دروس من الحرب الأوكرانيّة في عامها الأوّل
1–تطوير منظومة صنع القرار جزء من الحرب
كانت العملية الروسية في أوكرانيا دليلاً إضافياً على أن دولاً كبرى تمتلك مؤسسات وأجهزة شديدة التخصص ذات موارد كبيرة في المجالات الأمنية والاستخبارية والسياسية والبحثية، يمكن أن تقع في مغامرات غير محسوبة بدقة. والأمثلة الأكثر حداثة مرتبطة بالولايات المتحدة في حروبها من فييتنام إلى أفغانستان والعراق. تحدث هذه الأخطاء نتيجة خلل بنيوي في عملية صناعة القرار ناتج عن ضغوط من المجال الوطني (انقسامات حادة وأزمات كبرى) أو ناتج عن خلل في قواعد صنع القرار أو العلاقات بين جهات صناعة القرار. هذا الخلل يُنتج تشويهاً في الخلاصات والتقديرات والتوقّعات تدفع هذه الدول نحو خيارات ترتكز على افتراضات خاطئة. كما تعاني القوى الكبرى أحياناً من الثقة المفرطة أو المخاوف المفرطة ربطاً بتاريخها ومجدها وصورتها وكبريائها واعتدادها بقدراتها المادية واتساع تعريفها لمصالحها واستنفارها الدائم للانقضاض عند الفرص المتخيّلة.
قامت السياسة الأميركية في أوكرانيا على مفهوم الواقعية الهجومية لتحقيق الهيمنة واستخدام أوكرانيا لاحتواء روسيا في مجالها الحيوي والتاريخي، وهو ما يجده الروس وصفة مثالية للقضاء على الأمة الروسية ورسالتها. ولذلك لم يكن أمام موسكو إلا إيقاف المشروع الأميركي في أوكرانيا، والذي تنشّط عام 2014، إلا أن الاستراتيجية الروسية لتحقيق ذلك بُنيت على افتراضات خاطئة أبرزها الاستخفاف بالحافزية الأميركية لإيقاف تدهور التحالف الغربي وقدراتها المؤسساتية في مجال الدفاع والدبلوماسية وعدم المعرفة الدقيقة بواقع بناء القوة العسكرية الأوكرانية وصلابة الحسّ القومي الأوكراني المعاد تشكيله على قاعدة الكراهية لروسيا وفق عملية ممنهجة شاملة رعاها الغرب. وهكذا قدّر بوتين أنه سيخوض عملية خاطفة ضد نظام ضعيف ومعزول فإذ به أمام حرب واسعة في مواجهة «الناتو» مجتمعاً.
الدرس المستفاد هنا أنه في عالم شديد التعقيد والتداخل على من يريد المشاركة في صراعات ومنافسات معقّدة أن يحسّن ويطوّر منظومة صناعة القرار لديه بما يضمن الإحاطة المعلوماتية الوافية والقدرة على معالجتها بشكل منهجي وتكاملي والتعلّم السريع ومعرفة حدود الإيديولوجيا، حينها لا بأس من بعض المخاطرة في الوقت الصحيح. إن المشاكل التي تصيب السياسة الداخلية أو بنية الفاعل السياسي قد تنعكس في كفاءة إدارة الصراعات والتنافسات، ما يسهّل على الخصوم ممارسة التضليل والخداع والاستدراج. إن صيانة منظومتك وتطويرها وتحسينها تستدعي إجراءات مكلفة أو فيها مخاطرة أحياناً (مثل إثارة تنافسات داخل النظام السياسي) لكنها جزء من استراتيجية المواجهة.
2–أميركا تستفيق، لكن عند الظهيرة
في العام الأول للحرب كان الأداء الأميركي ذا كفاءة ظاهرة، سواء في حشد الغرب أو تثبيت قدرة المواجهة الأوكرانية أو تكبيل الخيارات الروسية أو إدارة البيئة الدولية. فالولايات المتحدة وإن كانت في مسار تراجع تاريخي لكنها لا تزال تمتلك ميزات تفاضلية في عدة مجالات. لكنّ النقطة المركزية هنا أن واشنطن تبذل وسعها لمحاولة القيام بصحوة تاريخية تستنهض فيها كل محرّكات القوة لديها وذلك بسبب إجماع النخبة الأميركية على أن موقع بلادها في النظام العالمي أمام اختبار استثنائي يتغذّى بمستويات قياسية من الاضطرابات الداخلية. هذه الصحوة اختبرتها واشنطن في نهاية الستينيات من القرن الماضي عندما تنبّهت إلى مقدار التقدم التكنولوجي السوفياتي والاحتمالات الكارثية لذلك على صراع القوتين النوويتين. لذلك لم يكن أمام واشنطن خيار خسارة الحرب الأوكرانية وهي في بداية مسار منافسة شرسة طويلة الأمد مع الصين بنسخة محدّثة من الحرب الباردة.
تكابد المؤسسة الحاكمة في واشنطن لأن تشهد السنوات القليلة المقبلة تزخيماً أميركياً شاملاً في السياسة الدولية يشمل تسريع بناء القدرات العسكرية الرادعة وتعزيز الشراكات الدولية وتكاملها ومحاولة اختراق دول الجنوب واستنهاض عناصر القوة الداخلية وترميم وصيانة مؤسسات النظام الدولي الحالي. وهذه مهمة شاقة، فالانقسامات الأميركية الداخلية المتصاعدة، إن لم تُسيطر عليها المؤسسة الأميركية، أكثر ما تظهر في اضطرابات السياسة الخارجية الأميركية، كما أن البيئة الدولية تشهد انزياحات بنيوية من الصعب احتواؤها.
مما يمكن أن يستفاد من هذا الأمر إنجاز فهم دقيق للوضعية الأميركية في لحظتها التاريخية الحالية، فلا نبالغ في استعجال أفولها أو التقدير بخسارتها للمبادرة ولا يدفعنا زخمها الظاهر إلى تجاهل مشاكلها البنيوية. في منطقتنا تريد واشنطن تجنّب حروب كبرى ولكن مع جهود مكثّفة لتطويع محور المقاومة والدول المتأرجحة ضمن استراتيجيتها الكبرى لملاقاة التحدي الصيني، إلا أنها تريد أن يكون عامل الوقت في صالحها من خلال بناء منظومة حلفائها وتقويض منظومة المقاومة من خلال:
(1) الردع العسكري حتى تتمكن من ممارسة (2) الخنق و (3) الاختراق مع تقليل احتمال حصول تصعيد واسع نتيجة لذلك.
انطلاقاً من هذا التقدير تواصل قوى المقاومة بناء قدرات عسكرية لا متماثلة ودقيقة معزّزة تكنولوجياً مع رفع الروح القتالية والتعبئة الثقافية وتطوير هوامش من المناورة والمخاطرة الميدانية. إلا أنها تبقى في حاجة ماسّة إلى استنهاض كبير في مجالات الحرب التركيبية/المنطقة الرمادية أي حملات المعلومات والقوة الناعمة والاقتصاد والسايبر والحرب السياسية. وهذا الاستنهاض من شروطه المرونة والجرأة في النظر إلى بنية منظومة محور المقاومة لناحية كفاءة المؤسسات وقواعد العمل والتعاون البيني وآليات صناعة القرار وإنتاج النخب والأفكار وصيانة المشروعية الشعبية وتشبيك المصالح وتعزيز عناصر الهوية المشتركة…إلخ.
3– تمرّد دول الجنوب: عالم منقسم
في موازاة نجاح واشنطن في حشد المعسكر الغربي كان مستغرباً لها معاندة ما يُسمّى دول الجنوب العالمي بما فيها القوى الصاعدة اللحاق بالسياسة الأميركية وواصلت علاقاتها مع روسيا ولو أنها أبدت رفضاً مبدئياً للحرب في أوكرانيا. فقد واصلت دول مثل تركيا والسعودية والهند وإيران وباكستان والإمارات التعاون مع روسيا في ملفات حيوية ذات مصالح مشتركة (التسلح، الطاقة، الالتفاف على العقوبات). كذلك أظهرت استطلاعات الرأي العالمية تأييداً مرتفعاً لكل من الصين وروسيا في مجمل دول الجنوب. وقد كشفت الحرب الأوكرانية عن تركّز المواد الأولية والطاقة ومصادر الغذاء والمعادن النفيسة في دول الجنوب وتبعية جزء كبير من سلاسل التوريد العالمية لها. هذا الأمر كان من محفّزات الاندفاعة الأميركية نحو أفريقيا أخيراً وإعادة تأكيد التزامها الأمني في منطقة الخليج.
عالجت جامعة كامبريدج أخيراً عدداً كبيراً من الاستطلاعات (شملت 137 دولة) لتصل إلى نتيجة مفادها أن العالم منقسم بحدّة بين غالبية وازنة مؤيدة لروسيا والصين في الدول «غير الليبرالية» (6.3 مليارات نسمة) وغالبية وازنة معارضة لها في الديموقراطية الليبرالية (1.2 مليار نسمة). وظهرت مفاعيل هذا الأمر خلال فعاليات مؤتمر ميونيخ للأمن (شباط 2023) حيث أظهرت القوى الغربية قلقها من مواقف دول الجنوب التي تبدو محبطة من النظام العالمي الذي يتجاهل مصالحها ويتصف بازدواجية المعايير والسعي للهيمنة، وهو موقف تستغله روسيا والصين للتشبيك الاقتصادي وبثّ سردياتهما السياسية. ولذا صدرت توصيات للاستماع إلى مخاوف دول الجنوب وتعزيز التعاون معها فيما تواجهه من تحديات اقتصادية وتنموية وصحية وكذلك إصلاح المؤسسات الدولية لمنح بعض هذه الدول جوائز ترضية.
إن تزايد أعداد الدول «المتأرجحة» الباحثة عن منافع اقتصادية أو استعادة مجالاتها الحيوية أو استقرار أنظمتها السياسية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية يولّد فرصاً أمام القوى المعادية للمنظومة الأميركية (ولا سيما من تمتلك مواردَ طبيعية أو موقعاً جيوسياسياً هاماً أو أسواقاً كبيرة) للتعاون الإقليمي والمشروعات المشتركة والالتفاف على أنظمة العقوبات (تبادل بالعملات المحلية أو تبادل سلعي أو البيع بأسعار مخفّضة). إن استمرار هذا المسار من انفكاك المصالح بين المنظومة الغربية ودول العالم الصاعدة والنامية يتيح نشوء نظم تشاركية بديلة (اقتصادية ومالية وتنموية وسياسية) ستسرّع في حال نجاحها التحوّل في البيئة الدولية لاستيلاد بديل لنظام ما بعد الحرب الباردة.
4– واشنطن عاجزة عن تقسيم منافسيها
ربما كان من محفّزات القرار الروسي للافتراض أن الأمر لن يستلزم أكثر من عملية عسكرية خاصة هو الاعتقاد بأن واشنطن ستجد مصلحة كبرى في الاعتراض المحدود على العملية الروسية لتحييد موسكو بعيداً عن الصين. بكل الأحوال ظهر أن واشنطن فضّلت بدل استرضاء موسكو ضربها وذلك على قاعدة عندما تواجه خصمين ابدأ بالأضعف. وكذلك في مسألة إيران فإن المقاربة الأميركية قلّصت مساحة التفاوض والتسوية فدفعت بطهران نحو تعميق الاتجاه شرقاً. وما يدفع واشنطن في هذا الاتجاه هو أن حافزية القوى المناوئة لها للمواجهة مرتفعة وتستشعر جميعها بأنها أمام لحظة تحوّل تاريخية لن تفرّط فيها ولن يغريها «الجزر المسموم».
هذه النقطة مدار جدل أميركي، حيث هناك من ينتقد مقاربة إدارة بايدن لأنها تتجاهل أنه في ما عدا الموقف المشترك للعداء تجاه واشنطن فإن مصالح القوى الثلاث ليست متجانسة وأنه من الأفضل تحييد الأضعف والاستفراد بالصين. في حين أن مقاربة الإدارة الأميركية تجد أنه لا ينبغي التسامح مع أيّ من القوى الثلاث حتى تستعيد واشنطن مصداقيتها أمام حلفائها في أوروبا والباسيفيك والشرق الأوسط وتتمكّن من تعزيز رواية ثنائية للعالم استبداد/ديموقراطية أو مع النظام الدولي/ ضد النظام الدولي، وذلك كشرط ضروري لإعادة بناء تحالفاتها حول العالم التي بدأت تتفكك بعد الحرب على العراق عام 2003. في هذا السياق تجهد واشنطن لعزل المناوئين عن سلاسل التوريد ولا سيما في المجالات الحساسة، كما أنها تسرّع عزل أوروبا طاقوياً عن روسيا، لمحو أي أشكال من التبعية الغربية للقوى الصاعدة في كل المجالات الممكنة.
إلا أن واشنطن تسعى بجدّ لإضعاف روابط هذه الدول، فهي تضغط بجهد مركّز (الردع بالتهويل والتحذير والكشف حالياً) على الصين لمنعها من تقديم مساندة واضحة لروسيا، وحينها تستخدم ذلك لإضعاف صورة الصين كقوة دولية صاعدة يمكن الاتّكاء عليها. ومن هذه الزاوية فإن مقدار السخط الغربي من استخدام روسيا لطائرات مسيّرة إيرانية، عدا تأثيره الميداني، يرتبط بالقلق من نجاح اختبارات التشبيك والشراكة بين هذه القوى. كذلك تتكثّف الضغوط لإبعاد الشركات الصينية عن أسواق الدول المتأرجحة عبر حملات التشويه (الديون الصينية الجائرة) والتلويح بالعقوبات والتشكيك في الجدوى والإغواء بالبدائل. إن تعزيز التعاون بين الدول والقوى المناوئة لواشنطن ينبغي أن يُبنى على إدراك لحدود المصالح المشتركة بينها، وتنمية ما يمكن من منافع متبادلة وتعزيز أشكال التواصل والحوار من خلال الأطر والمؤسسات الثنائية والمتعددة ولا سيّما حول البدائل السياسية والاقتصادية والمالية والتكنولوجية، وإجراء المساومات اللازمة، ومراكمة قصص النجاح. قد تكون شراسة التحالف الغربي في فرض العقوبات على روسيا دفعت بالقوى الأخرى للحذر، إلا أنها في الوقت ذاته كشفت لها أن النهوض من داخل بنية النظام الدولي القائم محكوم بالفشل.
5– عسكرة التحالف الغربي
مثّلت الحرب الأوكرانية فرصة ذهبية لواشنطن لدفع حلفائها حول العالم نحو إعادة بناء قدراتهم العسكرية والسماح لهم بإعادة التموضع والانتشار داخل دولهم وفق ما تراه مناسباً. ففي جوار الصين انطلقت عملية عسكرة شاملة لمنطقة الباسيفيك تشمل أستراليا واليابان والفيليبين وكوريا الجنوبية وتايوان. وفي أوروبا عادت ألمانيا إلى مسار التسلّح ورفعت العديد من الدول الأوروبية النسب المخصّصة للموازنة العسكرية من موازناتها العامة، فيما عزّزت واشنطن من حضورها العسكري في أوروبا الشرقية. أمّا في الشرق الأوسط فقد أطلقت واشنطن جملة مبادرات للتشبيك والدمج والتكامل العسكري والأمني ولا سيما في المجال البحري والصاروخي بالتزامن مع ضم كيان العدو الإسرائيلي إلى القيادة الوسطى الأميركية. مهما كانت نتيجة الحرب، ستكون واشنطن حريصة على إعادة بناء أوكرانيا -أو ما تبقّى منها- ولا سيما عسكريّاً وأمنيّاً واقتصاديّاً لتتحوّل إلى تحدٍّ حيوي مستدام لروسيا، ما يجعلها مجرد قوة إقليمية مأزومة عاجزة عن المبادرة الدولية. بل وتظهر دعوات لإقامة حلف وارسو جديد يضمّ إلى أوكرانيا بولندا ودول البلطيق.
هذا المسار يستهدف رفع قدرة الردع الأميركية ضد المنافسين الدوليين لمنعهم من تطوير مصالحهم ونفوذهم وتقييد قدرتهم على الاستجابة لمحاولات الخنق والاختراق الأميركية، ولاستتباع الحلفاء عسكرياً وإعادة ضبط الدول المتأرجحة. وقد كشفت الحرب عن التراجع الكبير في قدرات التصنيع العسكري في الغرب وهذا ما يظهر أخيراً في انخفاض إمداد القوات الأوكرانية بالذخائر، وهو ما دفع واشنطن، كما موسكو، لإعادة توجيه نسبة من جهود التصنيع المدني نحو المجال العسكري. هذا التوجه سيفرض ضغوطاً حادة على اقتصادات دول التحالف الغربي قد تثير انقسامات داخلية، كما سيعيد استحضار المخاوف التاريخية بين هذه الدول نفسها ولا سيما مع موجات القومية السائدة.
إن الحرب، وإن أكدت على الميزات التفاضلية الهامة للتكنولوجيا في المجال العسكري ولا سيما في ما يخص الاستخبارات (جمعاً وتحليلاً) والذخائر الدقيقة (صواريخ، قذائف ومسيّرات) والتشبيك الكُفُؤ للأذرع العملانية وتكاملها والإدارة الاستراتيجية، إلا أنها أيضاً أعادت التأكيد على الأهمية الحيوية لكفاءة وقدرات المقاتلين (ولا سيما ضباط الميدان) ومهاراتهم في ابتداع الحلول الميدانية والتفكير المستقل عند الضرورة، والتعامل مع التفوّق التكنولوجي للعدو (عبر الانتشار المكثف والحركة الدائمة والتخفّي المتقن والاستخدام الفعّال للتكنولوجيا اللامتماثلة المتاحة بكلفة معقولة) والقتال ضمن تشكيلات لامركزية صغيرة شديدة المرونة، إضافة إلى الحوافز المعنوية والروحية العالية.
6– القومية هي الحصن الأخير
أكدت الحرب الأوكرانية المزايا العالية لتحشيد الحسّ القومي واستثماره في المنافسات الجيوسياسية. فقد أتاحت القومية الأوكرانية الجديدة الصاعدة منذ عام 2014 برعاية غربية بناء قوة عسكرية مندفعة ومتماسكة ذات عمق اجتماعي صلب، وفي المقابل يجري شحن الحس القومي الروسي بناءً على فكرة أن ما يجري حرب حضارية تستهدف اقتلاع الأمة الروسية، وهو ما يحصّن الرئيس بوتين شعبياً حتى الآن على الرغم من الأداء العسكري المتواضع لقواته. في المحصّلة يجري تظهير القومية على أنها تعني السيادة الوطنية وإرادة الشعب والخصوصيات الثقافية والدينية في مقابل مشروع غربي استعماري متجدد لاختراق الدول ومصادرة قرارها والفتك بعناصرها الحضارية والثقافية بهدف استتباعها ومصادرة ثرواتها. بالمناسبة زخرت العديد من الصحف الغربية في السنوات الأخيرة بكتابات نقدية للاتجاه النازي الصاعد في أوكرانيا ضد السكان من أصول روسية والرموز الروسية، فيما يصرّ الخطاب الرسمي الغربي على أن الحرب في أوكرانيا هي ضد حكومة ديموقراطية.
يشخّص التيار العولمي النيوليبرالي الموجة القومية تهديداً خطيراً بزعم أنه يجري استغلالها رافعة للأفكار المعادية للديموقراطية والحريات الفردية وانفتاح الأسواق والعقلانية. ولذا ظهرت نقاشات ليبرالية في السنوات الأخيرة حول كيفية سحب مسألة القومية من يد الجهات غير الليبرالية وإجراء مصالحة بين الليبرالية والقومية. وما يُقلق المؤسسة الأميركية أن انتصار النماذج القومية حول العالم يعزّز من سطوة التيار اليميني الجديد في الولايات المتحدة، وفي المقابل تجهد الإدارة الأميركية الحالية لإقناع الأميركيين أن السياسة الخارجية الأميركية المعولمة هي ضرورة للطبقة الوسطى الأميركية. وتتبنّى أعداد متزايدة من الفواعل السياسية الاستثمار في الرموز القومية أساساً متيناً لبناء هوية صلبة متماسكة تجعلها أكثر قدرة على تعبئة المجتمع (أو جزء منه) وضبطه وإدارته في سياق مشروع سياسي محدد. وفي ما يخص القوى خارج المعسكر الغربي تحديداً فهي تجد في القومية حصناً يحقق نوعاً من التوازن اللامتماثل أمام العدائية الأميركية، مع ميل إلى دمج القومية بمصدر آخر للمشروعية ذي طبيعة دينية أو إيديولوجية.
إن هذه الممارسة القومية تتّسع في منطقتنا في السنوات الأخيرة، مرة بفعل الضغوط الأميركية لخلق تناقضات متأصّلة بين شعوب المنطقة، ومرّة بفعل حاجة أنظمة الحكم إلى التمترس خلف هوية صلبة لتجاوز التحديات الداخلية والخارجية. وكثيراً ما يثار النقاش حول علاقة الهوية القومية بتلك الوطنية أو الدينية، وتجري محاولات للمصالحة بين هذه الهويات أو بعضها كما في تركيا وإيران والسعودية. إن الضغوط العنيفة لرموز الثقافة الليبرالية المعولمة على مجتمعاتنا تولّد حاجة إلى توليف أكبر قدر من الرموز المشتركة التي يمكن أن تحدّ من احتمالات الاختراق الثقافي، وهنا تظهر دعوات لإحياء الرموز الآسيوية في هويات شعوب منطقة غرب آسيا كخط دفاع إضافي وجسر نحو علاقات أعمق مع القوى الآسيوية الصاعدة.
خاتمة
المعضلة الكبرى في أوكرانيا أن الهزيمة كارثية، سواء لواشنطن أو موسكو، ووجودية بالنسبة إلى أوكرانيا، وهذا ما يولّد الترجيح القائل بأن لا تنتهي الحرب الأوكرانية بنصر حاسم لأيّ من الطرفين بل أن تتحوّل إلى معركة منخفضة الحدّة في الفترة المقبلة في ظل سيطرة للقوات الروسية على معظم الأراضي في المقاطعات الأربع أو فقط في الدونباس (أي بدون خيرسون وزاباروجيا). بعدها يعود الطرفان لالتقاط الأنفاس واستخلاص العبر ومراكمة عناصر القوة وانتظار اللحظة السياسية المؤاتية لمواصلة القتال بشكل واسع.
يقال إن الاستراتيجيات تُبنى على طموحات متفائلة للمستقبل وعلى مآسٍ قاسية من الماضي. لا شك أن الحرب الأوكرانية، التي ما زالت نتائجها مفتوحة على كل الاحتمالات، ستترك تأثيراً كبيراً على عمليات صناعة القرار وإعادة فهم الحرب الحديثة وبناء القوة العسكرية وعلى مسار صراع القوى الكبرى خلال القرن الحالي. بدون نصر حاسم يمكن لكل طرف تقديم روايته للانتصار في موسكو وكييف وواشنطن، أمّا الآخرون فانتصارهم في هذه الحرب يكمن في أن تتحسّن فرصهم بالفوز حين يأتي دورهم.
صحيفة الأخبار اللبنانية