هل تنهار “إسرائيل” من الداخل؟
عندما يتعرّض “الكيان الإسرائيلي” لسلسلة من العمليات العسكرية أو الإستشهادية، تبرز فكرة زواله وتهديد وجوده من جديد، فيتم مقارنته بأيِّ احتلال زال في التاريخ، مثل زوال الاحتلال الأميركي لفيتنام أو زوال الاحتلال الفرنسي للجزائر أو الاحتلال الياباني للصين.
بعد تولّي بنيامين نتنياهو رئاسة حكومة “إسرائيل” أخيراً، وخصوصاً بعد عملية القدس الأخيرة، عاد الحديث عن “خطر انهيار إسرائيل من الداخل”. هذا الأمر أعاد إلى الذاكرة كتاب “انهيار إسرائيل من الداخل” للمفكر المصري عبد الوهاب المسيري، الصادر عن دار المعارف في القاهرة.
يشير المسيري في كتابه إلى عناصر التشابه بين النازية والصهيونية، إلى درجة أن كثيراً من الصهاينة يستخدمون اصطلاح “نازي” عند حديثهم عن دعاة الحرب من المستوطنين، بل إن بعضهم يشير إلى جميع المستوطنين في الضفة الغربية بوصفهم نازيين، ويقوم اليهود الشرقيون (السيفارديم) بالإشارة إلى اليهود الغربيين (الأشيكناز) بأنهم “أشكي نازي”، أي تشبيهم بالنازييين.
ويؤكد عضو الكنيست الإسرائيلي السابق مايكل إيتان وجود تشابه كبير بين القوانين التي كان المتطرف الصهيوني مائير كاهانا قد اقترح تطبيقها على فلسطينيي 1948 في “الدولة” الصهيونية قبل قتله عام 1990، وقوانين “نورمبرغ” النازية التي طُبقت على اليهود، فيما يشير موشيه تسيرمان، المتخصص في التاريخ الألماني، إلى أن حركة كاهانا تستخدم عبارات مثل الشياطين والصراصير والأفاعي والسرطانات للإشارة إلى الفلسطينيين والعرب، وهي عبارات استخدم النازيون بعضها للإشارة إلى اليهود.
يلفت عبد الوهاب المسيري نظر القارئ إلى أن أعضاء الجماعات اليهودية لم يكونوا قط شعباً واحداً ذا “وحدة يهودية عالمية”، ويتسق بهوية واحدة، ويبحث عن “وطن قومي”، وأن القضايا الخاصة بالهوية اليهودية لم تحسم بعد.
ويبيّن المسيري ذلك بقوله: “ينقسم أعضاء الجماعات اليهودية إلى أقسام: أشكيناز وسيفادريم ويهود البلاد الإسلامية، وهناك جماعات يهودية هامشية لا حصر لها ولا عدد؛ فهناك السامريون الذين لا يؤمنون بالتلمود، ولا بمعظم العهد القديم، إنما يؤمنون بأسفار موسى الخمسة بنسخها المختلفة عن تلك المتداولة بين اليهود، ومركزهم في جبل جرزيم في نابلس المحتلة”.
ويضيف: “يعرّف السامريون عن أنفسهم بأنهم فلسطينيون، وأنهم السلالة الحقيقية لشعب بني إسرائيل، وينفون قدسية القدس في التوراة، ويرون في اليهودية انشقاقاً. ويتحدث أبناء الطائفة، التي تعتقد أنها تملك أقدم نسخة من التوراة، ويعود تاريخها إلى 3600 عام، اللغة العربية بطلاقة، إلى جانب اللغة العبرية اليهودية، كما يتقنون اللغة العبرية القديمة التي نزل بها التوراة، بحسب الباحث الديني الكاهن حسني السامري”.
يقول السامري: “علاقة السامريين بجرزيم تتمثل بأنه أقدس بقعة موجودة على الأرض. وقد ذكر في التوراة 13 مرة، فيما لم تذكر القدس مرة واحدة (…)، جرزيم هي بيت أيل (بيت الله كما ذكر في التوراة)… أملك كباحث ديني 120 حجة تشير إلى قدسية جبل جرزيم، فيما لا توجد حقيقة واحدة تشير إلى قدسية القدس لبني إسرائيل”.
ويضيف: “اليهود انشقوا عن الدين. لا يوجد يهود، بل شعب بني إسرائيل. انشقوا واتخذوا القدس مكاناً مقدساً لهم، تاركين قدسية جرزيم، وهناك 7 آلاف خلاف بين التوراة القديمة وما يدعيه اليهود الذين غيّروا حتى اللغة العبرية… هناك فجوة كبيرة بيننا”.
وهناك “القراءون” الذين تمردوا على التلمود وزلزلوا اليهودية الحاخامية من جذورها، ولم يبقَ منهم سوى بضعة اَلاف في كاليفورنيا وبعض مناطق روسيا و”إسرائيل”.
وهناك بقايا يهود كايفنج في الصين، وهم يعبدون يهوه الذي يسمونه “تين السماء”، ويتعبدون في معبدين يهوديين؛ أحدهما لعبادة الإله، والاَخر لعبادة الأسلاف. وبحسب المسيري، فهم لا يعرفون التلمود ولا التوراة، وملامحهم صينية، ويقدمون لأسلافهم لحم الضأن.
ويشير المسيري إلى يهوديتهم بأنها كونفوشيوسية تماماً مثلما نجد أن يهودية بني إسرائيل في الهند يهودية هندوكية. وهناك العشرات من الجماعات والطوائف والفرق اليهودية الأخرى.
يخبرنا المسيري أن قضية تعريف اليهودي ليست مجرد قضية دينية أو سياسية، لكنها “مصيرية” تتعلق برؤية الذات والعالم، كما تعد مصدراً لشرعية “الدولة العبرية” نفسها.
ويقول إنَّ المؤسسة “الصهيونية” الحاكمة لا تملك الحد الأدنى من الاتفاق على هذا السؤال: أي من هو اليهودي. لهذا، لجأت إلى تجاهله أو تأجيل النظر فيه، وتوصلت إلى “حلول تلفيقية مؤقتة”، ويتساءل: “هل يمكن تأسيس دولة يهودية من دون تعريف الهوية اليهودية، ومن دون التوصل إلى تعريف لليهودي؟ لائماً الإعلام العربي الذي لا يعطي هذه الإشكالية ما تستحق من اهتمام”.
ويضرب مثلاً قانون العودة الذي صدر بعد إعلان قيام “الدولة” عام 1948، والذي ينص على أن من حق كل يهودي أن يهاجر إلى “إسرائيل”، لكن واضعي هذا القانون لم يحددوا أي يهودي تحقّ له العودة، كما لم يعرفوا بالضبط ما اليهودية التي يؤمن بها هذا اليهودي، في ظل تعدد الموروثات الدينية والعرقية للجماعات اليهودية.
يوضح المسيري في كتابه “انهيار إسرائيل من الداخل” أن الصهيونية أيديولوجية عرقية نازية، فقانون العودة الصهيوني، الذي اعتبره ديفيد بن غوريون العمود الفقري للمستوطن الصهيوني، يفتح أبواب “إسرائيل” على مصراعيها لأي يهودي يود الاستيطان في أرض فلسطين المحتلة. وبهدف تأسيس دولة يهودية خالصة لا تختلف كثيراً في منطلقاتها عن الدولة النازية، علاوة على الممارسات الصهيونية الأخرى ذات الطابع العنصري الذي يبرر استخدام كلمة نازي، فإن “إسرائيل” تنكر هذا الحق الإنساني على أي فلسطيني اضطر إلى ترك وطنه تحت تهديد السلاح.
ويعطي المسيري مثلاً على ذلك قوانين الصندوق القومي اليهودي التي تنص على أن هذا الصندوق يقدّم الدعم لليهود وحدهم، كما أن أحد بنوده تقرر أنه لا يمكن تأجير أرض يمتلكها الشعب اليهودي لغير اليهود، ما يعني أن 90% من أرض فلسطين المحتلة لا يمكن لغير اليهود، أي العرب، أن يعملوا فيها أو في المستوطنات الزراعية المقامة عليها أو حتى أن يستأجروا شقة في عمارة مقامة على الأرض المحتلة.
يبيّن المسيري أنَّ الصهيونية ظاهرة استعمارية استيطانية، ومقاومة الفلسطينيين والعرب لها لا تختلف عن مقاومة الشعوب المقهورة للمستوطنين الغزاة، وهذه المقاومة ليست إرهاباً، إنما هي فعل من أفعال المقاومة.
يتحدث المسيري عن التعداد السكاني لليهود في العالم، ويشير إلى حقيقة سكانية مهمة تحرص المراجع الصهيونية على إخفائها، وهي أن غالبية اليهود كانوا خارج فلسطين المحتلة.
معنى “السلام الإسرائيلي“
يكشف المسيري حقيقة أدركها بن غوريون نفسه عام 1938، حين اعترف بأن مقاومة العرب ليست إرهاباً، إنما هي حرب قومية أعلنها العرب علينا. هذا الإدراك الصهيوني لحقيقة مشروعهم الاستيطاني وأبعاد المقاومة العربية وعمقها أدى إلى نشوء نظرية الجدار الحديدي التي طورها أرييل شارون إلى الجدار الفولاذي، وأكدها نتنياهو في كتابه “مكان تحت الشمس” في عبارة سلام الردع.
ويشير إلى أن مفهوم “السلام” لدى الصهيانة يعني تحويل الصراع الوجودي بينهم وبين العرب الفلسطينيين إلى “سلام التوافق” لا “السلام العادل”. هذا المفهوم مبني على عدة أسس:
أولاً: بناء الجدار الحديدي.
ثانياً: حماية الجدار الحديدي من محاولات تصديعه.
ثالثاً: هزائم مكلفة تؤدي إلى تحولات لدى الخصوم من عناد إلى اعتدال على استعداد للمساومة.
لذلك، المبدأ الأساسي لديهم هو فرض “السلام” بالقوة؛ “السلام” الذي يفتقر إلى العدل وعودة الحقوق المسلوبة. لذلك، فهم يتحدثون أمام الكاميرات فقط عن السلام والحوار والتفاوض والأخذ بيد العرب.
ويؤكد المسيري أن الفلسطينيين، بحسب التصور الصهيوني، هم كائنات غائبة (أرض بلا شعب) هامشية متخلفة لا تفهم سوى لغة القوةـ، وأنهم قد يكتفون في نهاية الأمر بدولة لا سيادة لها، وأن الوجود الفلسطيني أمر عرضي زائل، ولا بد من التخلص منه، إما بالطرق السلمية وإما الإرهابية، كما يتبنون مقولة بن غوريون الشهيرة “العرب لا يفهمون سوى لغة القوة”. وعندما يفاجئهم المقاوم الفلسطيني ببسالته وقوة إيمانه ليغيّر لهم كل حساباتهم العسكرية والأمنية، يتحولون إلى كائنات غوغائية ترتكب أبشع الجرائم ضد الفلسطينيين، كما يحدث اليوم.
هروب الشبّان الإسرائيليين من الخدمة العسكرية
بعد أن يسرد المسيري مطولاً عمليات هروب الشبّان الإسرائيليين من الخدمة العسكرية الإلزامية، والقدرة التشخيصية للأمراض النفسية التي تزايدت في “إسرائيل”، يعلق بقوله: “حالة الحرب المستمرة التي يعيشها المستوطن الصهيوني أمر لا يتحمله الجهاز العصبي للإنسان. لذا تتزايد الأمراض النفسية”.
ويقول المسيري إنَّ نظرية الأمن الإسرائيلي سقطت. ويضيف: “كان الوضع السائد حتى عام 1967 أن حرب إسرائيل ضد العرب هي حرب دفاع عن النفس، وكانوا يتحدثون عن طهر السلاح الإسرائيلي”.
ويبيّن أنه بعد بضعة شهور من حرب الاستنزاف، وجد الإسرائيلون أنفسهم في حرب استنزاف مع “عدوهم المهزوم” أي العرب، الأمر الذي دعا المؤرخ الإسرائيلي يعقوب تالمون إلى الحديث عن “عقم الانتصار”، ثم جاءت حرب 1973 والعبور العربي العظيم، وبعدها جاء غزو لبنان عام 1982، وهو “انتصار” إسرائيلي آخر عقيم جعل الإسرائيليين يتحدثون عن “المستنقع اللبناني” الذي غرقوا فيه، ثم اضطروا إثره إلى الانسحاب من جنوب لبنان في جنح الظلام نتيجة ضربات المقاومة اللبنانية، ثم هناك الانتفاضة الأولى عام 1987 وانتفاضة الأقصى…
وهنا، يكشف المسيري أن المستوطنين الصهاينة أدركوا أن ذاكرة العرب حية، وأن ذراع “الدولة” الصهيونية العسكرية القوية لا يمكن أن تضعهم في برج حصين، ولا أن تقدم لهم الحماية طوال الوقت.
باختصار شديد، إن الأيديولوجيا الصهيونية لم يعد لها مجال في المجتمع الصهيوني. وينقل المسيري عن إسحاق موردخاي، وزير الأمن الإسرائيلي السابق قوله إن انخفاضاً حاداً طرأ على مستوى الدفاع والرغبة القتالية في صفوف الشباب الإسرائيلي.
يعلّق المسيري على كل ما ورد في كتابه “انهيار إسرائيل من الداخل” قائلاً: “إنّ الفشل الأيديولوجي وتأكّل الأيديولوجية يولّد ما يسمى”أزمة المعنى”. وعادة ما تؤدي أزمة المعنى إلى إحساس بالعدمية يحاول الإنسان التغلّب عليها من خلال الاستغراق في عنصر مادي بشكل كامل: مثل شرب المخدرات، الإباحية، الاستهلاك، الذي يبحث الإنسان من خلاله عن قدر من الثبات والتوازن، إن لم يكن من اليقين، لكن ما يحدث هو العكس، إذ إن تصاعد الاستهلاك وإغراق الحواس فيه يزيد أزمة المعنى بدلاً من تهدئتها، ويزداد بذلك تأكل الأيديولوجيا”.
إن كتاب “انهيار إسرائيل من الداخل” يكشف أن إسرائيل غارقة في بحر من المشاكل. ولهذا اختصر المسيري طريق تحرير فلسطين بقوله:
“إن القضاء على الجيب الاستيطاني لا يمكن أن يتم إلا من خلال الجهاد اليومي المستمر ضده. وما نذكره من عوامل يمكن توظيفها لمصلحتنا كما هي، وهي تبيّن حدود عدونا، وأنه ليس قوة ضخمة لا تُقهر، لكنها في حد ذاتها لا يمكن أن تودي به أو أن تؤدي إلى انهياره”.
الميادين نت