المتغيرات الاستراتيجية من أيار لبنان إلى أيار فلسطين
فتحت معركة “سيف القدس” بين المقاومة الفلسطينية والعدو البوابة الواسعة لانتصارات برنامج المقاومة في مواجهة العدو الصهيوني في المنطقة، فقد جاءت في الوقت الذي كانت تهرول بعض الدول العربية والإسلامية للتطبيع مع العدو بهدف تشكيل حلف في مواجهة القوى التي هزمت الكيان في عدة معارك بدءاً من دحره من جنوب لبنان وقطاع غزة، وصولاً لانتصارات حرب تموز 2006 ومعارك غزة الأربعة وآخرها “سيف القدس” التي حملت تغيرات استراتيجية هامة على مختلف المستويات السياسية والعسكرية والاستراتيجية.
ولم تكن هذه المعارك والانتصارات لتحدث لولا التراجع الكبير في السياسة التوسعية إثر انتصارات أيار/مايو وانسحاب الاحتلال من جنوب لبنان عام 2000، ومن قطاع غزة عام 2005، على وقع سلسلة طويلة من العمليات والضربات في هاتين المنطقتين، فهذا التراجع مكّن المقاومة من الانتقال إلى مرحلة جديدة من الصراع تمثلت بمراكمة القوة والاستعداد للمعارك التي أحدثت تحولات استراتيجية أكثر فاعلية.
الحروب والمعارك التي حدثت من حرب تموز/يوليو 2006 إلى “سيف القدس” كسرت هيبة “جيش” العدو بشكل حقيقي، وأزاحت الهالة الكبيرة حول قوة هذا الكيان، على عكس الصورة التي كان يروجها قادة العدو وبعض المنهزمين في الأمتين العربية والإسلامية، وبتنا نرى اليوم إيماناً شاملاً لدى غالبية الشرائح بأن التخلص من هذا العدو وتحرير فلسطين أمر واقعي قابل للحدوث في وقت قريب. وهذا الأمر يمثل تغيراً استراتيجياً في معركة الوعي كان يخشاه قادة العدو حيث انقلبت الصورة من اختراق الشارع العربي والإسلامي للقبول بالكيان كجزء من المنطقة إلى حالة وعي عارم يرفض هذا الكيان ويسعى للتخلص منه.
من الناحية الاستراتيجية، أدت المعارك والحروب بين المقاومة والعدو إلى تغيرات استراتيجية لدى جمهور المقاومة وأيضاً لدى جمهور الكيان الصهيوني، فالأول بات على قناعة بأنه يستطيع الوصول إلى أهدافه بالإصرار عليها، أما الثاني فبات قلقاً على مستقبله وبقائه في هذه الأرض، فهو يرى أن كل القوة العسكرية وكل البطش لا يجدي نفعاً ولا يغير من الواقع، إذ يوماً بعد يوم تزداد الأوضاع سوداوية وخطراً وجودياً.
وعلى المستوى السياسي، باتت الهزائم خلال الحروب الأخيرة للكيان المؤقت، وخاصة حربي 2014 و”سيف القدس” 2021، تطغى على التركيبة السياسية في الكيان التي أضحت أكثر تشرذماً على المستويين الحزبي والسياسي، وبات عدم الاستقرار الحكومي هو السمة الغالبة على الحكومة وتشكيلتها ومسارات تحركها.
سياسياً، بالنسبة للمقاومة، لقد عززت معركة “سيف القدس” برنامج المقاومة، البرنامج الأوحد الذي تنادي به الجماهير في المنطقة، بعد ثبوت فشل جميع البرامج الأخرى التطبيعية والتفاوضية مع العدو، فيما عززت من ترابط محور المقاومة وأزالت بغير رجعة الإشكاليات السابقة بين حركة حماس وبعض أطراف محور المقاومة على خلفية الأزمة السورية، وهذه النتيجة بحد ذاتها أغاظت العدو وفريق التطبيع والمفاوضات.
فيما أظهرت المعركة فشل إحدى سياسات العدو وأحد أهدافه الاستراتيجية في التعامل مع القضية الفلسطينية المتمثلة بالفصل بين الجبهات، إذ ترابطت الجبهات الفلسطينية في غزة والضفة والقدس والداخل المحتل في أراضي عام 1948، على عكس توقعات الاحتلال، ما عقد الأمر أمامه وأفشل سياسته الرامية للاستفراد بكل جبهة على حدة، ليتطور الأمر بدخول العدو في حالة من الاستنفار والاستنزاف الأمني والعسكري حتى يومنا هذا خشية تكرار ما حدث خلال معركة “سيف القدس”.
ومن أبرز النتائج أننا اليوم بتنا نرى ترابط الجبهات في معادلات قوية لبنان-القدس، وغزة- القدس، وغزة- جنين، وأراضي الـ48 – جنين، وأراضي الـ48 – القدس، وهذه المعادلات ما زالت قائمة وصداها وردات الفعل التي قد تصدر منها يحسب لها ألف حساب لدى صانع القرار الأمني والسياسي في الكيان.
عسكرياً، بات الأمر أكثر تعقيداً وتكبيلاً على مستوى القيادة والجنود، فهذه الحروب والضربات الكبيرة التي تلقاها “جيش” الاحتلال والشعور بالعجز أفقدته القدرة على المبادرة، وحوّلت استراتيجيته لتصبح دفاعية، على عكس النظرية الأمنية السابقة التي كانت تقوم على نقل المعركة إلى أرض العدو والحفاظ على العمق الاستراتيجي للكيان، فيما بات جنود العدو يخشون التجند في الوحدات القتالية ويتهربون منها عبر الالتحاق بالوحدات التكنولوجية خوفاً من المواجهة المباشرة.
لقد شكّلت معركة “سيف القدس” تتويجاً للمعارك والحروب السابقة بين المقاومتين الفلسطينية واللبنانية وبين العدو، وأحرزت تغيرات كبيرة على المستوى العسكري، فبرغم تطور قوة العدو العسكرية، يبقى تأثير القوة العسكرية التي تمتلكها المقاومة عظيماً على العدو، حتى تلك العمليات الفردية التي تستخدم فيها السكين.
ولعلّ أكبر خطورة على العدو نتيجة معركة “سيف القدس” تتمثل بعدم قدرة القوة العسكرية لـ”دولة” الاحتلال على تحقيق حسم أو صورة انتصار تعطي أملاً للجمهور والجنود في المجتمع الصهيوني، فبحسب أغلب تقديرات خبراء العدو الأمنيين والاستراتيجيين فإن جميع المعارك منذ 2006 وحتى معركة “سيف القدس” لم تحقق انتصاراً، بل كان أغلبها تعادلاً يميل إلى مصلحة المقاومة.
وهنا، يمكن تلخيص المشهد للمعارك والحروب بين المقاومة والعدو بأن الانسحاب من لبنان وغزة مثل مرحلة الانكماش وانتهاء سياسة التوسع، فيما جعلت حرب تموز عام 2006 “جيش” الاحتلال غير قادرٍ على القتال خارج حدوده، وأن حرب غزة عام 2014 كسرت رغبته في القتال والمبادرة للهجوم، أما معركة “سيف القدس” فكشفت سوءته بأنه لا يستطيع القتال في الداخل وعلى أكثر من جبهة.
الميادين نت