«عاملة متجر البقالة» قالت لا للمجتمع
«عاملة متجر البقالة» قالت لا للمجتمع… « الجحيم هو الآخرون»، عبارة شهيرة كتبها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في مسرحية «الأبواب المغلقة» (1947) وأراد أن يظهر لنا من خلالها أثر الآخرين في صياغة وجودنا، فالطريقة التي نتفاعل بها في المجتمع، وتلك التي ننظر بها إلى أنفسنا سواء أكانت سلبيّة أم إيجابيّة، هي إلى حدّ كبير نابعة من حُكم الناس علينا. يحضر الآخرون دوماً بعيونهم الوقحة المتطفّلة كي يراقبوا حياتنا، ويقيّموها وفقاً لمعاييرهم الخاصة، فنشعر بأننا محاصرون، بحاجة دوماً إلى تجميل ذواتنا بغية إرضائهم. في رواية «عاملة متجر البقالة» للكاتبة اليابانية ساياكا موراتا (صدرت نسختها العربية أخيراً عن «دار أثر» ـــ ترجمة محمد نجيب)، نتابع قصة كيكو، وهي امراة عازبة في الثلاثينات من عمرها، تعمل منذ أمدٍ طويلٍ في متجر للبقالة.
تروي كيكو قصتها وتواجهنا بـ «شذوذها» الاجتماعي منذ البداية، فهي قد عانت منذ نعومة أظافرها بسبب اختلافها عن الآخرين وأسلوب تفكيرها الفريد الذي لا يتماهى مع تفكير الجماعة، بالإضافة إلى عدم قدرتها على فهم اهتمامات ومشاعر الناس حولها. على امتداد صفحات الرواية، تبحث كيكو جاهدة عن طريقة تُمكِّنها من الاندماج في المجتمع والظهور كشخص «طبيعيّ» لكي تهرب من نظرات الآخرين التي تثير قلقها كونها عاجزة عن استبعاد آرائهم بها.
بعد تخرجها من الجامعة، تجد كيكو فرصتها للتحول إلى «امرأة طبيعيّة» في العمل بدوام جزئي في أحد متاجر البقالة. تتلقّى دورة مُكثّفة حول كيفية الكلام مع الزبائن والتصرف بلطف وترتيب رفوف المتجر. تحفظ كيكو التعليمات وتُطبّقها بحرفيّة عالية كأنها روبوت مُصمّم خصيصاً للعمل في سوبرماركت. مع الوقت، تشعر بالاطمئنان في المتجر حيث النّظام والتكرار هما القاعدة، وحيث يتم ترميز العلاقات الاجتماعية وتأطيرها، وتجد في جنبات هذا المكان ملاذاً آمناً يحميها من فضول الآخرين. تمضي السنوات وتصل كيكو إلى عمر السّادسة والثلاثين وهي لا تزال عاملة متجر عازبة، في حين أنّ جميع زملائها قد تزوجوا واستقروا في مهن مرموقة وثابتة. تُظهر الرواية العنف الرمزي غير المرئي الذي يتعرض له الأشخاص المختلفون الذين لا يتوافقون مع النموذج الاجتماعي السّائد. عنف تشعر به كيكو في ملاحظات والديها ونظرات صديقاتها وتعليقات زملائها في العمل. الجميع يحث كيكو على معالجة وضعها الذي يعتبرونه غير طبيعيّ.
لإسكات من حولها، تخترع كيكو مشكلات صحيّة تمنعها من البحث عن وظيفة بدوام كامل، لكن تبقى مشكلة العزوبيّة من دون حل. تحاول صديقاتها تزويجها بشتّى الطرق، ويلجَأن لالتقاط صور لها ووضعها على مواقع التعارف الاجتماعي، على أمل أن يجدن لها الزوج المناسب. وهكذا يبدو أنّ الجميع لا يتحمّل أسلوب عيش كيكو، فهي تبدو في نظرهم غريبة الأطوار وفاشلة، كونها لم تخضع بعد لقوانينهم وأعرافهم المُقدَّسة. يفتح وصول موظف جديد يدعى شيراها إلى المتجر أفقاً جديداً في حياة كيكو. شيراها شاب لا يتناسب مع القالب الاجتماعي أيضاً، فهو يحتل أدنى مرتبة في السّلم الاجتماعي، ويعيش عالة على الآخرين. كما أنّه يرفض فكرة العمل بالمطلق، وليس لديه أي طموح سوى البحث عن امرأة ثريّة لتنفق عليه. تعرض عليه كيكو فكرة الانتقال للعيش معها والتظاهر بأنّه صديقها مقابل أن تؤمن له الإقامة والمأكل. هكذا عندما تعلن كيكو خبر ارتباطها لمن حولها، تغمر السّعادة عائلتها وصديقاتها ويعتبرون أنها أصبحت أخيراً «طبيعية».
في هذه الرواية، تستكشف الكاتبة الحياة اليومية لأولئك الأفراد الذين يرفضون الخضوع لإملاءات المجتمع، فيتم نبذهم وتهميشهم ومعاملتهم باستهجان بالرغم من أنّهم لا يؤذون ولا يزعجون أحداً. تُبيِّن لنا الروائية من خلال شخصية كيكو صعوبة حياتنا المؤطرة بقواعد وسلوكيات محدّدة سلفاً، وتتساءل عن ماهيّة أن يكون المرء طبيعيّاً وما هي حدود التصرّفات الطبيعيّة. من المُلاحظ أنّ الكاتبة تستخدم في السّرد نبرة حياديّة منفصلة وساخرة إلى حدٍّ ما، تعكس الحالة الذهنية لكيكو التي تبدو كمراقب موضوعي للعالم حولها.
الرواية قصيرة نسبياً، لكنها قويّة في إدانتها للمجتمع الياباني المتزمّت. مجتمع حيث ضغط الامتثال للقوانين والأعراف يكون هائلاً جداً: فالرجل يجب أن يكون ناجحاً مهنياً وقادراً على إعالة أسرته. أمّا المرأة، فيجب أن تكون زوجة وأمّاً مثاليّة. وكلّ من تُسوّل له نفسه مخالفة المخطط المرسوم سيكون عرضة للازدراء والنقد الشديد.
يمكن القول بأنّ الكاتبة التي عملت هي أيضاً لفترة طويلة في متجر للبقالة، نجحت في بناء شخصية كيكو وإظهار غرابة أطوارها ببراعة في عدّة مشاهد روائية مضحكة، خصوصاً حين تحاول تقليد الآخرين في حركاتهم وأسلوب كلامهم وذوقهم في الثياب كي تبدو إنسانة سوِيّة في نظرهم. لا شك في أنّ عدم انصياع كيكو للأعراف أمر ممتع، وهي تُعبِّر ربّما عن رغبات كامنة داخل كل شخص منّا للثورة على كل القيود اللامنطقية. تستفزنا كيكو، نحن الناس العاديين الذين نقضي حياتنا من المهد إلى اللحد في محاولة تنفيذ ما تتوقعه العائلة والمجتمع منّا، حتى لو خالف ذلك رغباتنا الحقيقية والدفينة.
فمن قال إنّ الجميع يرغبون في الاستقرار والإنجاب أو الحصول على حياة مهنيّة رائعة وراتب مرتفع؟ ألا يوجد أفراد لا تثيرهم كلّ هذه العناوين البرّاقة؟ من جهة أخرى، نجد أنّ معظم الشخصيات الأخرى في الرواية تبدو سطحيّة وغير مُحبَّبة، سواء زملاء كيكو في العمل أو حتى صديقاتها. وهذا الأمر تعمّدته الكاتبة لتزيد من حدّة انتقادها للمجتمع الياباني.
رواية «عاملة متجر البقالة» لا يمكن الاستخفاف بها، فهي تتناول موضوعات عميقة بعكس ما يوحي به غلافها الناعم. تُثير ساياكا موراتا فضول القارئ، وتجعله يتساءل عن مكانة الفرد في مجتمع يتجاهل التّطلعات الشّخصيّة، ويُصادر حق الإنسان في أن يكون مختلفاً، ويقمع حريّة الفكر والاختيار. رواية حلوة ومرّة في الوقت عينه، مناهضة للخضوع الاجتماعي، مضحكة أحياناً، ومؤلمة وقاسيّة أحياناً أخرى، لكنها بدون أدنى شك تدفعنا إلى التفكير في المُسلَّمات التي بنينا عالمنا حولها.