الانتحار بين دمار الذات وهزيمة المجتمع
«أتمنى أن تنتهي حياتي اليوم قبل الغد».عبارة يردّدها الرجل الأربعيني فوزي يومياً على مسامع عائلته، فهو يقود سيارة أجرة طوال النهار ليستطيع تأمين لقمة العيش لعائلته المؤلفة من زوجة وثلاثة أولاد فضلاً عن والديه العاجزين.
فوزي لم يعد قادراً على الاحتمال كما يقول، لأنّه يشعر بالاستسلام أمام الواقع الاقتصادي والاجتماعي الأليم الذي يعيشه، إذ يحاول جاهداً أن يؤمّن ما تحتاجه عائلته لكنّه مقصّر دائماً، ويحمّل نفسه مسؤولية تدهور صحّة والديه بسبب عدم قدرته على تأمين الدواء. لكن كلّ ما عبّر عنه فوزي لم تعره أسرته الاهتمام، باعتبار أنّه يعبّر عن غضبه لا أكثر. لكن حين وجدت سيارته مصدومة بحائط الطريق عمداً وهو شبه ميت صُدم الجميع على رغم أنّ ميوله الانتحارية كانت واضحة منذ فترة، حيث حاول أيضاً تناول كميات كبيرة من الحبوب المنوّمة «لإيقاف عقله عن التفكير» كما قال.
نجا فوزي من الموت لكن حالته الاقتصادية لم تتحسّن، وهو لا يتمنى إلا لو كان مات في الحادث الذي تسبّب به لنفسه لأنّه يفتقد إلى حلول، والإجهاد الذي يعيشه بات يتحكّم بتفاصيل حياته كلها.
وإذا كانت حياة جديدة كُتبت لهذا الأب، فغيره لم ينجُ من شبح الانتحار وقد تــــرك وراءه عائلة تتحسّر عليه وتتمنى لــــو عرفت بالميل إلى الانتحار أو لاحظت أي أمر قبل بلوغ هذه الخاتمة الحزينة.
وهذه القضية لم تعد بسيطة، فوفق تقرير صادر عن منظّمة الصحة العالمية العــــام الماضي، ينتحر شخص واحد في لبــــنان كلّ ثلاثة أيام ما يظهر مدى تفاقم هـــذه الظاهرة التي تتداخل فيها عوامل اقتصــادية، اجتماعية ونفسية كثيرة. وخلال الفترة الأخيرة، كان لافتاً تسارع أخبار الانتحار الواردة من مختلف المناطق اللبنانية، في وقت تمكّنت قوى الأمن الداخلي من إنقاذ حالات عدة بعد أن وردتها اتصالات للتبليغ عن وجود شخص يحاول الانتحار عن صخرة الروشة، وآخر قطع شرايين يديه في منزله حيث أنقذ في اللحظات الأخيرة.
وفي معظم الحالات، تعزى حالة الانتحار إلى أسباب شخصية واضطرابات نفسية تولّد ميولاً انتحارية. لكن هل يكون الدمار النفسي الذي يعيشه الشخص ناتجاً عن أسباب ذاتية فقط، وبالتالي لا يمكن ربطه بما يشهده لبنان أو أنّ في الأمر هزيمة للمجتمع الذي ينتمي إليه الفرد، حيث وجد نفسه وحيداً من دون أي دعم لتخطّي مشكلاته؟
افتقاد الشعور بالأمان والاستقرار
يشير تقرير منظمة الصحة العالمية إلى أنّ هناك أسباباً عدة تؤدي إلى الانتحار ومنها الاكتئاب، الإدمان على المخدرات والكحول، المعاناة من مرض الفصام، القلق الدائم، الإصابة بأمراض خطيرة إضافة إلى ضعف الروابط العائلية والتعرّض للاعتداءات الجنسية أو التعرّض لخسارة عاطفية أو مالية كبيرة. كما أنّ الحرب والظروف الأمنية السيئة من العوامل المحفّزة على الانتحار.
أمّا في لبنان، فترى المختصة في علم النفس لورا مراد أنّ هناك مؤشرات يمكن الاستناد إليها لملاحظة حالة الضيق التي يعيشها المواطنون من الناحية النفسية، فذلك يظهر واضحاً في زيادة أعداد الأشخاص الذين يتعاطون المهدئات والحبوب المنوّمة.
وتلفت مراد إلى الدراسة التي أجرتها جمعية «إدراك»، وبيّنت أنّ 25 في المئة من اللبنانيين يعانون من مشكلات نفسية و10 في المئة منهم فقط يتكلّمون عنها أمام أحد الأشخاص.
كمــا تضيـــف عاملي الإدمان على الكحول والمخدرات هرباً من الواقع، وبالتالي فإنّ الأشخاص الذين يُقدمون على الانتحـار ليسوا بالضرورة مرضى نفسيين وفق التفسير الطبي للموضوع، بل يمكن أن يكونوا أشخاصاً يعانون من ضيق شديد ويفتقدون إلى شعور بالأمان والاستقرار.
أمّا عن نكران الأهل والأصدقاء عادة أنّهم لاحظوا أي ميول انتحارية عند الشخص الذي أقدم عليه، تلفت مراد إلى «أنّنا كأفراد في المجتمع اللبناني لم نعتد ملاحظة التغيّرات النفسية ومراقبتها والبحث عن الحلول عبر اللجوء إلى طبيب نفسي أو معالج مختص، بل نسعى إلى الهروب دائماً من هذه المشكلات لأنّها بمثابة عيب أو «تابو» يُفضّل عدم الحديث عنه. لذا فإنّ التطرّق إلى الموضوع بصراحة وطرحه كإشكالية وطنية تحتاج إلى حلول جذرية، يُعتبر هو الحل الأساس بدل التستر وراء أعذار واهية كالسقوط عن ارتفاع عالٍ أو التعرّض للقتل، فيما التقارير الأمنية تشير إلى حدوث حالة انتحار، وذلك في وقت أصبح فيه الانتحار لا يقتصر على فئة عمرية محدّدة، بل أنّ الأطفال حتّى معرّضون له».
وتوصّل «المسح الصحّي الشامل لتـلامذة المدارس» الذي أجرته وزارتا الصحــــة والتربية والتعليم العالي بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية عام 2012، إلى أنّ 60 في المئة من التلاميذ فكــــروا بالانتحار وحاول 13 في المئة منهــــم الانتحار فعلاً بسبب التعرّض للعنف والشعور بالوحدة والانعزال عن المجتمع.
صحيفة الحياة اللندنية