائيل، فإنه منذ عام 1970 يمكن اعتبار كل رؤساء وزراء إسرائيل من المحاربين القدامى في ميليشيات ما قبل نشأة إسرائيل، باستثناء شيمون بيريز، وإيهود أولمرت. ولكن حتى هؤلاء القادة، من ذوي الخلفية غير العسكرية، لجأوا إلى الأسلوب العسكري من أجل تحقيق السلام لشعبهم كما هو في اعتقادهم. فشيمون بيريز دخل عملية عناقيد الغضب 1996 ، الأمر الذي أسفر عن مقتل العديد من المدنيين الفلسطينيين في لبنان لوقف التفجيرات الانتحارية ضد إسرائيل، وهو الذي تفاوض مع فرنسا لتشغيل المفاعل النووي لإسرائيل، وكذلك هاجم أولمرت لبنان مرة أخري 2006 وغزة 2008 ، مما أدى إلى مقتل الآلاف، وتدمير العديد من الممتلكات. أما أرييل شارون، فقد قدمه تايلر، كونه رجلا دمويا وعدوانيا، وكانت له دوافع خفية وراء عدوانيته، ولكنه قام بتفكيك بعض المستوطنات، عندما رأت القيادة العسكرية مصلحة في ذلك .
ورسم الكتاب خطوط العلاقة بين إسرائيل ورؤساء الولايات المتحدة التي كانت داعمة في أغلبيتها للسياسة الإسرائيلية، خاصة إدارة بوش الابن الذي أدى صمته عن الانتهاكات الإسرائيلية إلي التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، ولكن فقط في عهد أيزنهاور الذي استطاع إجبار إسرائيل على الانسحاب من سيناء 1956 ، وكذلك الرئيس بوش الأب الذي حجب عن إسرائيل ضمانات القروض، وتم استبعادها من حرب الخليج 1991 ، ووقف بشدة في وجه إسرائيل .

يخلص الكتاب في النهاية إلى أن النزعة العسكرية والقوة الصلبة أهم ما يميز السياسة الدفاعية الإسرائيلية، في ظل معتقدات صهيونية غير قابلة للمساومة، مع عدم قدرة إسرائيل على التعامل دبلوماسيا لحل قضايا تهدد الأمن القومي الإسرائيلي، كما هو الحال في إيران وغزة وسوريا، وهذه القضايا يصعب التعامل معها عسكريا، خاصة التعامل مع البرنامج النووي الإيراني، وتعجز إسرائيل عن حل تلك القضايا، نتيجة تركيزها على الأبعاد الصلبة في سياستها الخارجية .

*مراسل صحيفة نيويورك تايمز السابق
*معيدة بقسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة

مجلة " السياسة الدولية" (تصدر عن مؤسسة الأهرام المصرية)