سيرة الحكم في لبنان في سيرة صائب سلام [15]
ونشرتها العائلة كما هي من دون تصحيح أو تنقيح أو تحرير، مع أنها تنقل صورة معبّرة عن مكنونات صائب سلام وتفكيره في محطات تاريخيّة مهمّة شاركَ هو في صنعِ بعضها. وتضمّنت اليوميّات في الجزء الثالث بعض ما جاء في أحاديث صائب مع الصحافي شكري نصر الله في سنوات إقامته في جنيف.
ومن مفارقات نقد صائب سلام لتجربة منظمة التحرير ولفسادها وتحالفاتها، أنه كان يتبادل الحديث في هذا الشأن بانتظام مع «أبو الزعيم»، القريب من المخابرات السعوديّة والأردنيّة. لكن أبو الزعيم هو آخر من يحقّ له الحديث عن أخطاء منظمة التحرير. أبو الزعيم كان—حتى بمقياس فساد منظمة التحرير المستشري—من أفسد قادة منظمة التحرير الفلسطينيّة في تاريخها. هناك قصّة تروى عن اجتماع للجنة المركزيّة لحركة «فتح» وكيف أنها كانت تعالج فضيحة أخلاقيّة جديدة لأبو الزعيم، وكيف أن أبو جهاد تأسّف أن تكون اللجنة المركزية للعمود الفقري للثورة الفلسطينيّة تبحث في شؤون تعدّيات أبو الزعيم. كانت حفلات أبو الزعيم في شارع فردان من الفضائح الدوريّة في تلك الفترة. وبقي أبو الزعيم يقطن في شارع فردان، بالرغم من استهدافه من قبل إسرائيل في نيسان ١٩٧٣. لكن لماذا تقوم إسرائيل بالتخلّص من رجل لم يزعجها يوماً في تاريخه؟ وعرفات، على عادته، لم يتخلّص منه بل كافأه، ثم استدعاه إلى رام الله ليساعده في إنشاء سلطة التنسيق الأمني الفاسدة.
وانتقل صائب إلى جنيف بعيداً عن مخاوف العيش في لبنان (وخصوصاً بعد تلقّيه معلومات أو تحذيرات من نيّة سوريّة للتخلّص منه، وكذلك ما وردَ في حينه على لسان عبد الحليم خدّام، الذي تحوّل إلى صوت الثورة السورية ضد نظام بشّار الأسد من على شاشات النظام السعودي). وكان صائب منهمكاً في تدبير أمر التمويل العراقي لـ«المقاصد» وتأسيس «كليّة صدّام حسين الطبيّة». ويلتقي بطارق عزيز الذي عبّر عن دهشة لمضيّ صائب في مشروع «كليّة صدام حسين»، ونقل إعجاب صدّام بصائب، وأنه ليس عند صدّام مَن يقدّره في كلّ العالم العربي «أكثر من صائب سلام» (ص. ٩٥٨، ج٢). ويحبّذ طارق عزيز تعاوناً سعوديّاً-عراقيّاً لقلب النظام في سوريا، لكنه يظنّ أن النظام السعودي يخشى أن يهيمن نفس الفرع من حزب البعث على سوريا والعراق معاً. ثم انتظر صائب في جنيف قدوم شيخ قطر، وتمنّى—عبر صديقه وسفيره في باريس، وليم قازان—إنشاء كليّة مقاصديّة باسمه أيضاً، و«بمبلغ يتراوح بين ٥ و١٠ مليون دولار» (ص. ٩٥٧، ج٢). طلب الأمير القطري مراجعة شقيقه الأكبر. والتقى بفخري دلّول الذي فاتحه بشؤون «تبرّعات» ويقول صائب: «فأثلجَ ذلك قلبي». ونكتشف عرضاً في السرديّة أن لصائب منزلاً باريسيّاً، غير المنزل في جنيف، مع أن صائب دائم الشكوى من الوضع المالي واضطراره إلى بيع الأملاك للإنفاق على «المقاصد».
وينقل صائب من باريس عن «بدرو ديب» (يقصد بترو ديب، وكان بطرس ديب ينادي نفسه ويناديه أصدقاؤه بـ«بترو»، لكن صائب الحريص على اللغة العربيّة عرّبَ الاسم) أن السفير السوفياتي توقّع سقوط النظام السعودي في غضون سنتيْن.
ويبدأ في هذه الفترة قادة من الحركة الوطنيّة بزيارة صائب (والحريري في ما بعد) لتكريس الفرقة مع خط اليسار والمقاومة الفلسطينيّة ولحفظ خطّ الرجعة بعد نفور الرأي العام في بيروت الغربيّة من منظمة التحرير والحركة الوطنيّة. رئيس المجلس السياسي للحركة الوطنيّة في بيروت، أسامة الفاخوري، يعطي صائب نسخة عن استقالته من الحركة وفيها اتهامات تصرّف بالأموال. وترافق ذلك مع اجتماع بين بشير الجميّل ومحسن إبراهيم وتوفيق سلطان وسمير صبّاغ. ووجد صائب آخر إقطاعي سنّي في لبنان، سليمان العلي، ناقماً على كامل الأسعد. يعلّق صائب: «إن عشرة كامل تكفِّر مَن لا يكفر. وزاد الطين بلّة استسلامه للسوريّين مثل فرنجيّة وكرامي» (ص. ٩٥٩، ج٢). طبعاً، عاد الأسعد وغيّر مواقفه بعد اجتماع شهير مع ميشال المرّ (مُموِّل حملة بشير الجميّل الرئاسيّة بالاشتراك مع حكومة العدوّ) بعد أيّام من الاجتياح الإسرائيلي للبنان في صيف ١٩٨٢. وكان الأسعد قد أعلن في أوّل يوم للاجتياح أنه لا يجوز إجراء انتخابات نيابيّة في ظلّ احتلال إسرائيلي، لكنه عاد وقلبَ فتواه.
يذكر خبر وفاة حميد فرنجيّة ويقول في مقارنة مع شقيقه سليمان: «وشتّان ما بين الشقيقيْن» (ص. ٩٦٥، ج٢). لكن ألستَ أنتَ أوّل مَن طرح اسم سليمان للرئاسة؟ ويزور أبو عمار بعد طول انقطاع عنه. عرفات يبدي ندماً كبيراً لأن منظمة التحرير أهملت «الأوادم» (مثل صائب) و«تلاحموا مع الزعران وكيف أن الزعران أصبحوا أداة لغيره عليهم، فأخذ يشكو من سوريا وأنها تحرّض هؤلاء، وأن وراءهم ليبيا القذّافي» (ص. ٩٦٥-٩٦٦، ج٢). طبعاً، المقصود بالزعران هم قادة الحركة الوطنيّة. ويخمّن صائب أن «تسعين بالمئة» من الأموال للحركة الوطنيّة «ذهبت إلى بنوك سويسرا والعشرة بالمئة صرفت على تخريب لبنان والمسلمين خاصّة». بالفعل، حوّلَ الكثير من قادة الحركة الوطنيّة (بمن فيهم بعض الشيوعيّين) أموالاً طائلة إلى حسابات خاصّة بهم في مصارف في لبنان ودول الغرب. وإفلاس الحركة الوطنيّة كان من صنع قادتها وليس لمؤثّرات خارجيّة، كما يحلو للكثير من قادتها المتقاعدين القول.
وحبُّ صائب سلام لزوجته لا ينقطع في سرد اليوميّات ويقول ذات يوم: «ثم وصلت تميمة من جنيف، بعدما تركتُها في باريس أسبوعاً. وكأن غيابها كان دهراً» (ص. ٩٦٤، ج٢). وينقل عن مروان حمادة دوافع رجل القضايا الصغيرة، والصغيرة جداً، وليد جنبلاط. يقول صائب: «زارني مروان حمادة وهو يؤكّد أن موقف جنبلاط المعاكس للحكم أخيراً ومحاولته التكتّل مع فرنجيّة وكرامي ليس سببه الضغط السوري، كما اعتقدتُ، بل أمور صغيرة (كعادة والده) طلبها من الحكم ولم يلبّوه بها، حتى إنه قال إن جلوس شيخ العقل (على ما بينهما من خلاف اليوم) إلى يمين رئيس الوزارة في حفلة التكريم التي أقامها له «المجلس الإسلامي» كان من أشدّ أسباب إثارته» (ص. ٩٦٨، ج٢). يجتمع بالسفير الليبي، عبد القادر غوقة بصائب وصحبه في «التجمّع الإسلامي». يقول عنه: «هو، بالإضافة إلى عدم ثقتنا به، ثقيل الدم، وكان نقاشه فجّاً، طبعاً، كنتُ أقسى الجميع عليه، ولكن مالك (شقيق صائب) كان قاسياً أيضاً، ما دعاني إلى مداعبته عند خروجنا من الاجتماع، وهو قليلاً ما يتفهّم أو يتقبّل المداعبة، فقلتُ له: يبدو أنك في غياب رشيد تكون غيرك في حضوره» (ص. ٩٧٠، ج٢). (كان مالك متزوجاً شقيقة رشيد كرامي وكان قريباً منه).
يلتقي مع السفير السعودي علي الشاعر مرّة أخرى. يشكو نقص التمويل، مرّة أخرى. يشعر صائب (بالنيابة عن كل المسلمين) بأنهم «مديرون لنا ظهورهم، بينما الواجب كان يقضي بأن يسندوا هذا المجتمع الإسلامي الصاعد بكلّ إمكاناته، وذلك ليس على طريقة القذّافي وغيره بهدر الملايين سرّاً وعلى زعران… ولكن—والأسف يملأ نفوسنا—لا نجد منهم سوى إهمال يكاد يكون كاملاً ولا نسمح بأن نجاري من ينتقدهم—حتى من أصحاب النوايا الحسنة—فنحن ممّن يحفظ الجميل، فهم قد ساعدوا المقاصد عدّة مرّات ولو بما يراه الناس رذاذاً ولا يشفي ولا يغني عن جوع» (ص. ٩٧٦، ج٢). اقترح الشاعر عليه أن يزور المملكة، لكن صائب أجاب: «إنني لن أسمح لنفسي بذلك بعدما مضت سنتان تامّتان وأنا أجرّب المحاولة تلو المحاولة، ولم أتمكّن من ذلك إلى اليوم». وكان الشاعر يشارك صائب أحياناً في الشكوى من السياسات السعوديّة (ص. ٩٧٧، ج٢). يلتقي بالسفير العراقي ويجده «ليس بالفهلوي كثيراً». يلتقي مع السفير البريطاني ويجده «طبّوش» (ص. ٩٧٧، ج٢).
زاره السفير والروائي اللبناني، خليل تقيّ الدين، الذي كان مديراً للمجلس النيابي عشيّة الاستقلال. أكّد لصائب «ما كنّا نعرفه، ولكن ما لم يكن يقرّ به من قبل، وهو أن بشامون لم تكن إلا أسطورة ضخّمها رياض الصلح ولفيفه ليطفئوا وهج ما جرى في المصيطبة يومذاك، والدور الذي قمتُ به شخصيّاً، وأنهم جعلوا من الأمير مجيد أرسلان، بطلاً لبشامون، بينما هو يشهد أن جماعة بشامون ذهبوا إلى هناك هرباً وأن أهل بشامون—وآل العيد بالذات—حسب روايته، رفضوا حتى إيواءهم لليلة واحدة لولا توسّل الأمير مجيد، وأن أهالي بشامون الذين يبدون في التاريخ اليوم أبطالاً زوراً وبهتاناً لم يوافقوا على استمرار بقائهم فيها إلا بعدما وصلتهم من عندنا في اليوم التالي شاحنتان ملآنتان بالأرزّ والسكّر» (ص. ٩٨٤، ج٢). رجاه خليل تقي الدين ألّا يعلن ذلك للملأ. هذه أهميّة هذه اليوميّات، وهي تدفع إلى طرح السؤال: متى نكتب تاريخاً حقيقيّاً غير متخيّل للبنان الحديث—وخصوصاً أنه ليس لنا رؤية واحدة للتاريخ السحيق حيث يتصوّر الانعزاليّون في لبنان جمهوريّة فينيقيّة امتدّت لآلاف السنين وكانت ترفع علم الأرزة وكان بنوها يرقصون الدبكة على أنغام «بحبك، يا لبنان».
ثم أرسل صائب سلام، بناءً على طلب من بشير الجميّل، مصطفى بيضون، وشرح له بيضون أن «المسلمين أصبحوا متمسّكين بلبنان» (ص. ٩٨٩، ج٢). المفارقة أن صائب أراد أن يبلغ رجل إسرائيل في لبنان أن المسلمين متمسّكون بلبنان، على أساس أن الجميّل هذا هو مُوزِّع شهادات الوطنيّة الحقّة أو القيِّم على السياديّة. أمّا بشير فقد أبلغ مبعوث صائب أن «قطعهم للعلاقة مع إسرائيل لم يكن تكتيكيّاً بل استراتيجيّاً وبصورة قاطعة». كان ذلك في أوج التحالف (الذيلي) بين إسرائيل وبشير الجميّل في عام ١٩٨١، عشيّة التحضير لاجتياح لبنان عندما أوكل العدوّ مهام محدّدة لميليشيا الكتائب. لم يجد بشير الجميّل غضاضة من الكذب على صائب، وصدّقه صائب من دون سؤال، فيما كانت الصحافة العالميّة تضجّ آنذاك بأخبار تعميق تحالف الجميّل مع إسرائيل. وفي لقاء ثان، أفهمه بيضون (بالنيابة عن صائب) أن «المسيحيّين أخطأوا مرتيْن: مرّة منذ مئة سنة عندما اعتقدوا أن اتفاقهم مع الدروز يؤدّي إلى الغاية المطلوبة، والمرّة الثانية حين اتجهوا أخيراً للاتفاق مع الشيعة، بينما الاتفاق لا يقوم حقاً إلا إن كان بينهم وبين السنّة أولاً… لأنهم أهل الجماعة الذين يعتبرون أنهم يمثّلون كل الإسلام» (ص. ٩٩٠، ج٢). هذا الأسلوب الطائفي المذهبي في التعاطي مع بشير الجميّل جاراه فيه كامل الأسعد وعائلة مجيد أرسلان وعليا الصلح. تحفّظ جميل كبّي وسامي نحّاس ومحمد بديع سربيه، من فريق مستشاري صائب، على مبادرته في الاجتماعات السريّة مع بشير الجميّل، فيما وافقَ عليها هشام الشعّار وعاصم سلام وتمّام سلام. وغريب أمر صائب. هو يتجنّب اتهام إسرائيل أو لومها في اليوميات على ما يقع في بيروت الغربيّة من تفجيرات وفتن. يتهم سوريا بتفجير سيّارة مفخّخة في أوكتوبر ١٩٨١، وقد ذهب ضحيّتها مئة قتيل ومئات الجرحى. صحيح أن النظام السوري مسؤول عن جرائم عديدة في لبنان، لكن هذا التفجير الذي يشيرُ إليه صائب (والكثير من حوادث السيّارات والشاحنات والدرّاجات وحتى الحمير المُفخّخة) كان من صنع إسرائيل، وباسم «جبهة تحرير لبنان من الغرباء». نحن نعلم اليوم من خلال كتاب «اِنهض واقتل أوّلاً» لرونن برغمان أن إسرائيل كانت تستعمل اسم «جبهة تحرير لبنان من الغرباء» من أجل تأليب الرأي العام في بيروت الغربيّة ضد الفلسطينيّين والسوريّين (وكانت إذاعة «صوت لبنان» الكتائبيّة مولجة بإعلان مسؤوليّة «جبهة تحرير لبنان من الغرباء»، وكانت الإذاعة تحت إشراف إسرائيلي مباشر، تماماً كما جريدة «العمل» الكتائبيّة). لا يخطر في بال صائب لوم الإسرائيليّين على التفجيرات في بيروت الغربيّة، وخصوصاً أن الانفجار المذكور كان أمام مكتب لمنظمة فلسطينيّة.
عانى صائب في «سحب» مبلغ من المال من عدنان خاشقجي لتشييد مسجد الخاشقجي في منطقة الحرج في بيروت. المسجد، كما يقول صائب، كان «من تصميم عاصم سلام وتنفيذ ربيع عمّاش ومعاناة صائب سلام» (ص. ٩٧٢، ج٢). ويرد في الكتاب الكثير من الروايات عن انهيار معنويّات لزعماء مسلمين سنّة ودائماً يبادر صائب إلى رفع معنويّاتهم. كانت معنويّات رشيد كرامي، حسب روايته، منهارة منذ حرب ١٩٥٨، واستمرّت على هذا المنول حتى سنوات الحرب. وفي صفحة واحدة نقرأ عن انهيار في معنويّات شفيق الوزّان (قد يكون أضعف رئيس وزراء في تاريخ لبنان. قال لي، عندما قابلته في منتصف الثمانينيّات بغرض بحث أطروحتي، إن أمين الجميّل لم يكن يطلعه على شيء، فأجبته: لكنك بقيتَ في المنصب تغطّي على كل ما يقوم به) كما نقرأ عن انهيار معنويّات المفتي. يقول صائب: «وصباحاً قمتُ بزيارة المفتي لرفع معنوياته، وذلك بعدما بلغني أنه منهار تقريباً» (ص. ٩٩٣، ج٢).
أتى عام ١٩٨٢، وزاد انهيار قادة الحركة الوطنيّة وكانوا يتقاطرون لزيارة صائب. عقد اجتماعاً طويلاً مع وليد جنبلاط وأفهمه الأخير بأنه «غير مؤمن» بتحالفه آنذاك مع رشيد كرامي وسليمان فرنجيّة وأن ذلك «من جملة المناورات» (ص. ٩٩٦، ج٢). لكثرة ما يناور جنبلاط، يختلط الأمر على الرجل فلا يعرف ما الموقف الحقيقي وما هو موقف المناورة، ما هي ساعة التخلّي وما هي ساعة الحقيقة. كالعادة، وجده صائب منهاراً و«حاولتُ أن أرفع من معنويّاته، وأن أنخّيه كي لا يترك صورته تبدو سيّئة مثل الباقين، فكلّهم أوباش يعودون إلى أوكارهم إذا استقرّت الأمور، لكنّه يبقى ابن جنبلاط وله مكانته». لكن جنبلاط يسارع بعد أيام، عبر بيان لحزبه، إلى هجاء صائب، لكن توفيق سلطان يسارع إلى مراضاته مبعوثاً من جنبلاط. ويخبره ناظم القادري أن «الجماعة المنتسبين إلى سوريا» يقولون لمن يزورهم بغرض المشورة إنهم «في لبنان نعتمد على سليمان فرنجيّة وكامل الأسعد ورشيد كرامي ووليد جنبلاط، فاذهبوا وتفاهموا معهم» (ص. ١٠٠٦، ج٢). وكان الوزير محمد يوسف بيضون في وضع سيّئ هو الآخر، لكن صائب يقول «فهدّأتُ من روعه وطيّبتُ خاطره» (ص. ٩٩٧، ج٢). يذكر صائب عرضاً حادث اشتباك عنيف بين حركة «أمل» والشيوعيّين. هذه الاشتباكات بين «أمل» والشيوعيّين اختفت من السرديّة الحاليّة لأن هناك في اليسار اللبناني التابع لدول الخليج من يصرّ على إقحام حزب الله—حتى قبل أن يولد—في الاشتباكات التي كانت تجري مع الشيوعيّين آنذاك.
يلتقي صائب بالمسؤول الليبي في معهد الإنماء العربي. سؤال لصائب عن إمكانيّة زيارة ليبيا، لكن صائب يشرح الوضع: «لا أعتقد أن الجو السياسي مناسب لذلك، لكن إذا جرت الصلة على أساس مساعدات خيريّة للمقاصد، فعندها يتبدّل الوضع، وقد تفهّم ذلك. بقي أن هنالك حساسيّة السعوديّين التي عليّ أن آخذها في عين الاعتبار، مع أنني أجد أن السعوديّين مقصّرون معنا جداً جداً، وعلى كلّ صعيد، سياسياً ودعماً» (ص. ١٠٠١، ج٢). بلغ صائب سن الثامنة والسبعين وحمد الله على شعبيّته «التي تزداد يوماً بعد يوم عند المسلمين وعند المسيحيّين على السواء، وهذا من فضل ربّي». يزور كثيرون صائب في طلب تمويل سعودي. يروي: «أتاني محمد بعلبكي وأحمد شومان يشكوان من تقصير السعودية معهما، وكان شومان قد جاءني وحده في السابق يشكو مرّة. وكثيرون مثلهما يشكون ويعتقدون أن حالي أفضل منهم مع السعوديّة… ولكن حرجي شديد، فالسعوديّون يرسلون لي كلاماً معسولاً وتقديراً وتمجيداً، ولكنهم لا يلبّون ما كانوا قد وعدوا به للمقاصد، ولا حتى دفع قيمة بناء «المدرسة المهنيّة» التي وعد بها الملك فهد شخصيّاً» (ص. ١٠٠٢، ج٢. الطريف أن مروان حمادة ذكر في مقابلة قبل أيّام اسم الصحافي أحمد شومان من ضمن «الصحافيّين الكبار». لعلّ تعريف الصحافي الكبير عند مروان حمادة وصحبه أنه هو الذي يسعى وراء التمويل الخليجي لقلمه). يزوره القائم بالأعمال السعودي ويطرح عليه فكرة زيارة المملكة. قال له صائب إنهم «لا يفهمون ولا يصغون إلا لمن يبتزّهم، وإن أخلاقيّتنا تمنعنا من ممارسة الابتزاز عليهم، وخصوصاً لأنه كانت لهم أفضال على المقاصد». ثم يزوره مسؤول آخر من السفارة السعوديّة مقترحاً، مرّة أخرى، زيارة السعوديّة، ويرفض صائب مرّة آخراً مكرّراً كلامه عن رفضه لابتزاز المملكة ويؤكّد أنه يعترف «بجميل ما قدّموه لنا في السابق للمقاصد، على ضآلته بالنسبة إلى حاجاتنا، وبالنسبة إلى زهادته على ما يقدّمونه من أشياء أخرى لأناس آخرين» (ص. ١٠١٤، ج٢). تقرأ هذا الكلام وتقارن ولاء صائب للنظام السعودي بولاء معظم ساسة لبنان اليوم للنظام. أصبح الولاء أكثر حديديّة وانصياعاً. هل تتخيّل أن تأتي دعوة لزيارة السعوديّة إلى السنيورة أو جعجع أو جنبلاط أو ميقاتي أو تمام سلام أو البطريرك الراعي ويرفضونها؟ لا يمكن. ثم، أليست مفارقة أن وليد جنبلاط أصبح أكثر إذعاناً للنظام السعودي من صائب سلام الذي كان وليد، هو وأبوه، يعيّره بأنه «عميل سعودي»؟
(يتبع)