الصين وعودة الانخراط الأميركي في الشرق الأوسط
تبرز الصين اليوم لاعباً مركزياً في الشرق الأوسط من خلال الاستثمارات المباشِرة والشراكات والتجارة والتنمية. ومع ذلك، حتى الآن، لا يبدو أن الصين ستتدخل عسكرياً، أو تسعى لأن تكون لها بصمة أمنية في المنطقة.
ترتبط استراتيجية الرئيس جو بايدن في الشرق الأوسط بسلوك الصين في المنطقة، وقدرة الحلفاء على الاضطلاع بالعبء الأمني وأداء دور المُوازن الداخلي، على أن تكون الولايات المتحدة هي المُوازن الخارجي (القيادة من الخلف)، والذي يتدخّل فقط في حال فشل الحلفاء، الأمر الذي يؤدي إلى ظهور قوة مهيمنة في المنطقة. بناءً عليه، فإن السياسة الأميركية المستقبلية في الشرق الأوسط ترتبط بما سيكون عليه السلوك الصيني في المنطقة، وهناك سيناريوهان:
1- السيناريو الأول: تحافظ الصين على استراتيجيتها الحالية في الشرق الأوسط، أي الانخراط اقتصادياً وتنموياً من دون تحدي نفوذ الولايات المتحدة.
2- السيناريو الثاني: تندفع الصين إلى أدوار أمنية، وتسعى للهيمنة على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
كيف تتصرّف الولايات المتحدة بشأن كل من هذين السيناريوهين؟
1- السيناريو الأول: تحافظ الصين على استراتيجيتها الحالية في الشرق الأوسط، أي الانخراط اقتصادياً وتنموياً من دون تحدّي نفوذ الولايات المتحدة.
أدى إعلان الصين مبادرة الحزام والطريق في عام 2013 إلى تغيير النهج الصيني تجاه الشرق الأوسط. وصفت الورقة البيضاء الصينية، بعنوان “ورقة سياسة الصين العربية”، الرؤية الصينية للمنطقة على أساس “نمط تعاون 1 + 2 + 3″، بحيث يمثّل الرقم (1) الطاقة كمصلحة أساسية، ويمثّل الرقم (2) البنى التحتية والتجارة والاستثمار، ويمثّل الرقم (3) الطاقة النووية والأقمار الاصطناعية ومصادر الطاقة الجديدة.
يبدو واضحاً من قراءة الورقة أن الصين تميل إلى تعزيز الاستقرار في المنطقة من خلال “السلام التنموي”، بدلاً من الفكرة الغربية القائمة على “السلام الديمقراطي”؛ أي التدخل لفرض القيم الليبرالية والديمقراطية.
وجاء في ورقة سياسة الصين العربية “التعاون في مجال السلم والأمن”، إشارة إلى التعاون العسكري والتدريبات العسكرية المشتركة، والتعاون في مكافحة الإرهاب، من خلال “إجراءات شاملة لمعالجة أعراض الإرهاب وأسبابه الجذرية…”. كما تتناول الورقة التهديدات الأمنية غير التقليدية، بحيث تتعهّد الصين “دعم جهود المجتمع الدولي لمكافحة القرصنة، ومواصلة إرسال السفن الحربية إلى خليج عدن والمياه قبالة الصومال من أجل المحافظة على الأمن البحري الدولي، والتعاون في مجال الأمن السيبراني”.
في العقد الماضي، عزَّزت الصين، بصورة كبيرة، شراكتها، اقتصادياً وسياسياً وتجارياً، مع عدد من دول المنطقة، وخصوصاً في منطقة الخليج. وتبرز الصين اليوم لاعباً مركزياً من خلال الاستثمارات المباشِرة والشراكات والتجارة والتنمية. ومع ذلك، حتى الآن، لا يبدو أن الصين ستتدخل عسكرياً، أو تسعى لأن تكون لها بصمة أمنية في المنطقة، كما فعلت في القرن الأفريقي.
في هذا السيناريو الأول، يمكن للولايات المتحدة أن تحافظ على استراتيجية “المُوازن الخارجي”، أي الانكفاء وتوجيه القوات إلى مناطق أخرى من أجل احتواء الصين وروسيا، مع الأخذ في الاعتبار الدروس المستفادة من استراتيجية أوباما (القيادة من الخلف)، والتي فشلت سابقاً، فيقوم بايدن بتقسيم العمل بين الحلفاء، وبالتالي إعطاء كل دولة ما يمكنها القيام به في المنطقة (راجع سلسلة مقالاتنا في الميادين بشأن الموضوع).
2- السيناريو الثاني: تندفع الصين إلى أدوار أمنية، وتسعى للهيمنة على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا:
حالياً، لا تهدّد الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية للصين في الشرق الأوسط، بصورة مباشِرة، أيَّ مصالح حيوية للولايات المتحدة. ومع ذلك، قد يعاود الشرق الأوسط الظهور ميداناً للتنافس بين القوى العظمى، مرةً أخرى.
بعد فترة وجيزة من إعلان إدارة أوباما استراتيجية “التوجُّه نحو آسيا” عام 2011، أعلنت الصين سياسة “الزحف غرباً”، وشدّدت الأوراق البيضاء الصينية بشأن الدفاع، والصادرة عام 2013، على الحاجة إلى تطوير “الأسطول البحري” من أجل “الدفاع عن البحر القريب، وحماية البحار البعيدة”. ويساهم إنشاء الصين قاعدةً عسكرية خارج حدودها، لأول مرة، في جيبوتي، فضلاً عن عسكرة ميناء جوادر الباكستاني، في نمو الوجود العسكري للصين بالقرب من الممرات البحرية المهمة ومضيق هرمز وباب المندب.
ومع اتساع انخراط الصين في الشرق الأوسط، اقتصادياً ودبلوماسياً، يبدو أن التعاون الأمني مرشح لمزيد من التطور. ويشير إعلان الصين في آب/أغسطس 2019، بشأن احتمال مشاركتها في تحالف أمني بحري خليجي، إلى بداية التفكير الصيني في مستوى أعمق من المشاركة العسكرية في الشرق الأوسط.
على الرَّغم من ذلك، فإنّ منطقة الشرق الأوسط لا تزال هامشية نسبيّاً لأولويات السياسة الخارجية للصين. لكنّ هناك نقاشاً آخذاً في الاتّساع داخل الصين بشأن ما إذا كان عليها الانخراط بصورة أوسع في المنطقة، من أجل حماية المصالح الاقتصادية الصينية.
في المقابل، وبعد أن أعربت الولايات المتحدة عن رغبتها في تخفيف انخراطها في الشرق الأوسط، وأن على الحلفاء القيام بحماية أنفسهم، قد يسعى عدد من الدول في الشرق الأوسط إلى تحالفات استراتيجية مع الصين.
وهكذا، قد تجد الصين من مصلحتها أن تبدّل استراتيجيتها في الشرق الأوسط، نظراً إلى الأسباب التالية:
1- بالنظر إلى النفوذ الأميركي في الخليج، قد تغيّر بكين سياساتها الأمنية في المنطقة، إذا حاولت واشنطن عرقلة تدفُّق النفط إلى الصين.
2- إذا تعرّض أمن الطاقة الصيني، أو ممرّات الملاحة الحيوية التي تستخدمها الصين، للتهديد، فقد تُضطر الصين إلى توسيع وجودها البحري العسكري في المحيط الهندي.
3- قد تجد الصين أن من المفيد دفعَ الأمور إلى الأمام؛ أي السعي لنقل ساحة المنافسة مع الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط وأفريقيا، من أجل تجنُّب المنافسة الاستراتيجية في جوارها الإقليمي المباشر.
بناءً عليه، فإن توسُّع النفوذ الصيني في الشرق الأوسط سيُعَدُّ تحدياً للهيمنة الأميركية، وقد يدفع الولايات المتحدة إلى العودة إلى المشاركة العسكرية الفعّالة والانخراط بصورة أكبر في المنطقة، فتُعيد جنودها إليها، كما فعلت عام 2014، حين أعاد أوباما الجيش الأميركي إلى العراق، تحت عنوان “التحالف الدولي لقتال داعش”، بعد أن كان سحب الجنود الأميركيين عام 2011. وهذا يعني أن الانكفاء الأميركي في الشرق الأوسط، قد لا يستمر، وقد تتغير السياسات الأميركية وفق تغيُّر الظروف الاستراتيجية في المنطقة.
الميادين نت