زمن الجائــحة.. عن صعود وهبوط الإسلاميين
زمن الجائــحة.. عن صعود وهبوط الإسلاميين… شهدت العقود الثلاثة الأخيرة ظاهرة استحواذ التيار السلفي وجماعات الإسلام السياسي على مجمل المنابر الدعوية في مصر.
يسعى مؤلّف هذا الكتاب “زمن الجائــحة: صعود وهبوط الإسلاميين” لاستكشاف وتحليل تأثير المتغيرات الدولية والإقليمية الأخيرة، وخاصة بعد انتشار جائحة كورونا التي كادت أن تدمّر الاقتصاد العالمي، بموازاة تأثيراتها العميقة والبعيدة المدى في مختلف المجالات الاجتماعية والسياسية.. وحتى الفكرية والاستراتيجية.
يقول المؤلف مصطفى زهران إنه يرصد في كتابه، الذي نشرته دار مقام المصرية في العام 2021، إرهاصـات التغيـير القـادم، وعنـاصر المشـهد التـي تصيـغ أزمـة الواقع الإسلامي ومآلاتـه، مواكباً مـا يطـرأ عـلى هذا المشـهد مـن عنـاصر قـد تبـدو للبعـض عابـرة، وهـي أساسـات لمشـهد جديـد كليـاً سـيفرض نفسـه عـمّا قريـب.
فالعالم يتغيّر بصورة متسارعة، وفي القلــب منــه يتغيّر المشــهد الإســلامي. تصعــد قــوى وتخبــو أخــرى؛ تتغيّر خريطــة التنافســات والنزاعات؛ يتـأزّم واقـع جماعـات، وتنفـرج أزمـة أخـرى؛ حتـى شـكل وطبيعــة تلــك التنظيــمات والحــركات يتغــيّر. والتغيّر الأكــبر يشــمل الخطابــات التــي إن لم تواكــب الزمــن المتســارع ســتخرج مــن دائرتــه وتصــير جــزءًا مــن المــاضي.
وعـلاوة عـلى المسـار العالمـي المتغيّر في الأسـاس، هنـاك الفضـاء العالمـي في ظـلّ كورونـا، الـذي شـهد تغـيّراً دراماتيكيـاً وفجائيـاً أربـك العـالم أجمــع، وألقــى بظلالــه المربكــة عــلى سياســاته. وضمــن هــذا الفضــاء تشكّلت مشـاهد ومـآلات جديـدة كان علينـا قراءتهـا.
كل الطرق تبدأ من القاهرة
في الباب الأول (كل الطرق تبدأ من القاهرة)، وفيه فصول، يتحدث المؤلّف عن (الصاعدون الجدد وفخ الشعبوية)، فيقول:
شهدت العقود الثلاثة الأخيرة ظاهرة استحواذ التيار السلفي وجماعات الإسلام السياسي، جنباً إلى جنب، على مجمل المنابر الدعوية في مصر. وعلى إثر ذلك انطلقت المنافسة، واحتدّت إلى أن يتم إطلاق أسماء هذه الجماعات والتيارات على الجوامع الكبرى والمساجد والزوايا مترامية الأطراف في جغرافيات شتّى، داخل محافظات مصر المختلفة، التي خضعت بشكل مباشر لإدارتها وإشرافها. ونتيجة لذلك كانت هناك ظاهرتان رئيسيتان، الأولى: محاولة رموز أزهرية ودعاة صوفيين ــ أصحاب طرق ـ ملء الفراغ الناجم عن انحسار هذه التيارات الإسلامية وتراجعها، والثانية عدم قبول المجتمع المصري أن تعيد تلك التيارات تموضعها بعد اهتزاز الثقة بأطروحاتها الدينية والأيديولوجية.
ويضرب زهران مثالاً بالنسق الدعوي الذي يطرحه الشيخ جابر بغدادي، نائب الطريقة الخلتوية الجودية في مصر ـ الذي نجح إلى حدٍ كبير في أن يصبح حالة دعوية، تعدّت إطارها المحلي وامتدّت آثارها إلى خارجه ـ إلى أنه في سبيل الوصول إلى غايته من تديين الناس على طريقة التصوف الطرقي، وقع في فخاخ الشعبوية، من دون الالتزام بمنهج علمي دقيق ينطلق منه نحو دعوة الناس.
حول معضلة السياسة والخصومة مع الوهّابية، لا يتطــرّق الشــيخ جابــر إلى عــالم السياســة وإشــكالاته، ولا يشـتبك معهـا بــأيّ حــالٍ مــن الأحــوال، اللهــم في بعــض المواقــف التــي تنــدرج تحــت ردّة الفعــل التقليديــة لرجــل الديــن، التــي لا يمكــن إلاّ أن يكـون لـه موقـف واضـح وصريـح تجاههـا، خاصـة حينـما تخرج من حيّزهـا الضيّـق إلى مـا سـواها؛ وهـو مـا حـدث حينـما تعالـت الأصـوات الإسـلامية المنـدّدة بالسياسـات التحريريـة لجريدة “شـارلي إيبــدو” الفرنسية عــلى خلفيــة الرســوم المســيئة للنبــي محمــد (ص)، وموقــف الرئيـس الفرنسي آنـذاك المؤيّـد لهـا تحـت لافتـة حريـّة التعبير، الأمـر الـذي دفـع الشـيخ جابـر بغـدادي إلى التنديـد والهجـوم عـلى الرئيـس والجريـدة الفرنسيين عـبر قصيـدة شـعرية مـن نظمـه، عُنونـت بـ”إلاّ نبيّنـا يـا إبـن عبـّاد البقـر”.
ومــن السياســة إلى الخصــوم التقليديــين للتصــوّف الطرقــي مــن التيــار الســلفي، وتحديــداً التيــار الوهـّـابي منــه، والــذي وجــّه لــهم الشـيخ جملـة مـن الانتقـادات الدائمـة جـرّاء موقفهـم مـن التصـوّف بصـورة عامـة، وتمظهراتـه السـلوكية والتعبديـة، والنيـل مـن رموزهم ومشـايخهم ودعاتهـم، سـواء كانـوا مـن القدمـاء منهـم أم المحدثين، حيـث تنـاول الشـيخ جابـر بغـدادي في كثـير مـن مجالسـه موقـف الدعــاة الســلفيين مــن الســيد أحمــد البــدوي ومقامــه في طنطــا بالمسـجد الكبير-عـلى سـبيل المثـال لا الحـصر- الـذي يصـل في كثـير منـه إلى حـدّ التفسـيق والتبديـع، فضلاً عـن مسـائل تتعلـق بزيـارة الأضرحــة والمقامــات لآل البيــت، وغيرهــم مــن رمــوز التصـوّف في عمــوم مــصر، إلى العنايــة الزائــدة برمــوز آل البيــت المحمـدي، الـذي يـراه الدعـاة السـلفيون ضربـاً مـن ضروب المغـالاة، مـا يجعلهـم يتّهمـون التصـوّف الطرقـي وبعـض دعاتـه بالتشـيّع؛ وهــو مــا يقــف لــه الشــيخ بغــدادي بقــوّة، في كثــير مــن جلســاته الوعظيـة وينتقـد تصوّراتهـم وأفكارهـم، بشـكل يدفعـه إلى وصفهم بالزنادقة والسـفلة، خاصـة مـع تحريمهـم المولـد النبـويّ الشريف.
تحوّلات التديّن المجتمعي في الجنوب المصري
يشير زهران إلى أن طابع التديّن المجتمعي في الجنوب المصري، اتسم على مدار تاريخه بقدر من الاعتدال، بفعل تأثيرات الإسلام الصوفي، بشكله التقليدي في صورته المتسامحة والمحبّة لآل البيت وصحابة رسول الله؛ لذا لَعِبت الصوفية الطرقية دوراً في رسم ملامحه الفكرية، وتشكّلها داخل بيئته وجغرافيته الجنوبية، من خلال الاعتناء الكبير بإقامة الموالد والاحتفالات الموسمية والحَضَرات، بالقرب من مقامات وأضرحة مشايخ وأقطاب التصوّف.
ومن المظاهر الدالّة على رسوخ المسلك الصوفي في المخيال الجمعي لمسلمي الجنوب المصري، تعدّد المقامات والأضرحة والشواهد؛ ومن بين أشهر الأضرحة يأتي ضريح أحمد الفرغل الملقّب بـ(سلطان الصعيد)، في إحدى مدن محافظة أسيوط المصرية، وضريح الشيخ عبد الرحيم القنائي في محافظة قنا، وأبو القمصان في الأقصر.
وقد عايش هذا الجنوب، مع بدايات سبعينيات القرن الماضي، وتحديداً خلال فترة حكم الرئيس أنور السادات، جملة من التحوّلات المجتمعية، نتيجة سياسات السلطة آنذاك، في ما عُرِفَ بـ(الانفتاح الاقتصادي) الذي نجم عنه سفر الكثيرين من أبناء الصعيد المصري إلى بعض دول الخليج العربية، مما أسفر عن تأثّر الأجيال الجديدة بأشكال مغايرة عن أنماط التديّن، القائم منذ عقود داخل الجنوب المصري، نتيجة احتكاكهم به، فتم استبداله في جزء كبير منه بالتيار السلفي؛ ووصل ذروته فترة التسعينيات تزامناً مع ظهور تنظيم “الجماعة الإسلامية” وأنشطتها الراديكالية.
ومن ناحية أخرى، نجد أن التحوّلات السياسية والمجتمعية التي عايشتها مصر، ما بين ثورة يناير/كانون الثاني 2011، وأحداث الثالث من يوليو/تموز 2013، قد ساهمت في إحداث فراغ هائل في الساحة الإسلامية، وكان لا بدّ من شغره من خلال مؤسسة الأزهر وشيخه أحمد الطيّب والمحسوبين عليهما، والوعّاظ العاملين في وزارة الأوقاف ومعهم دعاة بعض الصوفية الطرقية، في القيام بأدوار بديلة عن سابقيهم من دعاة التنظيمات الإسلامية والجماعاتية الأخرى.
الشيخ السلفي حاتم فريد المثير للجدل
يمثّــل الشــيخ الســلفي حاتــم فريــد واحــداً مــن أبــرز الوجوه السلفية التــي عُرفــت خــلال العقديــن الفائتين، مقترنــاً بإمامة الصلاة في مسـجد القائـد إبراهيـم في الفـترة ما بين(2005 –2012)، الـذي يُعـدّ مـن أبـرز المسـاجد الكبرى في الإسـكندرية، لمـا يحظـى بـه مـن مكانـة كبرى عـلى المسـتوى الشـعبي، ومـن لـدن التنظيـمات الإسـلامية منـذ منتصـف السـتينيات، إذ كان الشـيخ أحمـد المحـلاوي أبـرز الرمـوز الإسـلامية التـي اعتلـت منبره للخطابـة.
ومــع مــرور الســنوات تحــوّل إمــام مســجد القائــد إبراهيــم إلى ظاهـرة تعـدّت إطارهـا المحـلي الاسـكندراني، عـزّزه مـا كان يتمتـع بـه الشـيخ مـن حضـور لافـت حلّق بـه إلى مسـاحات اسـتدعت تسـليط الضـوء عليـه، وإمامتـه لواحـدٍ مـن أهـم المسـاجد التـي تمثّل نقطـة ارتـكاز للإسلاميين الحركيـين، خاصـة مـن أعضـاء وأنصـار “جماعة الإخوان المسلمين”.
ظـلّ الشـيخ عـلى هـذا الحضـور إلى قيـام ثـورة ينايـر 2011 بحكـم موقعـه كإمـام لمسـجد القائـد إبراهيـم، الـذي كان أحـد المراكـز المهمـة التـي انطلقـت منهـا الاحتجاجـات آنـذاك.
كانـت تجمـع الشـيخ السـلفي علاقـات ودٍ برمـوز الدعـوة السـلفية الســكندرية، وخاصــة القيــادي ســعيد عبدالعظيــم، إذ إن تكوينــه العَقَــدي المنهجــي يقــترب مــن فهمهــم؛ وفي الوقــت ذاتــه لم يكــن عــلى وفــاقٍ مــع جماعــة الإخــوان المســلمين.
وقد جــاءت أحــداث غــزة الأخيرة (معركة سيف القدس 2021) لتعيــد الشــيخ حاتــم فريــد المثــير للجـدل مـرّة أخـرى للأضـواء، بعـد أن اشـتبك معهـا مـن خلال مجموعة مـن التغريـدات التـي تـوازت مـع بـدء الاعتداءات الإسرائيلية في حي الشيخ جرّاح، ثـم تطوّرهـا بعـد ذلـك مـن خـلال الاعتـداءات الإسرائيلية على قطـاع غـزة، كانـت في مجملهـا داعمـة ومؤيّـدة للفلسطينيين، ومـن ثـمّ المقاومـة، ومنـدّدة بالاعتـداءات الإسرائيليـة، ومحفّـزة عـلى القيـام بأيـة تحـرّكات مـن شـأنها أن توقـف العـدوان عـلى الشـعب الفلسـطيني ووقـف تحـرّكات المستوطنين في أحيـاء القـدس.
بيْد أن مــا أثــار موجــة مــن الجــدل والاشــتباك الــذي وصــل إلى النقــد حــول تغريــدات الشــيخ المتضمنــة تعليقاتــه عــلى الأحــداث، خاصـة بعـد وقـف إطـلاق النـار الـذي نُظـر إليه عـلى كونـه انتصاراً للمقاومــة الفلســطينية في مواجهــة الآلــة العســكرية الإسرائيليــة، تمثّل في انتقــاده لمــا صرّح بــه قــادة حركة حماس مــن إعــلان الشــكر والثنـاء للدولـة الإيرانيـة.
واعتبر الشـيخ السـلفي أن “حـماس” بإقدامهـا عـلى هـذا الأمـر قـد وضعـت الأمـّة في فتنـة كبيرة، بسبب مواقفها في سـوريا واليمـن وتجاه الكـرد.
وقد لاقـت تصريحات الشـيخ موجـة غضـب عارمـة مـن كل التوجهـات السياسـية والدينيـة، خاصـة أن البعـض اعتبرها مزايـدة وفي غـير موضعهـا، ومحاولـة لتقزيـم الـدور الـذي لعبتـه المقاومـة الفلسطينية في صـدّ العـدوان الإسرائيـلي الأخـير عـلى قطاع غزة.
العشيرة المحمدية الشاذلية
تمثّل هذه العشيرة واحدة من أهم وأكثر الطرق تأثيراً في المشهد الصوفي المصري، برغم حداثة عمرها مقارنة بغيرها من الطرق الصوفية التقليدية المتجذرة في البنى المجتمعية المصرية منذ قرون، إذ تأسست في الربع الأول من القرن الماضي على يد الشيخ محمد زكي إبراهيم، أحد علماء الأزهر ورجالاته في ذلك الوقت؛ وكان جدّه أحد أكبر علماء المالكية في عصره. ف”العشيرة” لم تكن بمعزل عن المشهد السياسي من حولها، حيث كان شيخها أحد الدعاة الذين يحفّزون الجنود على الجبهات، أثناء المواجهة مع العدو الإسرائيلي. كما خاضت العشيرة المحمدية صِداماً مع جمال عبد الناصر، على خلفية موقفه من الطرق الصوفية، والعمل على تطويق نشاطاتها.
وجه سلفي بنكهة عصرية
شهد الفضاء الأزرق في الآونة الأخيرة بروز الجيل الثاني من الدعاة الجدد، أو من يُطلق عليهم (دعاة السوشيال ميديا) الذين رافقوا بدايات الألفية الثانية، وها هم يتسلّقون العقد الثاني منها. ويتّسم هذا الجيل بالرغبة الجامحة في تحقيق هدفين: الصعود السريع عبر وسائط التواصل الاجتماعي المختلفة، والتكسب المادي من الدعوة؛ وعادة ما تكون الفتيات المراهقات الجمهور الأكبر لدعاة السوشيال ميديا، حيث يجذبهنّ الخطاب الدافئ والناعم في بعض الأوقات، الذي يصدر من هؤلاء الدُعاة، خاصة إن كنّ شابات، فيتحوّلن إلى معجبات بهم على غرار نجوم كرة القدم والفن، توازياً مع هواجسهنّ الحالمة بفتى أحلام أو شريك لهنّ يجمع بين التديّن والهيئة اللافتة.
ويرى زهران أن هذا أحد مخاطر توظيف الدعوة من قِبل جيل دُعاة السوشيال ميديا.
رهانات سياسية وأحصنة طروادية
في الباب الثاني ( رهانات سياسية وأحصنة طروادية)، يعرض المؤلّف لواقع بعض الجماعات الإسلامية في تركيا وتونس والمغرب والسودان وأندونيسيا، والتي حاولت الاستفادة من تداعيات جائحة كورونا على العالم عموماً، وعلى دول المنطقة بشكل خاص، من أجل نشر نفوذها وتثبيت ادعاءاتها الفكرية والمذهبية والسياسية في مواجهة سياسات الحكومات الغربية والعربية على السواء. وهي فشلت في محاولاتها على أي حال.
جماعة غولن التركية
يــزداد الحديــث عــن التقــارب الــتركي- المصري عــلى وقــع ســدّ الفراغ الناجــم عــن الســنوات التــي شــهدت اضطرابــاً في العلاقــات بينهــما منــذ أحــداث 3 تموز / يوليــو 2013 في مصر، ومــا أســفرت عنــه مــن انتهــاء حكــم الإخــوان المسلمين وعــزل محمــد مــرسي، عقــب انتفاضــة شــعبية طالبــت برحيلهــما، ومــا أبــداه الموقــف الــتركي حيــال الأمــر، الــذي أســهم في خلــق العديــد مــن المشــكلات والتوتّرات بــين الجانبين.
كانـت أولى تلـك الخطـوات التـي أقدمت عليها الدولـة التركيـة في ســياق التقــارب مــع مـصر، إيقــاف عــدد مــن البرامــج في فضائيــات يتــم بثّهــا مــن إســطنبول، وتقدّمهــا مجموعــة مــن الإعلاميين المصريين، كانـت موجّهـة بشـكل رئيـس نحـو الهجـوم عـلى أداء السـلطة السياسـية في مـصر، ومموّلـة بشـكل مبـاشر مـن قِبــل جماعــة الإخــوان، التــي تحظــر الدولــة المصرية أنشــطتها، وتضـع عدداً مـن قياداتهـا الهاربين عـلى قوائـم الإرهـاب.
بيْد أن هنـاك ملفـاً قـد يعنـي الكثير لـدى تركيـا، قد أغفلـه كثيرون في سـياق تتبـّع مراحـل التقـارب الـتركي- المصري، وانعكاسـاته عــلى الجانبين في بعــض القضايــا المشــتركة، ويتمثـل بشـكل دقيـق في انعكاسـات هـذا التقـارب عـلى واقـع ومسـتقبل جماعـة الداعية فتـح الله غولـن التركيـة المعارضـة، والتـي يتخـذ المئـات مـن منتسـبيها مصر مسـتقراً لهـم منـذ سـنوات، هربـاً مـن الملاحقـات الأمنيـة للجماعة داخل تركيـا.
ويمكــن القــول إن موقــف تركيــا مــن حركــة الخدمــة أو جماعــة غولـن أو مـا أطلقـت عليـه تسمية “الكيـان المـوازي”، يتماثـل بقـدر كبير مـع رؤيـة النظـام المصري – الإجرائيـة – لجماعـة الإخـوان مـن حيـث اعتبـار كلٍ منهـما قـوى خارجـة عـلى النسـق الـدولاتي، إذ حظـرت تركيـا أنشـطتها ومعاقبـة كلّ مــن ينخــرط في تنظيمهــا، فضلاً عــن توقيــف الكثير منهــم عــلى خلفيــة قضايــا تتعلــق بالإرهــاب، وملاحقــة كثيرين ممّـن فـرّوا خـارج البـلاد.
والســؤال الــذي يتبــادر إلى الذهن: هــل ستســعى تركيــا لإقنـاع مصر بمحاولـة إغـلاق منافـذ جماعـة غولـن التعليميـة والإعلاميـة عـلى غـرار مـا أقدمـت عليـه تركيـا مـع قنـوات الإخـوان، ووضــع خطــوط حمــراء لا يمكــن لأحــد مــن المصريين المقيمين عــلى أراضيهــا تجاوزهــا تجــاه مصر؟
هـل تقـود جماعة “العـدل والإحسـان” قاطـرة الإسـلام السياسـي في المغـرب؟
جـاء الاتفـاق الأخير بشـأن تطبيـع العلاقـات بـن المملكـة المغربيـة و”إسرائيــل”، عــلى هامــش موجــة التطبيــع القائمــة معهــا في عــدد مــن دول الخليــج العــربية والســودان، والحضــور اللافــت لرئيــس الحكومــة المغربيــة ســعد الدين العثــماني، ومــا يمثّله مــن خلفيــة إســلامية، ليثير العديــد مــن علامــات الاســتفهام حــول مســتقبل العلاقــة بــين القــوى الإســلامية في الداخــل المغــربي، بتنويعاتهــا الجماعاتيـة والحزبيـة والقضيـة الفلسـطينية مـن جهـة، وانعكاسـات هـذا الاتفـاق عـلى واقـع ومسـتقبل حـزب العدالـة والتنميـة، نظـراً لوجــوده -بصفتــه الحزبيــة والحكوميــة- عــلى رأس الفاعلين والمؤثّريـن في المشـهد المغـربي، مـن جهـة أخـرى، خاصـة مـع بـروز دور جماعــة “العــدل والإحسان” الإســلامية المعارضــة للاتفــاق، وحــزب العدالــة والتنميــة في آنٍ معــاً.
وعـلى الرغـم مـن كـون هـذا الاتفـاق المغـربي- الإسرائيـلي، في حـال إتمـام كل بنـوده، قـد يحقّق للدولـة المغربيـة مـا كانـت تطمـح إليـه منـذ نحو نصـف قـرن ويزيـد، باقـتراب تحقيـق سـيادتها عــلى إقليــم الصحــراء الغربيــة -المتنــازع عليــه- بدعــم أميركي، فــإن هــذه التطــورات لم تســتطع أن تقــف حائــلاً أمــام موجـة الانقسـامات التـي بـدت بشـكل كبير بـن الكتـل الإسـلامية الحزبيــة والجماعاتيــة المغربيــة، وتأرجــح مواقفهــا بــين مؤيّد ومعارض حيـال اتفاقيـة التطبيـع مـع دولة الاحتلال الإسرائيـلي.
تحوّلات الجهاديين في السنوات الأخيرة
في الباب الثالث والأخير “تحوّلات الجهاديين في السنوات الأخيرة”، يقرأ المؤلّف في المتغيرات والتحوّلات التي شهدتها الجماعات والحركات الإسلامية الجهادية (مثل الإخوان المسلمون والقاعدة وداعش) خلال السنوات الماضية، مبيّناً إخفاقاتها أو رهاناتها الفاشلة، وبالخصوص في بعض دول الخليج، مثل السعودية والكويت، والعراق، وصولاً إلى شبه الجزيرة الهندية، مع رصده الدقيق للدور الأميركي في هذه التحوّلات داخل الجماعات الجهادية، وتحديداً في مرحلة ما بعد وصول الرئيس الأميركي جو بايدن إلى سدّة السلطة قبل نحو عامين.
الساحة السعودية مسرح لمغامرات “الجهاديين“
تعايـش الدولـة السـعودية في السـنوات الأخيرة جملـة مـن التحوّلات السياســية والمجتمعيــة التــي أضحــت مثــار نقــاش داخــل المملكــة وخارجهــا، في حــين امتــدّت آثارهــا لتثير جــدلاً واســعًا في دوائــر صنـع القـرار الغـربي الـذي اعتبرها إعـلان إنهـاء لهيمنـة الإسـلام المحافـظ عـلى الـرؤى المتنوعـة للدولـة السـعودية، وخاصـة السياسـية والمجتمعيـة، وذلـك بعـد أن لفظـت وهّابيتهـا -القديمـة- وعملـت عـلى تدشين مشـهد عـلى النقيـض مـن سـالفه، أكثر ليبرالية وتحرريّة في آنٍ معًـا.
ويرى الكاتب أنه يمكـن التأريـخ لهـذا التحـوّل مـع صعـود نجـم الأمير الشـاب محمد بـن سـلمان، الـذي نجـح لحـدٍ بعيـدٍ في دفـع الشـباب إلى صـدارة المشـهد الإصلاحـي في المملكـة، بعـد أن قـدّم حزمـة مـن الإصلاحـات المهمـة عـلى كل المستويات، وخاصـة في المجالين الدينـي والمجتمعـي، نحـو مـا أسـماه الإسـلام المعتـدل، بعـد أن رزح تحـت وطـأة الإسـلام شـديد المحافظـة -حسـب وصفـه- ردحًـا مـن الزمـن؛ وكان عـلى رأس تلـك الإصلاحـات إعطـاء المـرأة السـعودية الفرصـة لممارسـات حُرمِت منهـا عـلى مـدار عقـود، كالسـماح لهـا بقيـادة السـيّارة، وغيرهـا مـن الأمـور التـي تعكـس حجـم التحوّلات التـي تعيشـها المملكـة، ومن ضمنها علاقة الدولة بجماعة الإخوان المسلمين، والتي كانت تمتلك نفوذاً مهماً في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، والذي انتهى قبل عامين بتصنيف الحكم السعودي لها كمنظمة إرهابية.
معضلة “طالبان” في المشهد الأفغاني
ينتقل المؤلّف للحديث عن حركة طالبان، ويراها تتبنّى رؤية إسلامية أصولية تنطلق من خلالها لتقدّم دولة أفغانستان كونها إمارة إسلامية. ظهرت حركة طالبان، أو (طلاّب العلم) بلغة الباشتو، في أوائل تسعينيات القرن الفائت انطلاقاً من شمال أفغانستان، ومن قلب المعاهد الدينية السُنيّة. حينها قطعت الحركة على نفسها أن تطبّق الشريعة الإسلامية في مناطق (البشتون) الممتدة من باكستان إلى أفغانستان. فمنذ انطلاق الحركة كان لعِرق البشتون القبلي عظيم الأثر في تمظهرات “طالبان” الفكرية ورؤيتها العقَدية حيال العالم من حولها، التي جاءت إلى حدٍ كبيرٍ ممزوجة بين الفهم الطالباني كـ(حركة دينية) للإسلام والآليات والممارسات البشتونية، فنتجت عنها نسخة (إسلامية طالبانية) أكثر حدّة وصرامة، مع قدرة على المواجهة والمجابهة أمام من يُناصبونهم العداء.
ويبيّن الكاتب أنّ “طالبان” استطاعت عام 1996 أن تُسقط مدينة (كابل) العاصمة، عقب الإطاحة بنظام الرئيس برهان الدين ربّاني، أحد الآباء المؤسّسين للجهاد الأفغاني؛ لكنها وقعت في جملة من الأخطاء، قادت إلى هزيمتها عام 2001، ولاسيما إيواءها لعناصر وقيادات فاعلة من تنظيم «القاعدة»، وعلى رأسهم أسامة بن لادن، زعيم التنظيم، ونائبه الطبيب المصري أيمن الظواهري، حيث شكّل الهجوم على برجي التجارة في نيويورك وتبنّي تنظيم القاعدة له نهاية لسيطرة طالبان على أفغانستان بعد الغزو الأميركي لأفغانستان في تشرين الأول/أكتوبر 2001. ويُضاف إلى ذلك إقدام الحركة على تدمير تماثيل بوذا التاريخية عام 2001.
ومنذ الإطاحة بها انتهجت “طالبان” سياسة حرب الاستنزاف في مواجهة ثالوث المواجهة: الولايات المتحدة الأميركية، والقوى العسكرية الغربية، والسلطة السياسية الأفغانية، طوال العشرين عاماً الماضية؛ لكنها استطاعت إجبار الولايات المتحدة على سحب قوّاتها من أفغانستان والسيطرة على مقاليد الحكم في خريف 2021.
الميادين نت