عاطف الحاج سعيد: الهوية بين أزمتين
ربما تأخذنا الروايات من السودان إلى اكتشاف ما يخص هذا البلد، فتبدو النافذة واسعة من خلال رواية السوداني عاطف الحاج سعيد الجديدة «شمسان على النيل» (دار نوفل). ففي الرواية، نعثر على تلك الأزمات التي يعانيها الإنسان في كل مكان من العالم العربي وهي البحث عن المكان والهوية، ولو أن الكاتب هنا تطرّق إلى موضوع الهوية الجنسية، وهو ربما من الأدب المسكوت عنه أو الأدب الذي وُسم بالجريء. لكن ليس هذا ما يشدنا إليها، فهي أيضاً تغوص عميقاً في تلك العلاقة بين الفرد وعلاقته مع نفسه وجسده وعلاقته بالسياسة كون هذا يؤثث العلاقة مع المكان، فتنتهي الرواية بالبحث عنها مع الجماعة ومع اللاجئين. الشخصية المحورية هي «شمس الدين» الذي يعيش اضطراباً في هويته بين إحساسه أنه أنثى وجسده الذكر، وهذا الانفصام يرافقه وجود الجدة التي تدعمه بينما يقف بوجهه الأب القاسي، الذي يضيق ذرعاً بميول شمس الدين الأنثوية الذي يحاول بالتمرد والقطيعة مع الأعراف أن يستعيد هويته المفقودة في رحلة صعبة وجنونية. تعيش هذه الشخصية اغتراباً عن نفسها وعن المجتمع، فتعبر من السودان إلى الضفة الأخرى من النيل إلى القاهرة، لتجد نفسها شمس حيث تخضع للعلاج النفسي والهرموني. لكن التحول الكامل لا يحدث بدون السفر إلى الخارج، الذي لا يحدث لأسباب سياسية.
هنا تبدو هذه الشخصية عالقة، بين ماضيها ومستقبلها تماماً كهؤلاء اللاجئين الذين ينتظرون مصيرهم. هكذا ربما تتشابك تلك الأسئلة الشخصية عن الهوية مع أسئلة الجماعة الهاربة أيضاً إلى مستقبل قد لا يأتي. يجعلنا نتحسّس تلك الروابط بين أسئلة الذات وأزماتها وبين أسئلة من حولها، فتبدو كأنّ الخلفية واحدة وهي الاستعمار الذي عاشت تحت ظلاله جدته «اللقيطة» المتمردة على الأعراف، والتي لم تعترف بإنكليزيّتها. لكن حالة «العلقان» هذه تبدو كأنها حالة الضياع تلك، فالجدة أيضاً تعاني منه. إنّها حالة أوسع من قلق شخصي، بل إنها حالة سياسية ووجودية. كأنما لا ينتهي البحث بقرار ما أو إرادة ما، فيأتي الفصل الأخير من الرواية كأنه حالة بحث عن شاطئ ما لكل تلك الأسئلة، فتستعاد الجدة كأنها ذلك الماضي الذي علينا أن ننبش داخله لنفهم جذور هذه الأزمة. ربما كانت تلك السياسة والمسائل الشخصية والجنسية والذاتية أمراً مهماً في هذه الرواية، فالمقاربة ربما تفتح الباب للتفكير بأنّ جذور التخلف قادمة من أماكن خفية في الماضي والأمر يتعلق بتحرير شامل لا يمكن فصل السياسة والدين عنه. ربما يجعلنا هذا الأمر نفكر في الوهم الذي نراه حولنا بأنّ الأمور منفصلة تماماً. هكذا تجد هذه الشخصية كما باقي الشخصيات في الرواية وجودها محاصراً في النهاية كباقي اللاجئين، فهي أيضاً لاجئة مهما يكن سبب لجوئها وتنتظر الوصول إلى ضفاف أخرى.
ربما تطرح هذه الرواية أسئلة أخرى، لكنها تجعلنا نفكّر في الأدب كأفق لمناقشة قضايا عالقة ومعاصرة، واختبار كم يستطيع القارئ أن يكوّن صورته ورأيه عما حدث، كأن نفكر مثلاً برأينا حول ما حدث مع هذه الشخصية المضطربة، أو لماذا انتهى بها الأمر لئلا تتحول بشكل كامل. يقول الكاتب التركي أورهان باموق عن الكتابة الجيدة: «هي التي تتيح للقارئ أن يقول، كنت أريد أن أقول نفس الشيء، لكني لم أستطع السماح لنفسي بأن أكون بهذه الطفولة». هكذا نشعر كقراء أننا نتفهم ما حدث، ونبني تحليلاتنا الخاصة المشابهة أحياناً للأحداث، فنفكر ربما سيحدث هذا أيضاً في لبنان أو سوريا أو أي بلد آخر.
المثير أيضاً أنه رغم ما حدث للشخصية من تحول، فقد جعلها دائماً تفكر بماضيها كأنه لا يمكن الاستغناء عنه وهو جزء هام من المكان الجديد، فالعلاقة مع المكان تبني أيضاً علاقة مع الذكريات والماضي كجزء أساسي من الوجود. لذلك تظل تلتقي بأشخاص التقتهم في الماضي كزوربا المنتمي إلى حزب يساري. ورغم أن هذه الشخصية تبدو مهتمة في البداية بالشخص لا بحزبه وبالناس لا بالسياسة، إلا أن مصيرها يبقى معلقاً بسبب السياسة. هذه المفارقة تجعلنا نرى الأشياء بطريقة مختلفة، فرغم انزياح حياتنا أحياناً عن السياسة أو توهّمنا بذلك، إلا أنها تلتقي بها في نهاية المطاف. أما عن الهوية فتلك حكاية أخرى، يقول المفكر هومي بابا عن الاستعمار والهوية والثقافة إنّ «سرديات الناس الأصليين هي أساطيرهم وسلاحهم ضد إخضاع الآخر، فهم يستخدمون سرديّاتهم ويستفيدون من معانيها وطاقة رموزها في ترسيم هوياتهم التي قشرها الآخر وفككها. لكن التخيلات المجتمعية تلملمها وترمّمها وينطوي هذا على صراع يمثل الحد الأدنى في مقاومة الخطاب الكولونيالي».
لذلك تأتي هذه الرواية أيضاً ضمن هذه السرديات التي تحاول تقديم ما يفكر به مجتمع مهمش ويعاني من ماض استعماري ومستقبل أسير. لذلك ربما تؤثث للغة تستعيد ما يفكر به هؤلاء الناس عن الهوية، ومن هنا أيضاً، تأتي هذه الروايات كمحاولة للغوص عميقاً لمعرفة أزمات هذه الهوية والتعرف إليها عن كثب. التفاصيل في هذه الرواية حية لا تنقلنا من مكان إلى آخر بسرعة بدون أن تحمل هذه التفاصيل معها بهدوء، كأن هذه الشخصيات التي تعاني من أزماتها، لا يمكنها أن تطمئن بسرعة. هناك جراح كثيرة عالقة في الأفق، على القارئ أن يفكر بها، يحلّلها. يرى الهوية كأنها أمكنة متداخلة وأزمنة متشابكة لا يمكن التخلي عن جزء من دون النظر إلى الآخر. لكن الهوية أيضاً بين أزمتين، ربما الفرد والجماعة، السياسة والمجتمع، الماضي والمستقبل. وسط كل هذه الثنائيات، يبقى هناك أمل بالتفكير في الضفة الأخرى التي لا تعني بالضرورة الهجرة بل مجرد التفكير بتوازن ما.