إبراهيم نصرالله: هذه ليست سيرة
إبراهيم نصرالله: هذه ليست سيرة…كيف يمكن أن تكتُبَ سيرةً، سيرتكَ، ضمن القالب الأدبيّ الروائيّ، من دون الخوف من تصنيف العمل، فتلجأ إلى مسمّيات تخترعها كـ «سيرة أدبية» أو «رواية سيرية» أو غيرها، لتبرّر عدم التزامك بنوع السيرة؟ بكلّ بساطة، افعل ما فعله إبراهيم نصرالله، في روايته «طفولتي حتى الآن» (الدار العربية للعلوم ناشرون 2022) وسـمِّها «رواية»، لأنها ستكون روايةً، واجعل القارئ يستمتع بأسلوبك ولغتك وسيرتك الممزوجة بالمتعة.
تبدأ الرواية برحلات يخترعها الطفل إبراهيم في مطاره الوهمي، إلى أيّ مدينة في العالم قد يحلم بها وتحلم بها نور، صديقته أو حبيبته أو شريكته أو أخته أو ملهمته… لا تطالعنا الرواية بذلك، بل تستمرّ في تعميق حالة الحبّ التي تجمع هذين الطفلين. وتستمرّ في القراءة، إلى الحدّ الذي يجعلك تعتقد بأنه كان على الكاتب أن يضع عنواناً لنصّه «قصّة نور»، ولكنّ شخصيات الرواية الكثيرة تقوم بالدفاع عن حضورها كلّما تعمّقت في القراءة أكثر.
هي رواية طويلة (500 صفحة) صنّفها مؤلّفها ضمن سلسلة «الملهاة الفلسطينية» لا سلسلة «الشرفات». ومن يعرف نصرالله ويتابع مشروعه، يعرف كم هو حريص أثناء كتابة الملهاة على أن يضيء على تاريخ فلسطين، وتاريخ الفلسطيني في أرضه وتجذّره فيها، فمَن لا يعرف «قناديل ملك الجليل» و«زمن الخيول البيضاء» أو لم يسمع بهما؟
لماذا جاءت ضمن سلسلة «الملهاة الفلسطينية»؟ لأنها بكل بساطة تحكي قصّة فلسطينيين، عاشوا حياة فيها الكثير من تفاصيل الحياة العادية البسيطة، وكان الكاتب من بين هؤلاء، بين عائلته الصغيرة والكبيرة، وبين الجيران والأصحاب، وكان بينهم من يقوم بدور المدرِّس والمقاوم، والقارئ والكاتب، والموسيقيّ والحالم، وليس أعمق من حالة الجدّ، الذي وعدنا الكاتب برواية منفصلة عنه، وها هي تصدر بعنوان «شمس اليوم الثامن»، ذلك الجدّ، الذي أطلعتنا الرواية على قصّة حبّه التي لم تنتهِ إلا بموته، وأشعاره بالمحكية الفلسطينية، التي لم تكن شخصية الجدّ تتحدّث إلا بها، فلم نجده يقول كلمة واحدة إلا من خلال الشعر الشعبي.
أما الشخصية الأهم التي جاء حضورها في النصّ بالحضور نفسه لشخصية إبراهيم، الطفل الذي يريد أن يكون مثل كل من تأثّر بهم، فهي شخصية الأم التي أعطيت أكثر من لقب،كـ «وزارة التربية والتعليم» ومن ثمّ «وزارة المالية». لم تكن إلّا صورة الأمّ الفلسطينية الحقيقية، التي حمت ما تبقّى لها من إرث، وهو الجيل الجديد، من خلال حرصها على متابعة تحصيله العلميّ والحياتيّ. والمفارقة أنها لم تحرص على أولادها فحسب، ولا على أبناء المخيّم، بل على نفسها أيضاً، فقد خاضت دورات محو الأمية وطوّرت معارفها، لتستطيع مواكبة ما يحصّله الأبناء. وهنا تأتي الرمزية في أبهى صورها، فأمّ إبراهيم، وشقيقة محمود الشاعر والمقاوم، أنجبت فدوى لابنها إبراهيم، الذي ربط شاعريته واستمراريتها بأن يكون كإبراهيم طوقان، وعلى أمه أن تنجب له فدوى، لتكرّس الربط بين الحاضر ومتطلّباته، وبناء خطط المستقبل على أسس مدروسة، كما فعلت الأم هنا، إلا أن إصرار إبراهيم على فدوى، فدواه الخاصة، تأكيد على أنّ رمزية إبراهيم طوقان ودورها في مستقبل هذا الإبراهيم الجديد، الحائر بين أن يكون شاعراً أو روائياً أو موسيقياً… تبقى الأعمق، فمع كلّ الكتب والكتّاب الغربيين الذين قرأ لهم ذلك الفتى، وهم من تذكرهم الرواية وتذكر أعمالهم بتفصيل أحياناً، يبقى حضور إبراهيم طوقان، مع شخصية فدوى الطفلة التي بدأت تكبر، ويرعاها إبراهيم أكثر من رعايته لنفسه، ورعاية أمها لها، لتؤكّد أن الأصل والتراث هما الأساس، الذي نملكه، وتملكه أمتنا ويملكه شعبنا، وما علينا سوى الاستمرار… وبالعودة إلى الأم، فهي التي جاءت في مقابل المؤسسات الحقيقية، التي فشلت في أن تواكب ما يتطلبه المستقبل، بأنها لم تقُم بدورات محو الأمية التي كانت بحاجة إليها.
اللافت أنّ نور الحقيقية، قرأت ما كتبه صديقها طفولةً بعد أخرى، وهو الذي قسّم روايته إلى «طفولة أولى» و«طفولة ثانية»… وصولاً إلى الطفولة السابعة التي بقيت عنواناً ومعها تنتهي الرواية، تلك القراءة كانت في زمن الكتابة أيضاً، وهو زمن الوباء والحَجر، إلّا أنّ نصرالله، لم يحمّل روايته همّ الحجر وما رافقه، ولا ادّعى أنه يكتب زمنَ الحجر والأوبئة، بل أبقى على تعليقات بسيطة يرسلها إلى نور وترسلها نور إليه بين فصل وآخر، حول نوع الحياة الجديد، فقط من أجل إخبار القارئ بأنّ الرواية تُكتب في ذلك الوقت ليس إلّا.
شخصيات الرواية الأخرى، توزّعت في ما بعد في شتاتها الخاص: قاسم في جامعة الكويت، وبشير في جامعة عمّان، أمّا نور فقد أصبحت طالبة طب في جامعة القاهرة. كلّ ذلك قبل أن ينهي إبراهيم المرحلة الثانوية، ويأتي عدم التركيز على شخصيات انخرطت في العمل المقاوم، تأكيداً على أن عنوان الرواية «طفولتي» لا بدّ من أن يبقى مسيطراً. وهذا أمر بديهي بأن لا يقع كاتب كبير كإبراهيم نصرالله في فخّ كهذا. وقبل أن تنتهي الأحداث مع نهاية الطفولة السادسة، يأتي عنوان «زوم إن» ليؤكّد أن النصّ يحكي قصة أشخاص حقيقيين وهو سيرة في جميع الأحوال، فنتساءل: هل كلّ ما ورد هو حقيقي وليس إلّا أسلوب الكاتب المتمكّن من هذا الفنّ الأدبيّ! فيعدد الكاتب لنا أموراً من قبيل «6 أشياء يجب أن تُعرَف عن بشير» و«7 أشياء عن خالي محمود لم أكتب عنها»، وغيرهما، إلا أنّ عنوان «5 أشياء لم تعرفها نور عني» جاءت كلها على شكل نقاط الحذف (…) وهنا يردّنا الكاتب إلى أننا أمام رواية ليس إلّا، رواية ممتعة، لغةً ومضموناً وأحداثاً، بكاءً وابتساماً وتشويقاً، حبّاً طفولياً لمّا ينتهِ بعد.
ينهي الكاتب روايته بقصيدة لهُ، تنتهي بقوله: «خسرتُ كثيراً لأكسبَ نفسي، ظلالي مملوءةٌ بالمياه، وقلبي لمّا يزل بعدُ أخضر». أما في هذه القراءة، فنود الإنهاء بحدثٍ مرَّ في النص، وجملة قالتها نور. الحدث الذي فاجأ الجميع عندما غنّى أبو الفوارس، الفدائي العسكري الجادّ القياديّ، «أبو الفوارس غنّى؟ أبو الفوارس؟ سألَت غير مصدِّقة. لأقول نعم، غنّى، فهؤلاء الذين نظنّهم لا يغنّون، هم أطفال في أحيان كثيرة. والجملة التي لا بدّ أن تُذكَر هنا «الحرية متل الـمَي… من غيرها ما في شي حَي».
صحيفة الأخبار اللبنانية