هل القلمون حربنا؟
كأننا لسنا في حرب. كأننا لسنا على أبواب حرب. كأننا لسنا على تماس مع حرب… أو، لعلنا في حرب مع وقف التنفيذ. والأخيرة، أشد تفاؤلاً.
حصتنا من الحروب الإقليمية الدائرة من حولنا، فائض من الكلام وفيض من المواقف. الفريقان اللبنانيان المتصارعان بالكلام، يجددان في تكرار كلام مضى ومواقف ماضية. منذ العام 2006، وتحديداً ما بعد عدوان تموز، والفريقان على تماس صدامي من دون أضرار حربية. أما الإصابات الجانبية، فقد طالت الدولة من رأسها حتى آخر ما تبقى منها.
وحصتنا من الحروب أن اللبنانيين يساهمون فيها عن بعد. لا فتحوا الطريق لنيرانها ولا حصل اشتعال. فضل الفريقان خوض الحرب كل على طريقته، في الملاعب الإقليمية. الاصطفاف السياسي الداخلي، يترجم في الخارج، باصطفاف قتالي، يصيب اللبنانيين هناك، من دون أن يصاب لبنان.
وحصتنا من الحروب تكريس وتظهير المذهبية. المسيحيون لا عسكر لديهم في دولهم التي هجروا منها. كانوا إما تحت الرعاية أو الحماية أو الولاية. وعند انفراط العقد السلطوي، باتوا في العراء، ثم هجر من تبقى منهم حياً بعد المجزرة إلى العراء العربي والدولي. والمسيحيون في لبنان لا عسكر لهم، ولا مشروع إقليمياً. ليس عندهم إلا رئاسة يبكون عليها، أو يتباكون، وهي آخر ما تبقى لهم بعد تضاؤلهم ديموغرافيا، وشحوبهم سياسياً، وتموضعهم في التناقض المذهبي، السني الشيعي.
وحصتنا من الحروب أننا لم نتفق على عدوّ، ولو كان على الأبواب يتسلل منها أو يهدد من خلالها، باجتياحات تكفيرية، يمكن أن تجعل بعض لبنان نسخة عن المذابح والتهجير التي تعرضت له مناطق الأقليات إن في العراق أو في الشام، أو تلك التي تفجرت الأرض من تحتهم، أكانوا سنة مشبوهين، أو شيعة رافضة.
وكأننا أئمة الانتظار وفلاسفة التوقيت المؤجل. لم يعد العدو كيانياً. صار عابراً للحدود. «القاعدة» منتشرة مشرقاً ومغرباً وفي العالم. «داعش» منتشر وموزع ويقاتل على الجبهات كلها. انه تعبير عن دولة الخلافة الجديدة، وتعبير عن الفتح الذي يتطلع إلى فك أسر إيطاليا من البابوية والكثلكة! و «النصرة» سليلة «القاعدة» وضرة «داعش»، باتت على التخوم الشرقية، تهدد لبنان ولا تحتاج إلى ذريعة لكي تتخطى الحدود. وحلفاء «النصرة» و «داعش» من الجهاديين السوريين، ليسوا أقل عداء للأقليات ولمن لا يقبل ولايتهم من السنة.
إنه عداء سافر ومعلن ومثبت. هذه الفرق «الجهادية» لا تنتمي إلى عراق أو شام أو… بل تنتمي إلى مشروع عقدي سياسي سلفي وهابي بن لادني زرقاوي، يتولى تنفيذه «أبوات» تدربوا على القتل والسفك وممارسة الفظائع.
القلمون ليست سورية فقط. الجغرافيا لم تعد أساس المعارك. الحدود سقطت بين العراق وسوريا. تساقطت بين سوريا وتركيا، خضعت وتهالكت بين الأردن وسوريا، وبين الأردن والعراق. وحده لبنان ما زالت حدوده محصنة، لأنه استطاع بسياساته الأمنية الجديدة، التي حظيت بوعي مستجد (داخلياً وإقليمياً) بخطر التكفيريين وخلاياهم النائمة وقدرتهم على التسلل بالسيارات المفخخة والتفجيرات غير العشوائية، أن تحصن الداخل. العين الأمنية الساهرة، وفرت، بعد اتفاق الضرورة، تطهير طرابلس من عنف تسرب إليها ومنها، ونزع فتيل التفجير بين التبانة وجبل محسن، كما استطاعت أن تستبق حرب السيارات المفخخة عبر القبض على رؤوسها في الداخل وإقفال معابرها مع الخارج.
الكلام عن تفرد «حزب الله» في المواجهات في القلمون، وعن وحدانية قرار السلم والحرب، وعن خرق السيادة، وعن التفرد بالقرار، وعن التداعيات المذهبية في الداخل، وعن الجيش، باعتباره الوحيد المخوّل بالدفاع عن الحدود وعن الأراضي اللبنانية، لا يمكن أخذه بعين الاعتبار، إلا من ناحية المبدأ.. وقليلا. فالعراق، الذي بني له جيش عملاق، لم يصمد أمام جحافل «داعش». وعندما أعيد بناؤه وتم تدعيمه وتسليحه، طُعِّم بقوات شعبية، شيعية بالطبع، لوقف تمدد «داعش» واستعادة بعض المناطق.
بمعزل عمن يساعد الجيش العراقي، ثبت أنه لا يستطيع وحده القيام بهذه المهمة. ويقال عن الجيش السوري القول نفسه. ليس بمقدور قوات الجيش السوري مواجهة الجحافل الاجتياحية. فإلى جانب الجيش السوري، منظمات رديفة شعبية وأحزاب وقوى من الخارج السوري، لوقف الزحف الذي تقوده «النصرة» و «جيوش إسلامية» مدعومة خليجياً وتركياً ودولياً.
الجيش اللبناني وحده غير قادر على الانتشار على طول الحدود الشرقية، ولا على إحكام سيطرته عليها. «حزب الله» يقوم بدور مساند للجيش، ولكن فريقاً من اللبنانيين، برغم خوفه من «داعش» وعدائه له، ما زال يحسب بطريقة أخرى، تظهر أن عداءه لحرب «حزب الله» على التكفيريين، أقل من عدائه للحركات التكفيرية. ويبالغ هؤلاء عندما يضعون «حزب الله» و «القاعدة» و «داعش» في مرتبة التشابه.
ويتطرف البعض في الاجتهاد، محاولاً التفريق بين «داعش» و «النصرة»، فيما هما واحدان، أي واحد منقسم على نفسه. الخلاف بينهما، ولو بلغ حد الاقتتال والانتقام، هو خلاف داخل الفهم الواحد والبيت الواحد والنهج الواحد.
المعركة في القلمون تضع مصير لبنان كله على المحك: إما أن يبقى وإما أن يتفكك. انتصار «النصرة» ومن معها على «حزب الله» والجيش اللبناني، يفتح الطريق أمام سقوط لبنان الرسمي بساعات محدودة، ودخول اللبنانيين في حرب داخلية وحروب مذهبية، وفرار المعتدلين بلا رجعة.
تحميل «حزب الله» مسؤولية إقحام لبنان في الحرب السورية، مسألة تحتاج إلى نقاش واستيعاب، ولكن ليس وقتها الآن. فليكن الحساب بعد الوصول إلى البيدر. «حزب الله» يستبق، هكذا قيل. لعل من حقه ذلك. لأن ما سبق وقامت به «النصرة» وما أقدم عليه «داعش»، يشيّب الولدان ويطيِّر العقول. وقيل أيضاً، إنه لولا تدخل الحزب في سوريا، منذ ذريعة «الست زينب» والقرى اللبنانية المحاذية للحدود اللبنانية، لما تطلعت «النصرة» ولا فكر «داعش» بلبنان. إن ذلك ليبدو ظالماً الآن، وغير واقعي بالمرة.
قليل من الواقعية يحتاج إلى كثير من التبصر. اللبنانيون، لم يكونوا يوماً لبنانيين، عندما تندلع العواصف في الإقليم وفي العالم، هم إقليميون وعالميون. دفعوا ثمن جموحهم مراراً ولم يتعلموا، لأن ذلك من طبيعة تكوينهم وانتمائهم البشري ورسوهم في هويات ما قبل وطنية. واليوم، كما بالأمس، اللبنانيون موزعون على جبهات القتال تأييداً ومشاركة، وصولاً إلى اليمن، وبلوغاً إلى السعودية، في «عاصفة الحزم».
هذا هو لبنان.
إلا هذه المرة. الخطر وجودي لا سياسي. وهذا يستدعي الخروج من حال الانتظار الكيدي، تفادياً للانفجار الكبير.
صحيفة السفير اللبنانية