نوافذ للحوار| يوسف شاهين في ذكرى رحيله السابعة: كانت السينما تقطع أنفاسي!
“السينما تقطع أنفاسي؛ انها حياتي، وأنا أعيش هذه الحال منذ أكثر من 60 عاماً، ولا تغيير محتملاً… بل ربما تعزيز لهذا الميل الفطري”، قال لي يوسف شاهين ضاحكاً ضحكة طفولية في المرّة الاخيرة قابلته فيها في مناسبة اطلاق فيلمه “اسكندرية… نيويورك” (2004) في بيروت. هذا الشريط كان عن تجربة حياة تخللتها علاقة مرتبكة مع أميركا، لكنه كان قبل أي شيء آخر عمل في مديح السينما، وكأن لا فرق البتة عنده بين حياته على الشاشة وخلفها. كان السؤال الذي طرق بالي آنذاك: “عندما تُخرج فيلماً أوتوبيوغرافياً الى هذا الحدّ، كيف تحافظ على البُعد وتبقى على مسافة من الموضوع الذي تودّ تصويره؟”. فكان ردّە انه يجب علينا ان نعيشه مرّةً أخرى وأن نكتبه عدداً لامتناهياً من المرات قبل ان يخلد على هذه البقعة المستطيلة: “أعيشه حين أكتب وحين أصوّر. هناك حنين لتلك السنوات التي قدمتها في الفيلم. المشاهد كلها تنطوي على عواطف، كالعلاقة بيني وبين استاذتي. كانت تعشقني تلك الاستاذة، وهي الوحيدة التي لم تكن تفهم كيف أن بلداً مثل أميركا لا يستطيع مساعدة ولد صغير جاء من “آخر الدنيا”، وعلمت في ما بعد أنها بهدلت وشتمت زملاءها لأنها كانت تريد منهم أن يساعدوني”. في ذكرى رحيله السابعة الموافقة في 28 تموز 2008، ننشر هذه الدردشة الصغيرة مع مَن كان معروفاً باسم “جو”.
■ حين يعود بك الزمان الى الوراء وتتذكر الأيام الماضية، هل ينتابك شعور بأنك في حياة وعالم آخرين؟
– في الواقع، تلك المرحلة من حياتي هي جزء من حياتي اليوم. كانت مرحلة في منتهى السعادة. عملتُ جاهداً، إلى درجة انني تسابقتُ واستاذي، بمعنى انني كنت احفظ قبلاً الدروس التي كان من المقرر ان يعطينا اياها الاستاذ. صعوبة الفيلم تكمن في كيفية ابراز تلك السعادة التي عرفتها في أميركا. كان هناك قدر اكبر من الرومنطيقية في الافلام. بينما اليوم…
■ هذا ما يقوله المخرج يحيى في الفيلم، في حوار يقارن فيه سينما اليوم بسينما الخمسينات…
– سينما اليوم تصيبني بالقرف. سابقاً، كنا نخرج من الفيلم سعداء وفي داخلنا رغبة في الرقص واللهو. أفلام اليوم تشنّج أعصابنا وتصيبنا بالتوتر.
■ أليس من الممكن ان يلفتك فيلم حركة يتضمن شيئاً من جماليات الفن السابع؟
– في مهرجان البندقية المقبل سأترأس احدى لجان التحكيم، وعلى رأس قائمة الأفلام المعروضة هناك فيلم من بطولة جون ترافولتا، وهو شريط أخرجه شاب اميركي لا يزال في بداية مشواره الفني. من المفترض ان نختار بين 15 فيلماً، وطبعاً هذا خيار صعب، ونتمنى دوماً ان يكون الفيلم الرابح هو الذي يفرض نفسه علينا، ويقول لنا “انا الجائزة”. احيانا عندما لا نعثر على فيلم جيد نضطر الى ان نمنح الجائزة لأقل الأفلام سوءاً، وهذا امر سيئ.
■ كانت لديك أحلام وطموحات كبيرة حين ذهبت الى هوليوود في أواخر الأربعينات. هذا الحافز لم يغادرك الى اليوم. وتأكيداً لذلك، يجسد الممثل نفسه شخصيتي المخرج يحيى واسكندر، كأنهما الانسان ذاته في مرحلتين مختلفتين من حياتهما.
– على رغم انني كنت أتناول الهوت دوغ يومياً، فتلك الأيام التي عشتها اتسمت بالسعادة. نهار السبت كنت “ادلّع” نفسي قليلاً وأتناول الهمبرغر، وأتعارك مع صاحب المطعم ليضيف الى الطعام بعض البصل كي اتغذى.
■ افتراضاً انك لم تدرس الاخراج والتمثيل في أميركا، هل تعتقد انكَ كنتَ صوّرتَ ما صوّرته من أفلام خلال مسارك؟
– طبعاً لا، فالدراسة في المعهد منحتني العلم والمعرفة، وصقلت موهبتي.
■ للاسلوب الهوليوودي الكلاسيكي تأثير واضح في عملك. هل كان من البديهي ان ينتقل هذا الارث معك خلال دراستك في أميركا؟
– ما تقوله صحيح الى حد ما. واذا كنتُ ذهبتُ للتعلم هناك، فذلك من اجل الغوص في مكان تأتينا منه أهم الروائع السينمائية. وقتذاك لم تكن أوروبا الخارجة لتوّها من الحرب تعيش أيام عز. لم يكن في أوروبا كلها الا معهد واحد، ولم أشعر بالرغبة في الانضمام اليه.
■ في ما بعد رفضتَ النهج الأوروبي في السرد والتصوير…
– لم نكن نشاهد اثناء الحرب سوى الأفلام الأميركية. ثم برزت “الموجة الجديدة” التي لم أعجب بأفلامها بتاتاً…
■ لست من أنصار هذه الحركة؟
– لم أحبّ هذه الأفلام اطلاقاً، خصوصاً ان مخرجي “الموجة الجديدة” شتموا مخرجين كباراً ليحتلوا مكانهم. هؤلاء النقاد كانوا يغارون من الجيل الذي سبقهم.
■ لكن غودار يحبك…
– (يضحك). فقط غودار، أما تروفو فلم يكن يحب الا نفسه.
■ في “اسكندرية – نيويورك” حضور طاغٍ للكاميرا التي تحولت الى ممثلة أكثر منها ناقلة للمشهد.
– الكاميرا المتنقلة باستمرار تضيف الى المشهد ديناميكية فريدة. المهم ان تحافظ الحركة على شيء من الحشمة والتحفظ.
* على رغم ما تقوله، فإن حركات الكاميرا استعراضية. أنت لا تحبّذ الاسلوب الستاتيكي الثابت في التقاط المشاهد.
– بالأحرى، لا أفهم مَن يتعامل بهذا النمط. لا أعتبرها سينما. لستُ من أنصار الـ Plan – Sequence. لكن من أجل ان أكبر في نظر بعضهم، قررتُ ذات يوم ان اصوّر مشهداً طوله 8 دقائق لقطة واحدة. كان ذلك في “نساء بلا رجال”. وضعنا الكاميرا على عربة صغيرة، وكنت أضرب على مؤخرة الكاميرامان ليعرف ان عليه ايقاف التصوير (يضحك). كان ذلك نوعاً من التحدي، على غرار ما حصل معي حين كنت اتهيأ لتصوير “صلاح الدين”. فالكلّ قال لي انه يجب الاستعانة بخدمات مخرج للفريق الثاني لانجاز مشاهد المعارك. الا ان الفكرة لم تعجبني. وفي الوقت الذي كنت أصوّر فيه “صلاح الدين”، لجأ مخرج آخر الى من يساعده في مشاهد المواجهة، لكن سهمه طاش.
■ من الـ”تيكات” الفيلمية التي تتكرر في أعمالك الأخيرة، نجد ذلك الترافيلينغ الأمامي على وجوه الممثلين الذي تستعيده عشرات المرات، تماماً كاستخدام الموسيقى بمثابة “ليتموتيف”…
– على الكاميرا ان تكون جزءاً من العمل السينمائي. لا تحتاج لأن تكون مخرجاً لتصوّر فيلماً ينطوي على لقطات ثابتة. قد ينجح عسكري ايضاً في تلك المهمة. لا أحب العادات التي تصنّفك في اطار “دوغما” معينة، وأجد التسميات كافة “بايخة” ومن دون معنى. يجب عدم اتخاذ قرارات تصويرية مسبقة، والمشهد هو الذي يفرض عليك طريقة تصويره (…). أستطيع ان أجلس معك وأناقش معادلة الشكل – المضمون على مدى سنتين. بكلمة واحدة أقول ان على الشكل ان يكون في خدمة المضمون. ليست لديّ مشكلة مع الشكل، كوني أعمل على تجميل المَشاهد.
التقنية عندي تستجيب متطلبات المقصد. لكن يجب ان تعرف التقنيات للوصول الى نتيجة مرضية، وعدم أخذ قرارات مسبقة. “صرعونا” بالمدارس الدوغمائية، ومنهم هذا “الحمار” الذي اسمه لارس فون ترير الذي اعتقد انه مع خفض وزن الكاميرا أصبح في امكانه ان يعمل بطريقة جديدة. في “صراع في الوادي” قبل 50
عاماً، وضعتُ الكاميرا التي كان وزنها أكثر من طنّ على كتف المصوّر ليلتقط المشهد حيث يضرب عمر الشريف فريد شوقي. كانت الكاميرا في تلك الأيام كـ”الداهية”، واستغرب كيف استطاع المسكين ان يحملها ويقتفي بها خطى الممثلين.
■ في أفلامك الأخيرة، صوّرتَ الفشل في التواصل بين الغرب والشرق. هل كان الوضع على هذا القدر من السوء عندما ذهبتَ الى أميركا؟
– لا، كانت هناك محبّة كبيرة في تلك الأيام. هذه وجهة نظري بعد حين. على مدى 60 سنة تغيرت العقلية الأميركية، ونحن ازددنا تخلفاً. لا تنس ان القادة العرب هم من دون استثناء طغاة.
■هل أخذك الحلم الأميركي؟
– بالطبع. 90 في المئة من العرب عايشوا ولا يزالون يعايشون الحلم الأميركي. حتى في أصعب الأوقات، حتى حين نشاهد مجازر شارون على التلفزيون، أو الـ30 ألف عراقي الذين ذهبوا حتى الآن ضحية “الديموقراطية الأميركية”. شخصياً، لا أؤمن لا بالاصلاح ولا بالعدالة. مَن مِن قضاتنا سيخضع للاصلاح؟ لو أرادوا الاصلاح، لتنحّوا فوراً، ولكنهم جميعاً يبقون على كراسيهم الى أبد الآبدين.
■ ماذا بقي اليوم لديك من هذا الحلم؟
– لديّ وفاء لكلّ الاساتذة الذين ساعدوني في مرحلة التأهيل. عادةً، عندما يكون لديّ شعور، فإنه يدوم طويلاً.
هناك حكاية ولاء بيني وبين القارة الجديدة. تدهشني مثلاً قدرة الأميركيين على الاختراعات، وكذلك في الكتابة. ففي الغرب تصدر شهرياً
مئات الكتب، بينما عندنا لا نستطيع اصدار 4 كتب تستحق القراءة.
■ العرب بارعون في المنع.
– طبعاً، كلّ كتاب جيد يتضمن أفكاراً جريئة مصيره المنع، ما يجبر الأكثرية على اجراء رقابة ذاتية.
■ “اسكندرية – نيويورك” يؤكد انك لا تزال أميراً من أمراء الميلودراما.
– هناك سوء استخدام لكلمة ميلودراما. فهذا الفنّ قائم على تجسيد مواقف صناعية. على غرار ما كان ينجزه المخرج الراحل حسن امام. وهو الذي كان ملك الميلودراما. كان يصوّر بنتاً فقيرة، تقع أمها من الشباك… الخ، يعني التركيز على المصادفات.
■ هل كنت راقصاً جيداً في صغرك؟
– حتماً. وتناولتُ الفكرة على لسان شخصية يحيى، فكوني لم أكن أمتاز بالجمال ولستُ ابن أحد الأثرياء، كان عليّ ان أتقن الرقص للفت انتباه الجنس اللطيف.
■ لم تشغل بالك كثيراً بمسألة اللغة، ولم يزعجك ان يحكي الكلّ لغة العرب.
– هذه تعقيدات. هل في “هيروشيما حبيبتي” كانوا يتكلمون اليابانية؟ تخطينا هذه المسألة من زمن، والا فكيف يمكنني ان أفهم ما يقوله الممثل. ثم يجب الا ننسى انني أصنع الأفلام لجمهوري العربي، وإذا عُرض الفيلم في الخارج، ففي إمكانهم ان يدبلجوه.
ليس هناك سوى أميركا ترفض أن تنسجم مع هذا الواقع، وترفض الذهاب الى ثقافة الآخر، بصرف النظر ان كلّ الموزعين في أميركا وانكلترا يهود. فيلم عربي فقير ليس في استطاعته منافسة الانتاجات الأميركية الضخمة.
■ هناك جدل قائم في مصر اليوم على الكثير من الأعمال، منها “بحبّ السيما”، هل شاهدته؟
– لم أشاهده، لكن مخرجه صاحب موهبة متينة.
■ ما رأيك في “الآم المسيح”؟
– كريه وغبي. مَل غيبسون مازوشي و”حمار” بامتياز. من الواضح من خلال فيلمه ان العنف يثير غرائزه الجنسية. وهل يجوز ان نصنع فيلماً يحتوي على ضرب “من طقطق للسلام عليكم”؟
■ ألم تفكر يوماً في اخراج فيلم عن المسيح؟
– كانت عندي نظرة سينمائية فريدة عن موضوع المسيح ذات مرة. ولو صنعتُ فيلماً بطله المسيح لكنت رقّصته طبعاً.
■ ما رأيك في “فهرنهايت 911” لمايكل مور؟
– جيد، لكنه ضعيف تقنياً. أفضّل عليه فيلم “العالم بحسب بوش” وهو من أفضل الافلام الموجهة ضد سياسة بوش.
■ ماذا سيكون فيلمك المقبل؟
– لا أعرف، أبحث عن فكرة لفيلم جديد منذ 4 أشهر. عادةً، أباشر كتابة السيناريو عندما أبدأ المونتاج. كانت عندي فكرة اقتباس “هاملت”، لكني رميته من الشباك بعدما عملتُ على أكثر من ثلث المشروع، لأنه لم يعجبني.
صحيفة النهار اللبنانية