فلول «القاعدة» تترقّب الخليفة: همُّ ما بعد الظواهري يشْغل الجولاني
لم يُحدث إعلان الولايات المتحدة اغتيال زعيم تنظيم «القاعدة»، أيمن الظواهري، نهاية شهر تموز الماضي، ردود فعل كبيرة في الوسط «الجهادي» السوري، باستثناء بعض القادة والمقاتلين القدامى الذين يتبعون الجيل الأول، أو احتكّوا معه بشكل كبير، والذين بادروا بشكل منفرد إلى نعْي الرجل. وعلى رغم محدوديّة تلك الردود، إلّا أن خشية حقيقية تسري في أوساط الفرع السوري السابق للتنظيم إزاء الخليفة المحتمَل للظواهري، بالنظر إلى احتمال قيام الأخير بإعادة تحريك فلول «القاعدة»، ومزاحمة أبو محمد الجولاني على مناطق سيطرته، وإن كان هذا السيناريو يظلّ ضعيفاً، أخْذاً في الحسبان هشاشة تلك الفروع، ودخولها في سلسلة صراعات وتقلُّبات ما زالت مستمرّة
لم يغيّر أبو محمد الجولاني، زعيم «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً) عادته في استغلال التقلُّبات الحاصلة في الميادين «الجهادية» والسياسية وحتى العسكرية، لصالحه، إذ سارع، أخيراً، إلى استثمار الإعلان عن مقتل زعيم تنظيم «القاعدة»، أيمن الظواهري، في مشروع تغيير جلد الهيئة وتبييض صفحتها، والذي بدأه قبل ستّة أعوام من الآن، إثر انفكاكه عن التنظيم وتَصدُّره قيادة إدلب، كنتيجة لسلسلة من المعارك والتجاذبات الداخلية مع أطراف «جهادية» عدّة. وبينما التزمت «تحرير الشام» وزعيمها، ابتداءً، الصمت إزاء اغتيال الظواهري، خرج بعض القياديين فيها بنعَوَات خجولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفي بعض غرف الدردشة، فكان من بين المعزّين به عضو «مجلس الإفتاء الأعلى» ورئيس «المجلس الشرعي» في الهيئة عبد الرحيم عطون (أبو عبدالله الشامي)، والقيادي العسكري ميسر بن علي الجبوري (الهراري) المعروف بأبي ماريا القحطاني، والقيادي التونسي عبد الرحمن الإدريسي، قبل أن ينتشر بيان تعزية مزوَّر باسم «تحرير الشام» سارع الجولاني هذه المرّة إلى التفاعل معه ونفيه.
وبدأ الجولاني حياته «الجهادية» في سوريا بعد حصوله على دعم من تنظيم «داعش» الذي نشط في العراق آنذاك. لكنه سرعان ما استعان بـ«القاعدة» للانقلاب على زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي، ليتَحوّل إثر ذلك إلى زعيم الفرع السوري «القاعدي»، بعدما لم يكن معروفاً لقياديّي الصفّ الأمامي في التنظيم. إلّا أنه وبسبب عدم وثوق الظواهري وأولئك القياديين بقدرة الظواهري على قيادة المنطقة التي يسيطر عليها، خصوصاً أنه وبعد إعلانه الولاء لـ«القاعدة» تمكّن من تجنيد عدد كبير من المقاتلين، أرسل الظواهري إلى سوريا مجموعة من قادة الصفّ الأوّل، أبرزهم أبو الفرج المصري وأبو الخير المصري، بينما كشفت تصريحات عديدة لاحقة أن زعيم «القاعدة»، الذي ابتعد عن التواصل مع فروع التنظيم لأسباب قال إنها أمنية لفترات طويلة، أوْكل مهمّة إدارة الملفّ السوري إلى سيف العدل المصري، أحد المرشّحين حالياً لخلافته.
وفي عام 2017، دخَل الجولاني، بعد بضعة أشهر من إعلان انفكاكه عن «القاعدة»، في سلسلة صراعات داخلية، تبعتها عمليات تصفية تولّاها هو بشكل مباشر، أو عن طريق اغتيالات نفّذتها طائرات أميركية – بمعاونته – وأدّت إلى مقتل معظم قياديّي الصفّ الأوّل في التنظيم، ومن بينهم أبو الفرج المصري وأبو الخير المصري، وآخرون. وقد حاول أنصار «القاعدة»، المنشقّون عن الجولاني، إعادة إحياء فرع الجماعة في سوريا عبر تجارب عدّة، آخرها تنظيم «حراس الدين» الذي يقوده سمير حجازي، المعروف باسم أبو همام الشامي أو فاروق السوري، والقائد العسكري السابق لـ«جبهة النصرة»، والذي طاولت تنظيمه الوليد سلسلة استهدافات عبر طائرات «التحالف الدولي»، بالإضافة إلى اعتقالات وعمليات تضييق مستمرّة قادها الجولاني نفسه لإنهاء وجود الفصيل، وهو ما نجح في تنفيذه بشكل كبير.
وأمام المشهد «الجهادي» الحالي في سوريا، والذي يتصدّره الجولاني بعدما نجح في التخلُّص من معظم خصومه، سواءً البغدادي الذي اغتالته واشنطن في إدلب عام 2019، أو خليفته أبو إبراهيم القرشي الذي صَفَّته الولايات المتحدة أيضاً في إدلب في شهر آذار الماضي، بالإضافة إلى ضحايا سلسلة الاغتيالات التي نفّذتها طائرات أميركية ضدّ قيادات «القاعدة» في إدلب، لا تُخفي مصادر «جهادية»، تحدّثت إلى «الأخبار»، أن اسم خليفة الظواهري يثير قلق الجولاني الذي يخشى من انفلاتات أمنية في مناطق سيطرته، في وقت يسعى فيه إلى التمدّد نحو ريف حلب الشمالي، بعد أن تمكّن من توثيق علاقته بالأميركيين، وأصبح ذا حظوة كبيرة في تركيا التي تستثمر قبضته الأمنية على إدلب لتنفيذ مشاريع سكنية تستهدف إعادة توطين اللاجئين السوريين. ويدور في الأوساط «الجهادية» السورية، سواءً في غرف الدردشة أو عبر بعض مواقع التواصل الاجتماعي، الحديث عن سيناريوات عديدة محتملة لمصير «القاعدة» في سوريا، في ظلّ بروز احتمال تولّي سيف العدل المصري زعامة التنظيم، وهو السيناريو الذي لا يرغب فيه الجولاني، بالنظر إلى ما أَظهره الأوّل، خلال إدارته الملفّ السوري، من رغبة كبيرة في التخلُّص من الأخير، واستعادة نفوذ «القاعدة» وتوحيد صفوفها. ولا تستبعد المصادر «الجهادية» أن تكون الدعاية المعاكسة التي بدأت تنتشر ضدّ تسليم المصري قيادة التنظيم، بحجّة أنه موجود في إيران (وهو ما نفته طهران)، بتدبير من الجولاني الذي يملك ذراعاً إعلامية نشطة.
وبالإضافة إلى مخاوفه تلك، يخشى الجولاني أيضاً من تسليم الدفّة لشخصية تعيد تفعيل الهيكلية المركزية لـ«القاعدة»، بعد أن قام الظواهري خلال فترة قيادته بتغيير نظام الإدارة، حيث أفسح المجال لتعدُّد الفروع، وأعطى حرية كبيرة لقادتها لإدارة مناطق نفوذهم، وهو الامتياز الذي ارتكز عليه الجولاني للتضييق على الفرع السوري، ما يعني في حال تَغيّر تلك السياسة أن مواجهته لن تكون هذه المرّة مع الفرع، وإنّما مع التنظيم كاملاً، وهو ما سيسبّب له ضربة داخلية جديدة سيكون تأثيرها أكبر بكثير من تأثير انفكاكه وما تبعه من انشقاقات. وعلى رغم هذه الهواجس، تشير المعطيات الميدانية في سوريا إلى أن محاولات إعادة إحياء «القاعدة» ستكون بالغة الصعوبة، وذلك بسبب القبضة الأمنية التي يفرضها الجولاني على مناطق نفوذه، وتَواصله الذي بات شبه علني مع القوات الأميركية، بالإضافة إلى الوجود التركي المباشر على الأرض في إدلب، الأمر الذي يعني مواجهات على جبهات عديدة سيخوضها التنظيم في حال قرّر النشاط بشكل علني، أو حاول الاستحواذ على مناطق نفوذ واضحة.
بناءً على ما سبق، يمكن ترجيح الرؤية المُوازية المنتشرة في الأوساط «الجهادية» في سوريا، والتي تفترض ميْل «القاعدة» إلى التَّوجّه نحو أفريقيا، حيث تتوافر مساحات جغرافية أكثر ملاءمةً لنشاط التنظيم. ويعني ذلك، في حال تَحقُّقه، استمرار الوضع القائم حالياً على الأرض في سوريا، والمتمثّل في الانقضاض المتواصل على ما تَبقّى من وجود «قاعدي» هناك، وتشديد قبضة الجولاني الذي لن يتخلّى عن نفوذه في إدلب ببساطة.