«مؤتمر القاهرة» وإطلاق الحل السياسي

شيء واحد يمكن فعله قد ينقذ السوريين. إنه شق طريق الحل السياسي على شكل أمواج متلاحقة. ويمكن فعل ذلك الآن، ابتداء من «مؤتمر القاهرة» القادر على تشكيل منصة إطلاق أولية لهذا المسار، برغم الاعتراضات الحادة التي سوف يخترعها أنصار الحرب المستفيدون منها بحجج مختلفة، أشقاها حجة إقصاء الإسلاميين.
الحل السياسي يعني أساساً إطلاق عملية تفاوضية إشكاليتها الرئيسة أنها غير محددة الأطراف تماماً، حيث لا خلاف على الطرف الأول، أي النظام وحلفاؤه، ولكن الطرف المقابل غير معلوم. ولنفترض أن التشكيلات السياسية المعارضة اجتمعت ووحدت رؤيتها حول مشروع الميثاق الوطني المطروح في القاهرة أو في أي مشروع آخر مشابه، وفاوضت النظام حوله وحول آليات المرحلة الانتقالية، يبقى السؤال الأهم هو التالي: من هو الذي سيلزم التشكيلات المسلحة المحاربة للنظام بالحل، خصوصاً تلك النائية بنفسها عن المشاريع العصرية التي تطرحها معظم قوى المعارضة المدنية؟
وهذا يعني أن كل نتيجة من نتائج التفاوض المفترض، إما ملغاة او مؤجلة لأمر الحرب الدائرة. هذه المسألة المحورية في أي عملية سياسية أو أي خريطة طريق يجب أن يبتدع لها المجتمعون في القاهرة حلّا، وإلا سيجدون أنفسهم في المربع الأول مجدداً، إن سنحت لهم فرصة الاجتماع ثانية، لا سيما أن حسم المعركة عسكرياً لمصلحة احد الطرفين لا يبدو مستبعداً فحسب، بل إنه إذا ما وقع قد يعني تغييراً جذرياً في كامل مشروع الميثاق الوطني المطروح في القاهرة لمصلحة الطرف المنتصر.
على ان الإجابة على السؤال الآنف ليست صعبة، لأن الحلفاء الداعمين لأطراف الحرب في المنطقة والعالم معروفون وقادرون على فرض الرؤية التي يتفقون عليها لحل الأزمة السورية. من هنا، تنبع أهمية التنسيق والتفاوض مع دول الإقليم أولاً ثم الدول الكبرى لفرض قبول الحل السياسي المتفق عليه على الأطراف المسلحة، انطلاقاً من فكرة أساسية في العالم السياسي المعاصر، وهي أننا نعيش في عصر تحالفات إقليمية عابرة للحدود، ربطاً بما يفرضه الصراع الرهيب على الموارد والأسواق وغير ذلك مما تنتجه آليات الرأسمالية العالمية.
لذلك، فإن الإقلاع العملي لتطبيق مواد مشروع الميثاق، المتعلقة بمحيط سوريا الإقليمي والعربي والدولي (المواد 13 و15 و16) وبعلاقتها بدول العالم، تبدأ من الحوار مع الدول الفاعلة حول آليات إطلاق العملية التفاوضية لإيقاف الحرب والبدء بالحل السياسي، وتقديم الذات السورية الحضارية والسياسية كما هي موضحة في مشروع الميثاق. لا بد إذاً من بدء التعامل مع دول الإقليم كشركاء مستقبليين وفق الرؤية المطروحة في مشروع الميثاق لدولة مدنية ديموقراطية عصرية قوية، وليس كتابعين ضعفاء.
ويبرز في مسألة التفاوض والحوار والتنسيق مع الخارج دور مهم ومؤثر يجب أن تلعبه الجالية السورية التي باتت ضخمة في بلدان المهجر، وفي مقدمتها البلدان مبتلة الأيدي حتى الأعناق بالأزمة السورية، إذ يفترض ألا تتوقف عن أي شكل من أشكال الضغط المتاحة حيث تقيم، لأن بقاء المسألة السورية حية وصاخبة، يحميها من الذبول في الأدراج ومن الاعتياد على سماع أخبارها كما لو كانت واحدة من نشرات الطقس، ويتيح لها الاستفادة من ثقل التأثير السياسي للعامل الاجتماعي في البلدان الديموقراطية.
ولكي يتمكن السوريون من جعل مؤتمر القاهرة أو غيره فعالاً ومجدياً، ويمكن له أن يقدم شيئاً على الأرض، لا بد من سلوك طريقين متوازيين: التنسيق الإقليمي والدولي في الخارج، وإعادة الفاعلية للعمل داخل الوطن السوري في جميع المناطق، سواء تلك التي لا تزال تحت سيطرة النظام أو التي خرجت عن سيطرته.
ففي المناطق التي لا تزال تحت سيطرة النظام، لا بد من إعادة الحياة لخيارات الحل السياسي عند الموالين للنظام، سواء من البعثيين أو من المنتمين إلى الأحزاب والتيارات الأخرى المتحالفة معه. علماً أن تقديم تنازلات لمصلحة الحل السياسي لا تستوجب تقديم تنازلات عسكرية، حيث أنه أمر مستحيل ما لم يكن جزءاً من اتفاق متكامل لوقف إطلاق النار. إنما المطلوب خلق فضاء اجتماعي ضاغط يتطلع إلى إنهاء الأزمة والانتقال إلى بناء وطن يحمي مواطنيه ولا يميز بينهم، انطلاقاً من عملية سياسية متكاملة، تستفيد من دور المعارضين او بقايا المعارضين المقيمين في هذه المناطق على اختلاف توجهاتهم وآرائهم.
أما في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، فإن كان ثمة مجال لحراك سياسي ما، فينبغي التعامل معه بكل جــدية من قبل المؤتمرين في الــــقاهرة، وذلك بطرق مباشرة من خلال الاتصال والتنسيق مع الأفراد والمجموعات العاملة في الشؤون السياسية والإغـــاثية، وبطرق غير مباشرة من خلال وسائل الاعلام المتابعة في المناطق الخارجة عن سيـطرة النظام.
ومن الأهمية بمكان اختراع أساليـب لاختراق الجدران الرهيبة التي تقيمها وسائل الاعلام المختلفة والتي تحاصر من خلالها المواطن السوري أياً كان موقعه، حصاراً لا يعود يرى معه إلا حدثاً واحداً ورؤية واحدة هو حدثها ورؤيتها، أي أنه حصار معرفي خانق يقود المواطن إلى الوقوع صاغراً فيما هو مرسوم له من مأساته، حيث لا يتفاعل كل جزء من المواطنين إلا مع قنوات إعلامية محددة، تقدم له ما يناسب الرؤية المعرفية والنفسية التي ساهمت هي ذاتها في تشكيلها.
سيكون وهماً الاعتقاد أن العمل السياسي في الداخل يمكن أن يكون أكثر من رديف للعمل الخارجي، على أن وزنه في غاية الأهمية مهما صغر، لأن رمزيته كبيرة، وهي نابعة من صعوبة وخطورة العمل السياسي في أجواء الحرب.
يمكن للسوريين، في الخارج أو في الداخل، إن أعادوا حقن جسد الطروحات السياسية بالدماء المناسبة، وهو ما يحسب لـ «مؤتمر القاهرة»، أن يدفعوا قاطرة الحل السوري إلى العمل مجدداً.
صحيفة السفير اللبنانية



