بورتريه| محمد ملص: سقف للقنيطرة
يقف «محمد ملص ـ 1945» اليوم بين خرابين ناظراً من شرفة بيته في حي الطلياني الدمشقي نحو مدينته القنيطرة؛ الخراب الأول كان الإسرائيلي قد تركه على هيئة جدران وأسقف متداعية لمدينة شهدت بيوتها وشوارعها ومعابدها أعتى فصول الانتقام البشري بعد اندحار العدوّ عنها في حرب التحرير عام 1973؛ أما الخراب الثاني؛ فيبدو خراباً طويل الأمد لحربٍ لا تزال تنتج نفسها بنفسها منذ أكثر من أربع سنوات.
هناك في الجولان يرنو صاحب «اليوم السـابع ـ 1972ـ معهد السينما» إلى ذكرياته التي كان يحسب أنها قد استقرت على حطام بناء « سينما الدنيا» الصالة التي شارك والده ببنائها في الشارع الرئيسي لمدينة القنيطرة القديمة: «أتذكر الآن كيف استطاع أبي أن يصنع لها سقفاً ملائماً كما هو حال صالات السينما مطلع خمسينيات القرن الفائت؛ منذ الطفولة كنتُ أحبُ أن أنتمي إلى عالم السينما؛ لكني لم أكن أعرف أن هذا الحب سيتطور إلى دراستها».
الرغبة التي كانت تعتري صاحب «أحلام المدينة ـ 1984ـ مؤسسة السينما» بالسفر إلى خارج البلاد، جعلتهُ يتقدم لامتحان بعثة الإخراج السينمائي وكان لا يزال مدرّساً في معهد المعلمين بعد دراسته لعلم الاجتماع بجامعة دمشق، وفعلاً تمكن وقتذاك من الحصول على منحة الإيفاد عام 1968 إلى الاتحاد السوفياتي السابق؛ ليدرس الشاب هناك في «معهد السينما ـ موسكو V. G .I K» متخرجاً منه عام 1974.
حكاية قصيرة لا تتطلب أحداثها كلاماً، كان هذا هو تمرينه، لتحقيق فيلمه الأول في الأكاديمية السوفياتية: «يومها كتبتُ قصة أدبية قصيرة بعنوان (حلم مدينة صغيرة) ، وحين قرأها المعلم (إيغور تالانكين) أُعجب بها، وأتاح لي الفرصة بأن أحمل الكاميرا للمرة الأولى في حياتي، فبعث بي مع زميلي الطالب مثلي في المعهد، المصور سمير جبر، إلى أماكن أحداث القصة في دمشق، لنصوّر الفيلم. يومها لمستُ وقبّلتُ (الصورة) قبلتي الأولى؛ وحين عدنا بالحكاية مصورة، وشاهد الـ (RUSH) أستاذ المونتاج الكبير (فـيلونوف) والذي كان واحداً من مؤسسي هذا المعهد… ابتسم العجوز الجليل وقال لي بصوت مجروح، ودمعة قد احتُبست في طرف عينيه: (لقد فاحت أمامي رائحة الــ (REALISM NEW). لم أكن أعرف يومها أني قد استخرجتُ من روحي تمريني الأول لما سأفعله في السينما في ما بعد».
تتداخل أربع أنواع من الذاكرة في الأعمال الأولى للمخرج السوري؛ فالأب الذي مات في الجامع في ذاكرة ملص الواقعية سنة 1949، يموت موتاً سينمائياً سنة 1967 في فيلم «الليل» وهو يشتم ويقاوم الإسرائيليين، حقيقة جوهرية لشريط يعيد صياغة المدينة وفق ذاكرة مشتهاة حقق لهذا الرجل (سينما المفقود)، وذلك عبر اللجوء إلى الذاكرة الشخصية لصياغة ذاكرة عامة، فالذاكرة الشخصية هنا بدت وقتها كركيزة أساسية لصياغة مشروع سينمائي سيصبح مرجعاً جمالياً لصاحب «باب المقام 2005 – دنيا فيلم ـ 98 دقيقة».
الذاكرة المفقودة
في السينما فقط اكتشف أبرز مخرجي موجة سينما المؤلف في بلاده؛ أن موت أبيه في المسجد لم يكن وقتها موتاً طبيعياً؛ بل من القهر الذي انتابه بعد حدوث الانقلاب العسكري الأول على يد حسني الزعيم عام 1949. هذا المشهد من فيلم «الليل ـ1992ـ مؤسسة السينما» كان فيلماً عن (الذاكرة المفقودة) كما يطيب له تسميتها؛ بعكس روايته «إعلانات عن مدينة ـ 1976ـ ابن رشد ـ بيروت» والتي أعاد «ملص» من خلالها بناء القنيطرة بالنص بالكلمة، أما السينما فأعادتها بالصورة: «كنتُ أحتاج إلى مدينتي التي لم يكن أمامي طريقة لاستعادتها إلا عبر السينما وهذا ما حدث في (الليل) حين أردتُ لهذا الأب أن يموت سنة 1967 حين احتل الإسرائيليون مدينة القنيطرة، لقد جعلته يموت في الذاكرة المشتهاة؛ أذكرُ هنا أن الجدار الذي هدمناه في فيلم الليل، كان الجدار الوحيد الذي دمّرناه من أجل السينما، لكننا لم ندمر مدينة بأكملها كما فعل الإسرائيليون».
«كل شيء على ما يرام سيدي الضابط ـ 30 دقيقة ـ 1974» كان أطروحة التخرج التي قدّمها (ملص) بشراكة في كتابة السيناريو مع رفيق الدراسة في « فغيك» الروائي صنع الله إبراهيم؛ وجنباً إلى جنب مع الراحلين شريف شاكر وفؤاد الراشد؛ رفاق الدراسة الذين مثّلوا مع «صنع الله» في فيلم تناول واقع المثقفين اليساريين في المعتقلات الناصرية ووقوع هزيمة 1967؛ سينما ملص التي لم تغفل بعدها حال معتقلي الرأي في بلاده؛ لا سيما في فيلمه «فوق الرمل تحت الشمس ـ 1998 ـ 30 دقيقة» الروائي القصير الذي سيعود إليه صاحب «محارم ـ 2008 ـ 30 دقيقة» مقتبساً منه مشاهدَ لفيلمه الأخير «سلّم إلى دمشق ـ 2013 ـ Appout Production» معيداً البكَرة بلغة آسرة إلى كابوس البلاد الماضي ـ الحاضر: «اليوم أخاف على سورية التي ربما نفقدها كل يوم؛ أو ربما فقدناها إلى الأبد؛ لا أحد يريد أن يتكلم عن ذلك؛ لا أحد…».
كلمات صاحب «حلب ـ مقامات المسرّة ـ 1998 ـ وثائقي ـ 50 دقيقة» تعيده إلى ذكرياته التي يحققها اليوم على شكل مفكرة مطوّلة عن مشوار العمر المضني؛ تحديداً تلك المشاريع التي لم يهدأ التفكير بها مع رفيق دربه الراحل عمر أميرالاي حيث يطلعنا (ملص) على بعض ما كتب في مفكرته عن هذه السينما المؤجلة والدور الذي ساهما به مع كل من نبيل المالح وسمير ذكرى وأسامة محمد في النادي السينمائي بدمشق: «كان لدينا إحساس عميق أنا وعمر بأننا سينمائيو (العين البصيرة واليد القصيرة). ربما كان لانفرادنا بصداقتنا وتمركز هذه الصداقة حول محورها الأساسي كسينمائيين في سوريا؛ في هذه الظروف الصعبة؛ وفي هذه الأجواء المخيفة، لم يكن يترك أمامنا خياراً آخر إلا أن نلتقي. فلعب هذا اللقاء اليومي دوراً عضوياً في تكثيف وتركيز وتأكيد ما كان يدور في داخلنا من أفكار. أعتقد أن تلك اللقاءات صاغتنا وصاغت تجربتنا. ولعلها هي التي حمتنا وقتها من الكثير من الأمراض التي كان من الممكن أن تولد في داخلنا في تلك المرحلة. فالواقع غدا بالخوف ضد نفسه، ربما يمضي ليكون عدوا لنفسه! لا فكاك من هذا أبداً». كنت أشعر بالحنين لماضٍ ما؛ بينما كان عمر يواجه الحنين بالرفض ويعتبره مرضاً تجب مقاومته. كنا نختلف حتى في تشريح هذا الحنين أو وصفه أو تفسيره. وحتى بأسباب الشعور به؛ فعلى الرغم من اتفاقنا على الغايات؛ كنتُ أحس باختلاف آليات التفكير؛ وفي النظرة للفن والتعبير».
المهد
في جعبة هذا الفنان العديد من الأشرطة السينمائية التي لم تحظ بفرصة العرض لعل أبرزها فيلمه «البحث عن عائدة ـ 1999 ـ روائي ـ 90 دقيقة» وهو مونودراما سينمائية عن فلسطين؛ كان قد حققه مع الممثلة التونسية جليلة بكار لمناسبة مرور خمسين سنة على النكبة؛ أما فيلمه «المهد 2007 ـ روائي ـ 120 دقيقة» فقد تم إخفاء نسخه بالكامل؛ لولا تسريب للشريط ساعد (ملص) على فرصة تقديم عروض خاصة به في كل من بيروت ودمشق؛ ففي «المهد» أعاد صاحب «فرات ـ 1980 ـ وثائقي ـ 32 ـ التلفزيــون الســوري» الزمن العربــي إلــى جدلية حساســة وصادمة من جهــة تطلعــها نحــو غــدٍ عربي لا يفتح أبوابه الموصدة على ممالكــه وعروشــه المنتفخة بالنفط وشــرعة المقدس والممنوع؛ نســأل ملص عن الجــوائز العديــدة التي نراها في خزانة خاصة أمامنا كان قد نــالها في العديد من المهرجانات الدوليــة والعربــية: أحبها إلى قلبي FAPA جائــزة اليونســكو في مهرجان كان ـ 1989 عن فيــلم (المنام)؛ وهذه جائزة (التانيت الذهبي) نلتــها فــي مهــرجان قرطاج ـ عام 1984 عن فيــلم (أحــلام المدينة) وتلك كما ترى النخــلة الذهــبية ـ فالنسيا ـ 1984 عن فيلم «الليل»؛ وهــذه جائــزة مهرجان جنيف ـ 2014 عن فيلم (سلّم إلى دمشق)».
لكن هل الجوائز فقط ما ناله صاحب «الذاكرة ـ 1975 ـ وثائقي ـ 13 دقيقة» من مشواره الطويل؛ أم أن هناك ندوبا لا تمحى، لا سيما الحادث الذي كاد يودي بحياته أثناء تصويره لفيلم (الليل)… «لقد أدهشني حين استخرجتُ بعض المعلومات الوثائقية، التي حدثت في الفترة التي أحوم حولها في مشروعي عن كتاب مفكرتي السينمائية؛ فوجدتُ أن الضربة الدماغية كانت قد حدثت لي في العاشر من تموز 1990، وإن الصحوة الأكثر وضوحاً في ذاكرتي بعد ثلاثة وعشرين يوماً حصلت في الثاني من آب 1990. أذكر وقتها أني استيقظتُ بعد فترات متباعدة من وعي متناوب، وفتحتُ الراديو المجاور لي كعادتي اليومية؛ فسمعت خبر اجتياح صدام حسين للكويت واحتلالها. فهمستُ لحظتها وهي ضربة دماغية ثانية! لأعود بعدها إلى الغيبوبة من جديد».
«المنام ـ مفكرة فيلم ـ الآداب بيروت ـ 1999» و «كتاب الليل ـ دار كنعان – 2003» و «الكل في مكانه سيدي الضابط ـ مفكرة فيلم ـ المدى ـ بيروت ـ 2003» و«مذاق البلح ـ رفوف ـ 2010»، جميعها كتب حققها ملص من تجربة فنية أنجز إلى جانب العديد من أفلامها، كتباً هي في الأصل قد تبدو على هيئة كتاب «الرسائل المتبادلة» بينه وبين الناقد فيصل دراج ـ (قيد النشر) لكنها في أحيانٍ كثيرة تبدو ليست مجرد «دفتر مذكرات» لم يغادره يوماً، قبل سفره إلى موسكو وأثناء إقامته فيها، وبعد انتهاء دراسته والعودة إلى دمشق، أو حتى في أسفاره التي شغل فيها مديراً للعديد من لجان التحكيم السينمائية الدولية؛ بل هي في هذه الكتابة الدائمة ربما تعكس رغبة دفينة لدى محمد ملص في ترجمة عمره الشخصي إلى أفلام.
صحيفة السفير اللبنانية