محمد جعفر: وطأة الزمن الأخير
ماذا نفعل عندما ينقضي العمر؟ يحيط الروائي الجزائري محمد جعفر بهذا السؤال، بعد أن يستحضر سيرة الرسام الجزائري محمد راسم، بطل روايته «أبكر قليلاً من الموت» الصادرة حديثاً عن «منشورات الاختلاف» في الجزائر و«منشورات ضفاف» في لبنان. يقودنا إلى محاولة اكتشاف إجابة محتملة عنه، مزاوجاً بين السيرة الذاتية والتخييل. يأخذ المنحى التجريبي في هذه الرواية مداه، عبر تسع رسائل تتخلّل المتن. هنا، يكاتب محمد راسم أشخاصاً مختلفين جمعه بهم الزمن والمكان في فترات متباعدة من مراحل حياته، وشكلوا جزءاً من تاريخه الشخصي والفني.
نجد صوت الراوي ــــ المحايد مرة الذي يتماهى مع البطل في مرات أخرى ــــ في هذه الرواية يسرد يوميات الأشهر الأخيرة من حياة الفنان الجزائري الأشهر. تلي كل فصل رسالة يكتبها لأحدهم، عن حياته الماضية، عن شجون تفتك به، عن المعنى الذي يفتقده للحظة الراهنة، عندما يصبح كل العمر ماضياً والحاضر فارغاً وخاوياً ومؤلماً. تتضمن فصول الرواية والرسائل التي كان راسم يبعث بها لآخرين، من أمثال الفنانة باية، ومحمد خدة، والوزير والكاتب في سنوات السبعينيات من القرن المنصرم أحمد طالب الإبراهيمي وغيرهم، محاورات وذكريات وأحاديث أبعد ما تكون عن الذاتي والشخصي، بل تشتبك مع الواقع آنذاك، وتكشف شيئاً من هموم المبدعين في تلك الفترة الممتدة ممّا قبل ثورة التحرير لغاية منتصف العقد الثاني بعد استقلال الجزائر.
كان الموقف الوحيد المقبول من المثقف والمبدع، هو التحيّز الشديد للسلطة وخياراتها من دون مواربة، لتسقط الحرية بوصفها شرطاً للإبداع، وقبل ذلك صعوبة الفصل بين فرنسا الاستعمارية المجرمة وبين فرنسا الآداب والفنون والحضارة، والخلافات التي نشأت بين النخبويّين نتيجة تباين وجهات النظر حول ذلك، عن أخلاقية العنف الثوري كأداة للتحرير، وبعد الاستقلال، عن أولوية الدولة عن المجتمع.
يستبطن الروائي محمد جعفر شخصية راسم باقتدار، يعكس مخاوفها ويأسها ونظرتها الأخيرة للبشر والوقائع والأشياء والكلمات، ويبيّن كيف يجعل الزمن المرء ــ وهو على أعتاب النهاية ــــ يسائل نفسه إلى أي مدى كان واعياً بذاته، ليعيش حياته منسجماً مع ذاته وقناعاته. لكن تلك القناعات التي تترسخ في عقله مع مرور السنوات والعقود، قد ينسفها حاصل العمر نسفاً لتبقى محض أوهام استند إليها وجوده الهش وينتهي دورها عندما نكون أمام الموت.
قبل شابة جميلة على الشيخ الفنان، فيستعيد عاطفة الحب التي كانت مخبوءة في مكان قصيّ في داخله. يكتشف مجدداً كيف أنّ الحياة جميلة ومبهرة على وقع البدايات. حركته مراقبَة، فالدولة الوطنية الموعودة تحولت بعد الاستقلال إلى سلطة قمع، تعتبر من لا يصفّقون للنهج الواحد، متآمرين يجب الحذر منهم، ليكون المخبر الذي يتبعه من قريب مثل الموت في أيامه الأخيرة. تمر عليه أوقات يعتقد فيها أن ذلك ليس سوى تخيلات تغذّيها الوحدة والخوف، وأنّ لا أحد يهتم له حقاً. ينتهي الأمر بموت مفجع للفنان محمد راسم ولن نعرف أبداً من كان له مصلحة في تغييبه وهو في زمن الأفول. نجد على امتداد الرواية شخصية الفنان المرهفة، المحبطة من أحلام لم تثمر شيئاً، وجانبها الإنساني الشفيف.
ويُعاد فيها طرح مفهوم الفن ووظيفته، والعلاقات الإنسانية، والحب والصداقة، والوطنية، والانتماء والهوية الممزقة لرجل قُدّر له أن يعيش عهد الجزائر الفرنسية، ثم عهد الدولة الوطنية الصاعدة لتوّها. لكنّ الأهم في اشتغال الروائي محمد جعفر، هو اللغة الرصينة والأسلوب الواثق، والاسترجاع ولعبة الأزمنة المتوازية بين رصد اليوميات الأخيرة وبين الرسائل التي يكتبها البطل، ووتيرة السرد التي تتناوب عليها السرعة والبطء، لتتوافق مع كل مرحلة عمرية عاشها راسم الواقف على ركام الحياة في مرورها الزاخر عليه في صورة ذكريات ومشاعر وأفكار قد لا تصطلح دوماً، لكنها بقيت تملأه وتتعايش بداخله منذ زمن طويل. يستعيد الشباب والمجد بكلمات قوية وباعتزاز جدير برجل موهوب عرفه العالم كلّه، ليس له ما يندم على ارتكابه حقاً. وعندما تلقي سنّه الطاعنة بظلالها على خطابه، يكون بطيئاً، متذمراً أحياناً وإن كان فيه الكثير من الحكمة وتقدير كل ما كان على النحو الصحيح. في سنوات الإنسان الأخيرة، تكون الحياة بطيئة رتيبة، ووحده الزمن يتسارع حتى يبلغ العمر منتهاه، ويكون الأمس هو كل شيء، اليوم مليء بالمخاوف، أما الغد فعلى الأغلب لن يتسع سوى لأحلام عمرها يومٌ أو بضعة أيام.