سيرة اليمين الإسرائيلي بشخص بنيامين نتنياهو [2]
تتناول هذه السلسلة الكتاب الجديد لبنيامين نتنياهو بعنوان «بيبي: قصتي»، وهو يتضمّن سيرته السياسيّة وسرديّة اليمين الصهيوني. أشرتُ في العدد الماضي إلى أنني لن أشير في الاستشهادات إلى عدد الصفحات لأنني قرأتُ الكتاب في نسخة إلكترونيّة وعدد الصفحات ليس نفسه باختلاف البرامج والإعدادات الشخصيّة للقارئ.
النرجسيّة السياسيّة لنتنياهو واستسهاله الكذب جعلاه قبل سنوات يزهو على الشاشات الأميركيّة أن الشعب العربي ليس معادياً له—حسب زعمه—بدليل أن كتابه عن الإرهاب كان الأكثر مبيعاً في بيروت وعمّان. طبعاً، لم يكن ذلك صحيحاً، وقراءتنا للصهاينة تدخل في باب معرفة العدوّ. وكان نتنياهو يُحاوِل أن يبهر الجمهور الغربي كأن هناك قوائم رصينة لأكثر الكتب مبيعاً في بيروت وعمّان. وهناك قائمة بأكثر الكتب مبيعاً في المعرض السنوي للكتاب في بيروت ولم يحتلّ كتاب نتنياهو القائمة، بالرغم من إعجاب محمد بن زايد ومحمد بن راشد ومحمد بن سلمان الشديد به.
ببساطة يروي نتنياهو قصص زيارته إلى لبنان عبر السنوات، إمّا عندما كان جنديّاً، وعندما كان دبلوماسيّاً في ما بعد. لبنان كان منذ تأسيسه بلداً مُشرّعاً أمام الصهاينة. ومنذ التأسيس، هناك أكثر من نصف الطبقة السياسيّة (ومن أكثر من طائفة) يتحالف مع إسرائيل ويخدم مصالحها بأمانة مقابل المال والخدمات السياسيّة. في سنوات الاستقلال الأولى، كانت إسرائيل تنعم بحلفاء في التكتليْن المتناقضيْن. بعد غزو لبنان في صيف ١٩٨٢، يقول نتنياهو إنه جال في الجبال فوق بيروت في سيّارة والتقى «بعض الزعماء المسيحيّين المتحالفين مع إسرائيل». يذكر نتنياهو أن الصحافة الأميركيّة كانت شديدة الانتقاد للغزو، ويقول إن الإعلام «العالمي» (قصده الغربي) تجاهل «العمليّات الإرهابيّة التي تسبّبت بالاجتياح». طبعاً، لم يكن هناك أي عمليات عسكريّة قبل الاجتياح، باستثناء محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن من قبل جماعة أبو نضال. كما أن العدوّ—ومعه حلفاؤه في ١٤ آذار—يلومون خطف جنديّيْن إسرائيليّيْن في لبنان في تمّوز ٢٠٠٦ على محاولة إسرائيل اجتياح لبنان. وكم كان طعم هزيمتها حلواً لنا.
ويروي عن عمله في السفارة الإسرائيليّة في واشنطن. كيف كانوا يعدّون المقالات لنشرها في الصحف، وكان هو يجنّد الكتّاب ويضع تواقيع القناصل الإسرائيليّين على المقالات المنشورة. لكنه في عمله سمحَ لبعض القناصل بكتابة مقالات، إذا نالت إعجابه. العمل الصهيوني في الغرب كان—ولا يزال—عملاً شديد التنظيم بعكس العمل العربي ضد الصهيونيّة (طبعاً، بحلول الغزو العراقي للكويت في عام ١٩٩٠، قرّرت سفارات الخليج القضاء على كلّ المنظمات العربيّة التي كانت تساهم في تمويلها، وكانت تلك المنظمات تكرّس جهداً لنشر وجهة النظر الفلسطينيّة في الغرب. ليس هناك من منظمة عربيّة واحدة تقوم بذلك العمل في أميركا اليوم). يعترف نتيناهو بأنهم ملأوا الصحف بمقالات تعبّر عن الموقف الإسرائيلي وتفنّد النقد ضد إسرائيل وضد غزو لبنان.
يتحدّث عن ظهوره على البرنامج السياسي، «نايتلايْن»، وهو كان برنامجاً مؤثّراً جداً في الثمانينيّات والتسعينيّات على شبكة «إي.بي.سي»، وأداره الإعلامي الشهير، تد كوبل. عرّفه ظهوره على البرنامج على ملايين الأميركيّين، لكنه يزعم، كذباً، أن كوبل هذا كان «حكماً» في الحوارات فيما لم يكن يخفي صهيونيّته في برامجه وفي ما كتبه (ظهرتُ على البرنامج مرتيْن، ونذكر كيف أن نلسون مانديلا أخرسه عندما ظهر ضيفاً على البرنامج وسأله كوبل بوقاحة عن علاقته مع عرفات والقذّافي). يقول إنه ظهر مع سفير عربي، لكنه لا يذكر اسمه. لكن انحياز الإعلام الأميركي يظهر في رواية نتنياهو عن ظهوره في البرنامج عندما يقرّ بأن كل العاملين في البرنامج كانوا يحيّونه مؤيّدين بعد انتهاء مقابلاته ويعطونه علامة الانتصار بالإبهام المرفوع. هذا الانحياز الإعلامي والفني لإسرائيل خفّ عبر السنوات، ربّما لأنه ليس هناك من نقاش حول إسرائيل بسبب غياب الإعلام العربي الرسمي عن منازلات ضد إسرائيل، وبسبب انخفاض نسبة تأييد إسرائيل بين الحرفيّين والإعلاميّين الليبراليّين.
مستوى العلاقة بين الحكومات الأميركيّة وإسرائيل يظهر من خلاف سرد نتنياهو عن عمله في السفارة في واشنطن. لم يكن سفيراً، لكن وزير الخارجيّة الأميركي يستدعيه بنفسه ليسأله رأيه في «المعركة ضد الإرهاب» وليأخذ باقتراحاته عن فرض عقوبات ضد «الدول الإرهابيّة». كم من المبادرات الأميركيّة والسياسات عن الشرق الأوسط تنطلق من تل أبيب، أو من السفارة الإسرائيليّة في واشنطن. يقول له جورج شولتز: «الإرهابيّون—طبعاً يقصد الفلسطينيّين واللبنانيّين هنا—ليسوا بشراً. هؤلاء حيوانات» (هلّلَ لشولتز بعض العرب عندما عيّنه رونالد ريغان وزيراً للخارجيّة لظنّهم أن عمله في شركة «بكتل» سيدفعه إلى مناصرة العرب. طبعاً، كان من أشدّ المتعصّبين ضد العرب طوال حياته). نتنياهو نجح في تسويق فكرة أن «الإرهاب» العربي يصيب الأميركيّين كما يصيب الإسرائيليّين، ودليله على ذلك أن اللبنانيّين رفضوا الاحتلال الأميركي في زمن أمين الجميّل كما رفضوا الاحتلال الإسرائيلي. سياسة «محاربة الإرهاب» (والتي تندرج تحتها كل برامج «مساعدات» أميركا للجيوش العربيّة) هي سياسة إسرائيليّة المنشأ والمقصد. وزير خارجيّة أميركا كان يكتب رسائل لنتنياهو في السفارة الإسرائيليّة. في رسالة له قال: «هذا الصباح في رحلة طويلة بالطائرة من واشنطن إلى مدينة بالي لاحظتُ أن الرئيس (ريغان) كان يقرأ كتابَك. عدة مرّات خلال الرحلة، زارني في مقعدي وعلّقَ على مقاطع في الكتاب وقرأها بصوت عالٍ لنا. أعطاني نسخة من الكتاب قائلاً إنّ عليّ أن أقرأ الكتاب، مُضيفاً: أريدك أن ترجعها لي». لا يبالغ نتنياهو عندما يتبجّح أن ما كان قد بدأ كفكرة في رأس والده عن الإرهاب العربي، بعد مقتل «يوني» في عنتيبي، تطوّرَ إلى سياسة أميركيّة جديدة وعدائيّة لمكافحة الإرهاب. على الذين يتدرّبون في الجيش اللبناني على مكافحة الإرهاب بإشراف الجيش الأميركي تقديم الشكر لنتنياهو—الحقّ يُقال.
ما جرى في الدوحة في مباريات كأس العالم يعاكس ما يقوله نتنياهو: لو تُرك العرب على سجيّتهم، من دون تسلّط الإعلام السعودي والإماراتي والقطري، لرفضوا وجود إسرائيل
الكتاب لا يخلو من الكتابة المحشوّة بالكليشيهات. يقول: «كتب التاريخ الجيّدة تضيء على الحاضر كما على الماضي». هل هذه فكرة جديدة لم يسبق لأحد أن قالها بكلّ لغات الأرض قبل نتنياهو؟ والتبجّح الذي غلبَ على مذكرات صائب سلام (هل تذكرونها؟) يسري في هذه المذكرات. الكاتب معجب بنفسه إلى حدّ الهوس. وهو لا يختلف في تنبؤاته عن تنجيمات ميشال حايك أو ليلى عبد اللطيف. يقول: توقّعتُ قبل أشهر من سقوط ألمانيا الشرقيّة أنها ستسقط، لكنه لم يخبر أحداً بذلك. أبقى النبوءة سرّاً من الأسرار كي يتحفنا بها في المذكرات.
ويتحدّث عن الإعلام العربي فينظِّر على طريقة الفكر الاستعماري العنصري الكلاسيكي: أن العرب والمسلمين لا يكنّون عداءً لإسرائيل—أو للاستعمار—وإنما هم مُضلّلون لأن عقولهم الرخوة قابلة للسيطرة والتحوير. هذا تماماً ما كان بيار الجميّل يقوله عن المسلمين قبل الحرب: أن عقولهم ليست معادية لفكر حزب الكتائب (المعادي للإسلام والمسلمين والعرب) بل إن المسلمين منقادون دون إرادة من قبل إعلام منظمة التحرير. يقول في حديث مع طالبة جامعيّة أميركيّة إن انفتاح الإعلام العربي بعد الانتفاضات في عام ٢٠١٠ سيكون له تأثير كرة الثلج (طبعاً، زاد انغلاق الإعلام العربي بعد ذلك التاريخ، وتقلّص عدد الأيادي التي تسيطر على الإعلام، يكفي مثال محطة «الجديد» التي كانت علّة وجودها، بقرار قطري، معارضة وذمّ النظام السعودي وهي أصبحت بوقاً للتحالف الغربي – الخليجي – الإسرائيلي). ما جرى في الدوحة في مباريات كأس العالم يعاكس ما يقوله نتنياهو: لو تُرك العرب على سجيّتهم، من دون تسلّط الإعلام السعودي والإماراتي والقطري، لرفضوا وجود إسرائيل بالمطلق ورفضوا استضافة «ضيوف» إسرائيليّين على الشاشات العربيّة، كما تفعل «الجزيرة» و«العربيّة» وغيرهما. عندما يتحرّر الشباب العربي سيفعلون ما فعله الشباب المصري عندما سقط نظام حسني مبارك وأحرق المحتجّون سفارة إسرائيل (ويتحدّث نتنياهو عن ذلك في ما بعد). التسلّط العربي هو الحماية الوحيدة لوجود سفارات إسرائيليّة على أرض العرب. يقول نتنياهو إن حريّة الإعلام ستهدّد الأنظمة، لكن تهديد الأنظمة صنو تهديد إسرائيل. إن البلاد ذات الحريّة الأكبر في التعبير (مثل تونس ولبنان) هي تلك التي تتضمّن أشدّ العداء لإسرائيل.
ويستسهل نتنياهو الكذب، فيقول إنه خلال عمله سفيراً لبلاده في الأمم المتحدة جمع في مدريد خلال مؤتمر «السلام» الأميركي عدداً من الصحافيّين العرب وفنّد لهم ببراعة كل مغالطاتهم. هو دائماً المنتصر في المناظرات، بشهادته هو. وأظهر لهم كم أن كل معلوماتهم خاطئة، لأن نتنياهو وحده يملك الحقيقة. وهذه الواقعة مختلقة من أساسها، وينفيها مسؤول عربي حضر المؤتمر. الصحافيّون العرب آنذاك كانوا يقاطعون المسؤولين الإسرائيليّين—كان ذلك قبل زمن التطبيع الخليجي والترويج لإسرائيل في «الشرق الأوسط» وصحف الإمارات. ويقول باستعلاء عن السفراء العرب في الأمم المتحدة إنهم لا يعرفون بديهيات تاريخ الصراع. كلّهم برأيه ضحايا استيعاب «أكاذيب البروباغاندا العربيّة». أي أن العربي الوحيد الذي يمكن أن يتحرّر من الأكاذيب هو العربي الصهيوني، مثل صديقه فؤاد عجمي.
وعن تاريخ الشعب الفلسطيني، يستعين نتنياهو بمقولات كتاب جون بيترز المزوَّر، «منذ القدم»، والذي يزعم أن لا وجود للشعب الفلسطيني وأن الشعب الفلسطيني المعاصر ليس إلا نتاج هجرة عربيّة حديثة جداً لأرض فلسطين. وكتاب بيترز تضمّن أكاذيب وتزويراً، إلى درجة أن الصهاينة الذين كانوا قد أثنوا عليه تنصّلوا منه بعد نشر مراجعات قاسية ومُفنّدة ضدّه. وقد نشر إدوار سعيد مجموعة دراسات في دحض مقولات الكتاب بعنوان «لوم الضحايا: المعرفة الأكاديميّة المزوّرة وقضيّة فلسطين». نتنياهو يقول إن الفلسطينيّين القدماء «اختفوا»، فيما بقي اليهود وحدهم على أرض فلسطين التاريخيّة. لكنه بعد مقطع من الأكذوبة يقول إن الأرض كانت «بصورة أساسيّة» تضمّ اليهود. حسناً، مَن هؤلاء الآخرون على الأرض؟ ويتحدّث نتنياهو بعنصريّة وقرف عن العرب على أرض فلسطين، فيقول «تدفّق العرب في سيول دائمة من المستعمرين. والاستيطان العربي هو عسكري محض. والعرب “عرّبوا” البلاد». ويزعم، من دون أي دليل تاريخي، أن العرب فعلوا ما لم يفعله الرومان، أي اقتلعوا اليهود من فلسطين. لكن لو كان هذا صحيحاً، فلماذا مع السرديّات الدائمة عن تاريخ الاضطهاد الغربي لليهود، ليس هناك من سردية صهيونيّة عن نكبة لليهود في فلسطين على يد العرب. كيف اقتُلع اليهود من أراضيهم وهم بقوا فيها على مرّ التاريخ، وإن كأقليّة صغيرة، بقرارهم، إلى أن صعدت الحركة الصهيونيّة وباشرت في الهجرة المنظمة برعاية الاستعمار البريطاني أو من دون مباركة السلطة العثمانية للمشروع الصهيوني قبل ذلك. ويعكس نتنياهو مسار التاريخ المعروف فيقول بصفاقة: «بناءً على ذلك، فإنه ليس اليهود هم الذين اغتصبوا الأرض من العرب، بل إن العرب هم الذين اغتصبوا الأرض من اليهود». أي أن الشعب الفلسطيني اغتصب أرض فلسطين ثم رحل عنها طوعاً، لأنه لم يكابده الشوق الذي كابد اليهود في غربتهم عن فلسطين. ويزيد صفاقة على صفاقة ليقول: «اليهود هم السكّان الأصليّون، والعرب هم المستعمرون».
ويُكرّر الأكاذيب الأولى للحركة الصهيونية وفق مقولة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». والعبارة هي للمسيحيّين الصهاينة في بريطانيا في منتصف القرن التاسع عشر، قبل أن يتلقّفها الصهاينة اليهود بشخص الصهيوني إسرائيل زنجويل. ويستشهد نتنياهو بمشاهدات الكاتب الأميركي العنصري، مارك توين. وكتاب توين، «مغامرات هكلبري فن»، يزخر بالتعابير العنصريّة ضد السود. وهو ذمّ بكلام مقيت السكّان الأصليّين في أميركا ودافع عن الإمبرياليّة، ورأى فيها تحريراً لشعوب أخرى، مثل استعمار هاواي. (لكنه عاد وغيّر رأيه في الإمبرياليّة ورأى أن استعمار الفيليبين لم يكن لتحرير السكّان بل لإخضاعهم). على هذا الرجل، يعتمد نتنياهو، لكن توين عندما زار فلسطين في ١٨٦٧ كتب أن الأرض قاحلة وجرداء. يدحض إدوار سعيد في كتابه «المسألة الفلسطينيّة» هذه الأباطيل ويذكّر أنه في عام ١٨٢٢ لم يكن هناك أكثر من ٢٤ ألف يهودي في فلسطين، أي أقلّ من ١٠٪ من السكّان. لكن صحيح أن الرحّالة الغربيّين المارّين في أرض فلسطين لم يكونوا يُعجبون بالفلاحين العرب لأنهم ليسوا في مرتبة البشر. على العكس، كانوا يجدون فيهم مادة خصبة للاستعمار. وكتاب بشارة دوماني «إعادة اكتشاف فلسطين: تجّار وفلاحون في جبل نابلس» يوثّق لحالة الازدهار والزراعة الفلسطينيّة تاريخيّاً. لكن المستعمر العنصري على نسق نتنياهو يحتاج إلى أساطير متخيّلة لتسويغ مشروع اقتلاع السكّان الأصليّين باسم ارتباط توراتي تاريخي، حتى من قبل أناس لم يطأوا أرض فلسطين من قبل. أي أن الارتباط المتخيّل أقوى عند الصهيونيّة من الارتباط بين ساكن الأرض والأرض. وليس من مُعين في سردية نتنياهو من الصهاينة إلا كتّاب عنصريّون لا ينظرون إلى شعوب دول آسيا وإفريقيا على أنهم بشر. لا يتورّع نتنياهو عن الاستشهاد بالقسّ البريطاني أرثر ستانلي الذي زار فلسطين في ١٨٨١ وكتب «في يهودا، ليس من المبالغة القول إنه لم يكن هناك مظهر حياة أو سكن على امتداد أميال». لكن لا يمكن الركون إلى نتنياهو في استشهاداته. تعود إلى الكتاب المذكور الذي يذكره من دون أن يكون قد قرأه (أي كتاب أرثر بنرين ستانلي، «سيناء وفلسطين: بالنسبة لتاريخهم») ليلاحظ أن الكتاب يحتوي على إشارات عديدة للسكان العرب في فلسطين. لكن الحقيقة هي أكبر تحدّ أمام الصهيونيّة منذ نشأتها. وعندما تكون الحقيقة ضد سرديّتك، فما عليك إلا اختلاق حقيقة أخرى وتسويقها على أنها حقيقة حقيقيّة.
وفي الإشارة إلى قرار التقسيم المشؤوم في عام ١٩٤٧ (كيف ننسى أو نغفر أن القرار حاز تأييد الشيوعيّين العرب؟ ومن الغرابة أن العرب سمحوا للشيوعيّين العرب بالنشاط بينهم بعد هذا القرار المقيت) يقول إن اليهود وافقوا والعرب رفضوا. طبعاً، لم يكن اليهود موافقين، ولا حتى على صيغة وعد بلفور (طمعوا بالأكثر دائماً، وكانوا يريدون وعداً ليس بـ«وطن قومي في فلسطين»، بل طالبوا بصيغة تقول بتحويل فلسطين كلّها إلى وطن قومي يهودي) ولا على الورقة البيضاء في ١٩٣٩. كانوا يعارضون بطريقتهم ثم يقولون في ما بينهم: نتصنّع الموافقة أحياناً ثم نطالب بالمزيد بعد ذلك. وعن الحرب في ١٩٤٨، يقول إن خمسة جيوش عربيّة انطلقت لتدمير الدولة اليهوديّة الجديدة «لكن اليهود انتصروا» بالرغم من أن عددهم وسلاحهم كان أقل من الذي بحوزة العرب. هذه كذبة أخرى طبعاً لأن تجهيز الجيوش العربيّة كان بدائيّاً، كما أن عدد اليهود المجنّدين كان نحو ثلاثة أضعاف جنود الجيوش العربيّة في عزّ المواجهة. يكفي أن نذكر أن بريطانيا سمحت بتشكيل جيش يهودي منفصل لمساندتها في الحرب العالميّة، وكانت تجهزهم مثل الجيوش الحديثة في ذلك الحين. يكفي أن تبحث عن صور وزير الدفاع اللبناني في ذلك الحين، مجيد أرسلان، كي تدرك جديّة العمل العسكري العربي في ١٩٤٨.
وهذا الرجل الذي يعيّر كل الدبلوماسيّين العرب في الأمم المتحدة لأنهم لم يكونوا مثله مطّلعين على تاريخ الشرق الأوسط والصراع العربي – الإسرائيلي يقول عن قبيلة قريش إنها «كانت قبيلة يهودية هائلة في شبه الجزيرة العربيّة». عندما يكون الكاتب على هذا الجهل من تاريخ الشرق الأوسط، فإنك تتأكد أن معيار الصدق والمعرفة عنده أدنى من كتب الاستشراق الكلاسيكي، على عنصريتها. ويمضي نتنياهو في جهله، فيتحدّث كيف أن محمّد وقّع «صفقة سلام» مع قبيلة قريش اليهوديّة، قبل أن يدمّر قبيلة قريش في ما بعد. هذا الرجل يعتمده الجمهور الغربي كمرجع أكاديمي عن السياسة والتاريخ في الشرق الأوسط، وملك البحرين تعاملَ معه على أنه نابغة من نوابغ العصر، وأن له الحقّ في وعظ العرب حول اهتمامهم المضرّ بالقضيّة الفلسطينيّة.
ويبدو من سرديّة الكتاب أن الملك حسين وزوجته، الملكة نور، تنافرا بشدّة مع نتنياهو. لكنه—أي نتنياهو، وحسب وصفه هو—انسجم في علاقته مع الأمير حسن (وليّ العهد السابق). ويزعم نتنياهو أن حسن فضّله على منافسه بيريز في الانتخابات.
(يتبع)
صحيفة الأخبار اللبنانية