حكاية القصبة والحبر، وشرفة بيت الفنان أحمد المفتي!
اشترى لي أبي قصبة ومحبرة صغيرة، وأعطاني فكرة عن الخط العربي وأنواعه، ورسم لي على الورق لفظ الجلالة (الله)، وقال لي : هات ما عندك، هذه هي القصبة وهذه المحبرة، اكتب اسم (الله) بالطريقة نفسها !
أمسكت القصبة، وقلدتُ حركته، وفعلت ما طلبه مني، فأثنى علي، لأن رسم الكلمة كان قريباُ من الكلمة التي رسمها هو، وتركني، فإذا بي أملأ الأوراق التي عندي بمختلف أنواع الكلمات .
لا أخفيكم، فأنا لم أتمكن من أن أتابع ما أراده أبي لي، أي أنني فشلت في أن أصبح خطاطاً ، لكن كل الدفاتر التي عندي دوّن عليها المعلمون عبارة مشجعة تقول : مرحى على هذا الخط !
الفنان الكبير الخطاط أحمد المفتي لم يعجبه خطي، أخذني من يدي إلى متحفه العجائبي ، وقال انظر إلى هذه اللوحة التي أنجزتها مؤخراً، فنظرت إلى لوحة من لوحات خطوطه وزخارفه، فأحسست أنها مطبوعة، لكن سر الجمال الذي فيها يفرض على من يشاهدها التحديق في التفاصيل والألوان والزخرفة ، ثم يبحث عن مضمون العبارات التي فيها.
قال أحمد المفتي ، كل ما تشاهده أمامك هو بريشتي، فسألته : حتى الزخرفة ؟ فرد بتواضع : حتى الزخرفة .
تحتاج الزخرفة على بياض لوحة، تقارب المتر في طولها، إلى دقة روبوت وإبداع شيطان، لكن الفنان أحمد المفتي ليس شيطاناً ، وليس روبوتاً ، إنه إنسان سوري يكتب ويرسم ويبدع بأحاسيسه، لذلك أسرّ لي بثلاثة أسرار دفعة واحدة :
السر الأول أن اللون الذهبي هو من الذهب الخالص، وأن الوقت الذي احتاجته اللوحة هو ثلاثة أشهر، أما عن المكان الذي ستعرض فيه ، فهو ليس هنا لأنه لايوجد من يقدّر هذا الفن !
وعندما استأذنت بالخروج من متحفه الأسطوري، دعاني إلى بيته ، وأنا أعرف أن بيته قريب من المكان، فمشينا وسط ضجيج الشوارع والحافلات والازدحام البشري الخانق، فإذا بي في حي الشعلان بدمشق، وهناك أشار لي بإصبعه إلى غرفة في الطابق الثاني، وقال :
ــ هذه هي غرفتي ، تصور أنني أنام في غرفة ارتكبت فيها جريمة قتل !
أفزعتني كلماته، فكيف ينام فيها، ومتى حدثت الجريمة؟ ومن هو القتيل ؟ وهل يزوره شبحه بين يوم وآخر؟
تحسس أحمد المفتي هواجسي، فبادرني بالقول، وهو يضحك: القتيل هو عبد الرحمن الشهبندر!
زادتني المعلومة قلقاً ، وتذكرت أن الشهبندر وهو أحد الشخصيات الوطنية السورية التي قاومت الاستعمار الفرنسي أغتيل في عيادته في تموز عام 1940 ، وأنني وأنا أنجز برنامجا وثائقيا قديما عنه بحثت عن بيته فعجزت، وكانت المسافة بيني وبين أحمد المفتي عدة أمتار وأراه بين يوم وآخر، من دون أن أعرف أنه يسكن في بيته!
سألته : هل تسكن في عيادة عبد الرحمن الشهبندر ؟
هز رأسه ، وصعدنا إلى البيت ، ووقفنا على الشرفة التي وقف عليها الشهبندر يخطب بمجاميع السوريين الرافضين للاستعمار، وفجأة أخرج أحمد المفتي صورة للشهبندر وهو على نفس الشرفة ، واتضحت تفاصيل المكان وهو جدار مدرسة الفرنسيسكان، وقال لي : سأجعلك تقف في المكان نفسه ، وأصورك اللقطة ذاتها !
وفي تفاصيل حياة الفنان الخطاط الكبير أحمد المفتي حكايات كثيرة ، لكن أكثر ما أدهشني أن كل حكاية كانت تأخذني إلى تفاصيل هامة في حياتي، ومن بين تلك التفاصيل : حكاية أبي عندما طلب مني أن أرسم بالقصبة والحبر لفظ الجلالة الله !