كريستا فولف تبحث عن ماضيها في «مدينة الملائكة»

تمضي كريستا فولف في «مدينة الملائكة» وحدها. لا يجد القارئ نفسه بقربها حتى نهاية هذا النص الطويل، الذي كتبته بعدما أقامت شهوراً في مدينة لوس أنجليس الأميركية، ما بين عامي 92 و 1993. يحار القارئ في النوع الأدبي الذي بين يديه. رواية. مذكرات. يوميات. «مونولوغ» صريح أم بوح مكتوم؟ وقد يشعر القارئ أنها تنوء تحت عبء تاريخ ألمانيا. ربما أرادت أن تصور، في نفسها، دراما أمة كبيرة نهضت وسقطت مرات كثيرة في القرن العشرين.

تفتح فولف في «الرواية» باباً واحداً نحو الماضي. حينما جاءت إلى الولايات المتحدة بمنحة دراسية من «المركز»، ابرزت لموظفي الهجرة جواز سفر من «دولة لم يعد لها وجود». كان كل الزملاء الدارسين «يودون معرفة شعور شخص غادر لتوه بلاداً سقطت». إنها بلادها، فالكاتبة الجليلة، هي ابنة «جمهورية ألمانيا الديموقراطية» التي رسم خطوطها جوكوف وروزفلت في ختام الحرب العالمية الثانية.

النص يجري وكأنه «يعالج موضوعات»، لا تجذب الاهتمام ظاهراً. ترى الكاتبة أن «ما من مكان أفضل من العالم الجديد لدراسة مجد اوروبا القديمة». فهم، الأميركيون، «مأخوذون بجمع كل شيء يتعلق بالقارة العجوز». ولذلك تبدأ بصيحات حشود الألمان الشرقيين في «ساحة ألكسندر بلاتس» في برلين، تتوسل «يا غوربي ساعدنا» (غرباتشوف)، وكيف وقفت لتخطب فيها، ثم «غابت عن الوعي». كأن فولف تريد من خلال «الحكي بدءاً من النهاية» التي عاشت أيامها في تلك الساحة، أن تصنع نصاً قابلاً لـ «الدراسة».

عقب الصيحات سوف يهدم «الجدار». إنه «يوم عيد … سيبقى إلى الأبد في كتب التاريخ». تصيح هي مطالبةً بأن «عليهم أن يرفعوا الراية البيضاء على مقر اللجنة المركزية للحزب الشيوعي». تعيد الكاتبة تنقية ذاكرتها، لأن «حالتي الشعورية لا تتوافق في كثير من الأحيان مع الأحداث التاريخية».

تعتقد فولف بأن «للذاكرة مسارات عدة. مسار المشاعر هو الأبقى والأكثر صدقاً. لماذا هو كذلك؟ هل يتم استخدامه في شكل أكثر إلحاحاً من أجل النجاة» من الماضي. تريد أن تساهم بالهدم. ترى أن «جزءاً من متعة الحكي هو بالأساس متعة الهدم التي تذكرني بمتعة الهدم في الفيزياء …».

ولكن عمّ ستحكي وتهدم؟. فـ «الموضوعات» التي تشغلها كثيرة جداً، امتدت طوال عمرها. من الانتماء للحزب، إلى الصراعات بين النخب، ودور اليهود الذي لا يغيب عن تفاصيل «الحكي»، قبل أن يصير جزءاً من «الزمن الجديد» في «ألمانيا العظيمة الغنية الحرة».

الخيط الذي يجمع شتات تلك «الموضوعات»، هو بحث فولف «عن نفسها» في نهاية العمر. تتساءل «لم لا أكتشف حقيقتي، لأتعرف على نفسي أكثر؟». يبدو أنها لم تعثر على السلام الداخلي، فهي تكتب أملاً بأن «أصل إلى مصالحة مع نفسي بالفعل. هناك كره للذات، وحب للنفس، وتعالٍ. وشعور ثاقب بالدونية».

تخفي رغبة فولف في التبرؤ من الماضي كآبة عمر كامل. فهي ولدت عام 1929. عاصرت صعود الدولة النازية. وحينما بلغت السابعة عشرة عانت من سقوط ألمانيا تحت نيران السوفيات والأميركيين، ثم تقسيمها.

عندما بلغت الستين من العمر وقفت مجدداً على أطلال وطنها «ألمانيا الديموقراطية». وأصبحت مواطنة في دولة ألمانيا الموحدة. تحلم فولف في «مدينة الملائكة» بالتخلص من عناء الماضي السابق، فتعلن سقوط «الدولة»، لأن أي دولة هي أداة تسلط»، وترى «الأيديولوجيا، وعياً مغلوطاً». من دون ذلك «نستمر في خـــداع أنفسنا».

بهذا النقد تبدو غير منحازة إلى «نموذج» أي إلى قــوقعـــــة. فـ«المرء لا يستطيع التعرف على النمـــوذج ما دام في داخله» سواء كان من الشرق أم من الغرب.

تعرض فولف مشكلات ألمانية بحتة. صارت كلها من الماضي. وقد يحتاج القارئ الى البحث في القاموس حتى يفهم الآن أن كلمة كولخوز تعني نوعاً من التعاونيات الفلاحية التي راجت في الاتحاد السوفياتي السابق. وقد يراجع بعض الكتب عن الصراع بين النازية والشيوعية ليستوعب بعض ابعاد الكتاب. وقد لا يرى أنه معني كثيراً في فهم إشكالات العلاقة بين ألمانيا الشرقية وروسيا. فهي لم تخبر أن «غوربي»، باع تلك «الألمانيا» إلى هلموت كول عام 1989.

لو أراد القارئ أن يعرف شيئاً عن إعدام يوليوس وأيتيل روزنبرغ اللذين «أرادا تغيير العالم نحو الأفضل»، لاختار مرجعاً آخر غير «مدينة الملائكة». لا تتحفظ فولف عن الإعجاب بكل تفصيل «رأته» في مقامها الأميركي. ذروة الانبهار كانت بوصف الاستخبارات الأميركية بأنها «جهاز أسطوري»، مع أنها كرست صفحات طويلة في انتقاد «الستازي» أي «جهاز أمن بلادها التي سقطت».

يخترق «مدينة الملائكة» مونولوغ سياسي عادي. يمكن أن تعثر على مثيله في تقارير الصحافة مطلع التسعينات. لم يعد القارئ العربي يهتم بتجسس «الستازي» على مواطني «ألمانيا الشرقية». فتلك أيام خالية. نسمع، ونقرأ في صحافة اليوم، عن تنصت الدول الغربية بعضها على بعض وعلينا. لا ذنب للكاتبة فهي «تحكي» عما عاشت وأدركت. حتى أنها حينما رأت مياه المحيط الهادئ من غرفتها في سانتا مونيكا، لم تتذكر سوى بحر البلطيق ومنتجع «فارنا» البلغاري على البحر الأسود. لكن بعض الحكمة التي تختم بها هذا الـ «مونولوغ»، قد يفاجئ بالتباسه. تقول : «لا خيار لنا بين الصواب والخطأ».

في «مدينة الملائكة» تبدو محنة الألمان في التعبير عن آلامهم مستمرة. كأن «الآثام الحقيقية التي تحدث بصمت» ما زالت تعيش معهم. لم يفارقني الشعور بأن الأديبة فولف، استعارت أدوات مهنتها لإدانة فترة من التاريخ الألماني الحديث.

صدرت ترجمة رواية مدينة الملائكة أو معطف الدكتور فرويد، للكاتبة الألمانية كريستا فولف، عن (منشورات الجمل، بيروت – بغداد، 2015). ترجمة نيفين فائق، الطبعة الأولى.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى