قناة السويس والدولة المصرية
يحتاج تدشين عملية حفر المجرى الموازي لقناة السويس، من أجل اجراء تقييم له وما يعنيه بالنسبة للدولة في مصر العربية، للخروج من إطار الموقف من نظام الحكم القائم في مصر حالياً، سلبياً كان هذا الموقف أم ايجابياً أم بين بين، وذلك توخياً للدقة والعقلانية والموضوعية في التقييم.
أول ما يلفت النظر في تاريخ التدشين أن قناة السويس، منذ انشائها حتى يومنا هذا، قد مرت بمحطات امتدت من القرن التاسع عشر (المحطتان الاوليان) ثم القرن العشرين (المحطة الثالثة) ثم القرن الحادي والعشرين (المحطة الرابعة الحالية).
وإذا بدأنا بالتوقف عند الامتداد التاريخي لهذه الظاهرة، فإننا سنجد أنفسنا امام وزن مصر وطبيعتها ودورها في التاريخ العربي المعاصر.
لقد جاء انشاء قناة السويس كأهم ممر مائي في العالم يربط بين ثلاث قارات قديمة هي أفريقيا وآسيا وأوروبا، في المرحلة الثانية في بناء الدولة الحديثة في مصر العربية، بعد غزوة نابليون لها في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، وهي مرحلة محمد علي وابنه ابراهيم باشا، التي استغرقت النصف الاول من القرن التاسع عشر، وشهدت انشاء القواعد الصلبة للدولة الحديثة في مصر، برغم استمرار تبعيتها القانونية للامبراطورية العثمانية. ولعل مصر كانت متفردة من بين المناطق العربية التابعة لتلك الامبراطورية، بأنها انتزعت قبل قرن ونيف من انهيار الامبراطورية، استقلالا ذاتيا كان مكتملا الى درجة انه تمثل في بناء اقدم دولة حديثة ومركزية في التاريخ الحديث للمنطقة العربية بين المحيط والخليج.
اما المرحلة الثانية من هذه الظاهرة، فقد امتدت على النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتميزت بعهد الخديوي اسماعيل، المسؤول عن تنفيذ فكرة انشاء قناة السويس، برغم انها كانت حلم الدولة في مصر منذ ايام الفراعنة، لكن الأمر بقي حلما لم يتحقق الا على يدي الخديوي اسماعيل.
ولم يكن حفر قناة السويس هو العنوان البارز الوحيد في هذه المرحلة الثانية من انشاء دولة مصر الحديثة، بل استكملت بمشاريع حضارية أخرى عدة ذات طابع ثقافي (انشاء دار الاوبرا وافتتاحها في يوم تدشين قناة السويس) اضافة الى مسارح اخرى مهمة، وطابع عمراني باعادة هندسة شوارع كاملة لقلب مدينة القاهرة، وهو ما بقي واضحا في الهندسة العامة لمدينة القاهرة حتى يومنا هذا. صحيح ان انجازات الخديوي اسماعيل هذه كانت تنفيذا لنظريته بتحويل مصر الى قطعة من اوروبا، لكن الحلم هذا لم يستطع يوما نزع البلاد من انتمائها الجغرافي الفريد الذي ابدع في شرح عبقريته العالم جمال حمدان. ومع محطة حفر قناة السويس الاولى، شهدنا في عصر الخديوي اسماعيل نفسه، وبسبب ميله الشديد الى التبذير غير المحسوب في ميزانية الدولة، المحطة الثانية التي تمثلت بانتقال ملكية القناة الى الدوليتن الاستعماريتين الكبريين في ذلك الزمن فرنسا وانكلترا.
المحطة الثالثة في حياة قناة السويس جاءت في منتصف القرن العشرين في عصر ثورة «23 يوليو»، بقرار تاريخي من الزعيم جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس «شركة مساهمة مصرية»، كما جاء في نص القرار. وقد اعقب هذا القرار التاريخي العدوان الثلاثي على مصر، الذي فشل، وغرقت في قناة السويس، على تعبير المؤرخ اللامع ارنولد توينبي، الامبراطوريتان القديمتان للاستعمار: بريطانيا وفرنسا.
اما المحطة الرابعة، فقد جاءت في اعقاب ثورتي 25 يناير و30 يونيو في مصر، بقرار من الرئيس عبد الفتاح السيسي.
ان هذه الصورة البانورامية لقناة السويس منذ حفرها الاول، وحتى توسيعها الاخير، تدفعنا بغض النظر عن الموقف من صاحب القرار، ايجابيا كان ام سلبيا ام بين بين، الى الملاحظة والاعتراف بأن هذا المشروع المائي المسمى «قناة السويس»، هو احد ابرز الادلة الناطقة بمركزية الدولة في مصر ووحدتها وموقعها الدولي، وسط عالم عربي تتخبط فيه المجتمعات وسط هبوب الرياح العاتية.
صحيفة السفير اللبنانية