حين يصبح المستوطنون كتلة اجتماعية مقررة في الحياة السياسية

أبرزت الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، ظاهرة جديدة في الحياة السياسية في إسرائيل، لم يتم التنبه لها بالقدر الكافي، ولم تخضع حتى الآن، بتقديرنا، للدراسات المعمقة، لتبيان تأثيرها في الثقافة السياسية وفي تقاليد الحياة السياسية وآلياتها في دولة العدو. هذه الظاهرة تتمثل بالصوت الانتخابي للمستوطنين، ومدى قدرة هذا الصوت على المساهمة في تشكيل الكنيست الإسرائيلي، وبالتالي مدى قدرته على لعب دور مؤثر في الحياة الحزبية والسياسية في البلاد.

لسنا مطالبين بأن نبين موقع الاستيطان في المشروع الصهيوني. فهو روح المشروع وأساسه، وهو مبرر الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية وتبرير سياسة التوسع التي تقوم عليها الأطماع الإسرائيلية. وما زلنا نذكر المقولة الشهيرة لوزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشي دايان، حين أكد أهمية الاستيطان، لأنه يشكل الذريعة الرئيسية لإسرائيل لتبرير احتلالها للأرض بالقول إن مهمة الجنود هي حماية المستوطنين، وليست احتلال الأرض؛ ما يحرف الأمور ويحول مهمة الجنود، وفقاً لادعاءات دايان، من مهمة تقوم على التعدي على أرض الغير، والاستيلاء عليها بالقوة إلى مجرد مهمة دفاعية، هدفها حماية مستوطنين مدنيين من خطر الإرهاب الفلسطيني والعربي.

إذن الاستيطان هو عنوان التوسع والاحتلال الإسرائيلي أي هو عنوان العملية العدوانية اليومية الإسرائيلية على الأرض والحقوق الفلسطينية والعربية. وهو عنوان الانتهاك الإسرائيلي اليومي لقرارات الشرعية الدولية ومبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. وهو كذلك عنوان الانتهاك الإسرائيلي لسيادة الآخرين، من عرب وفلسطينيين. وبالتالي، مجموع هذه العناوين يجعل من المستوطنين، في حد ذاتهم حالة عدائية إسرائيلية مميزة. لذلك يتميز المستوطنون الإسرائيليون، في المطلق، بالانحياز إلى الأحزاب الإسرائيلية اليمينية، واليمينية المتطرفة وإلى الأحزاب الدينية المتشددة، ويتميز المستوطنون، بالمقابل، بضعف تأييدهم للوسط الصهيوني، وغياب تأييدهم ليسار الحركة الصهيونية، كذلك يتميزون بأنهم يشكلون بنية سياسية خصبة لإنتاج الشخصيات الإسرائيلية الأكثر تطرفاً في تاريخ الحركة الصهيونية المعاصرة، وإن حياتهم تتسم بمظاهر العسكرة، وحالة الاشتباك اليومي مع المواطنين الفلسطينيين، لأنهم يعرفون جيداً أن وجودهم على الأرض الفلسطينية المحتلة عام 67، هو عنوان الاحتلال، وهو عنوان الصراع اليومي على هوية الأرض وقوميتها. وصراع على صياغة سردية التاريخ وقراءته، وإعادة تقديمه بما يبرر الحالة القائمة على الاغتصاب والعدوان والتهويد والإسرلة. هذا يطال الأرض في أنحاء مختلفة من الضفة الفلسطينية، ومدناً بعينها كالخليل، والقدس، ومقدسات بعينها، كالأقصى، والحرم الإبراهيمي وسلسة واسعة، من الأماكن المقدسة المتنازع عليها بين المسلمين من جهة واليهود من جهة أخرى.

وإذا كانت الحركة الاستيطانية قد لعبت أدواراً سياسية مميزة في الحالة السياسية الإسرائيلية، فإن محطة العام 1977، حين سقط الحكم من يد حزب العمل إلى يد حزب الليكود، تشكل بداية مسار سياسي جديد، في حياة إسرائيل، يفقد فيه حزب العمل «وسط الحركة الصهيونية» موقعه القيادي في الحياة السياسية لصالح الليكود «اليمين الصهيوني»، وتقوم سياسته على أسس قومية صهيونية يهودية مغالية في التطرف، تغرف من الحشود الاستيطانية سياساتها وبرامجها، وتغذي، في الوقت نفسه، هذه الحشود، بالمزيد من المستوطنين القادمين من خلف البحار، ومن قلب إفريقيا، ومن أنحاء عديدة من الاتحاد السوفيتي.

ولعل التطور الثاني، الذي شكل محطة سياسية بارزة في الحياة الإسرائيلية هي ولادة حزب خاص بالمستوطنين، هو «البيت اليهودي» بزعامة نفتالي بينت؛ والذي احتل أقصى اليمين، في تنافس ساخن مع حزبين آخرين، ينازعانه النفوذ في أوساط المستوطنين هما الليكود (القومي الصهيوني) «وإسرائيل بيتنا» الممثل لليهود الروس بشكل رئيس.

وكان لافتاً للنظر في الانتخابات الأخيرة، إن شاس، ويهودوت هتواره، الحزبين المتدينين، حافظا على قاعدتيهما الانتخابية، لأسباب تتعلق بطبيعة هذه القاعدة وبنيتها الاجتماعية والثقافية والدينية، كما تتعلق ببرامج هذين الحزبين، ومدى حرصهما على صون هذه القاعدة الانتخابية من تأثيرات الأطراف الأخرى، من خلال سلسلة التقديمات التي يوفرانها للمتدينين في الميادين المختلفة. لكن كان لافتاً في الوقت نفسه أن الكتلة الانتخابية للمستوطنين (750 ألف مستوطن في الضفة والقدس) لعبت دوراً مميزاً، ربما للمرة الأولى في صياغة، المشهد الحزبي في الكنيست الإسرائيلي.

لقد نجحت اللائحة العربية المشتركة (على سبيل المثال) في التوحد انتخابياً، وفي توحيد قاعدتها العربية الفلسطينية. كما نجح حزب العمل في الوصول إلى قاعدته الانتخابية، وقطف أصواتها وفقاً لتقديرات مراكز التحليل واستطلاعات الرأي. والأمر ذاته ينطبق على ميريتس، الحزب الصهيوني اليساري المعروف.

الكتلة الانتخابية، التي شكلت، في الحقيقة وفي الساعات الأخيرة، قبل إقفال صناديق الانتخابات، مادة للنزاع السياسي، كانت كتلة المستوطنين. تنازع عليها أحزاب اليمين (الليكود) واليمين المتطرف (إسرائيل بيتنا والبيت اليهودي). هذه الكتلة هي التي صنعت لليكود نصره على حزب العمل. وهي التي منحت «البيت اليهودي» موقعه المتقدم في خارطة القوى اليمينة المتطرفة. وهي التي منحت افيغدور ليبرمان القدرة على المناورة، والذهاب إلى المعارضة بانتظار أن يقدم له نتنياهو عرضاً جديداً، يعود من خلاله إلى جنة الحكومة.

في هذا السياق، لا يمكننا أن نفصل بين نفوذ الكتلة الناخبة للمستوطنين، ودورها في رسم الخارطة الحزبية في الكنيست، وبين قرار نتنياهو تكليف وزير الداخلية سيلفان شالوم بملف المفاوضات مع الفلسطينيين. فشالوم يعتبر إحدى الشخصيات الإسرائيلية الأكثر تطرفاً لتوسيع الاستيطان بخاصة مدينة القدس، باعتبارها العاصمة الموحدة والأبدية لدولة إسرائيل. وهو من الشخصيات التي تعارض علناً «حل الدولتين» الأميركي، وقيام دولة فلسطينية (أياً كان شكلها ومساحتها ونظامها) إلى جانب دولة إسرائيل. وحتى عندما دعا نتنياهو، في خطابه الشهير في بار إيلان إلى «حل الدولتين» لم يتردد شالوم في معارضة رئيس حزبه، وانتقاده على مواقفه، ورفضه مبدأ الانسحاب من الضفة الفلسطينية، وتأكيده، على الموقف الليكودي الايديولوجي القائل بالتسمية اليهودية للضفة الفلسطينية (يهودا والسامرة) وللقدس (يروشلايم) ورفض مبدأ حق العودة للاجئين الفلسطينيين والدعوة لتوطينهم في أنحاء مختلفة من البلاد العربية. وإذا كان تكليف شالوم بملف المفاوضات (لإدامة تعطيلها وليس لإطلاقها وإنجاحها) وهو باكورة تحركات حكومة نتنياهو، فإن تصريحات هذا الأخير بشأن الاستيطان في القدس، حتى ولو أدى ذلك إلى الصدام مع الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي، تشكل إشارة جديدة إلى السياسة الإسرائيلية من جهة، وبشأن تغول المشاريع الاستيطانية من جهة أخرى. كما تشكل إشارة واضحة لمدى تأثير الصوت الاستيطاني على السياسة الإسرائيلية.

عندما يصبح المستوطنون، المسلحون بالإيديولوجيا والبنادق الرشاشة، كتلة اجتماعية مقررة في إسرائيل، فمعنى ذلك أننا أمام تحولات سياسية وإيديولوجية وثقافية واجتماعية، لا بد أن نتلمس قريباً تداعياتها، على الضفة الأخرى في صفوف الفلسطينيين. الأمر الذي يحتاج، هو الآخر، إلى دراسة مماثلة.

صحيفة المستقبل اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى