إردوغان وأبعاد معركته الانتخابية.. مواجهة الداخل والخارج
يخوض الرئيس التركي رجب طيب إردوغان معركة حزب “العدالة والتنمية” للفوز بولايته الشخصية الرابعة، في ظل تعقيدات داخلية وخارجية، لا ترتبط بنهج وأيديولوجيا حزب “العدالة والتنمية” فقط، وإنما ترتبط أكثر بسلوك شخصي نجح الرئيس من خلاله في رسم أسس مشروع سياسي ذي أبعاد تفترض حكماً بقاءه في موقعه. فالمسار الذي سلكه منذ شغله منصب رئاسة الوزراء عام 2012 ومنصب رئاسة الجمهورية منذ عام 2014، ساهم في جعل تركيا موضع اهتمام القوى العالمية، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية، لأسباب ترتبط بقرار الخروج عن إطار الهيمنة الغربية التي حكمت السياسة التركية منذ خمسينيات القرن الماضي، بالإضافة إلى المجاهرة في البحث عن مجال حيوي، عبّر عنه أحمد داوود أوغلو عام 2002 من خلال نظرية العمق الإستراتيجي.
فإذا كانت الولايات المتحدة والدول الأوروبية قد حاولت استيعاب الانتفاضة التركية التي قادها إردوغان، نظراً إلى الحاجة الحيوية التي تمثلها تركيا للغرب، خصوصاً أنها تشكل ركناً أساسياً من أركان حلف شمال الأطلسي، بالإضافة إلى أهمية موقعها الجيوستراتيجي على حدود الشرق الأوسط وروسيا، مع ما يعنيه هذا الموقع من أهميةٍ كحاجزٍ في وجه ما يُنظر إليه كتهديدات بدأت تطرق باب أوروبا بعد أحداث 11 أيلول وما تلاها من احتلال للعراق وأفغانستان، وانتشارٍ لما يعدّه الغرب فكراً متطرفاً قد يستهدف الأمن الأوروبي على غرار ما حدث في الولايات المتحدة الأميركية بعد الأحداث التي عصفت بسوريا والعراق، فإن الاتجاه السياسي الذي كرّسه الرئيس إردوغان، ومن خلفه حزب “العدالة والتنمية”، لم يكن سبباً في فقدان تركيا تلك الأهمية، إذ شكّل ذلك المشروع التحرري الإردوغاني سبباً في زيادة اهتمام الغرب، وخصوصاً أوروبا، بمسارات السياسات التركية؛ بسبب إمكانية تأثيرها المباشر في الأمن الأوروبي.
ولذلك، برزت في الآونة الأخيرة فرضية محاولة الغرب التدخل في الانتخابات بهدف التخلص من إردوغان، ومن خلفه حزب “العدالة والتنمية”.
تجدر الإشارة إلى أن الغرب قد غيّر من منظوره إلى تركيا في الفترة التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي، إذ ساد اعتقاد بانتفاء الحاجة إليها. وعليه، عمد الغرب في تلك المرحلة، وخصوصاً الاتحاد الأوروبي، إلى تقويض الأهمية الإستراتيجية لتركيا، وساد اتجاه أولي بالانفتاح على روسيا والدول السوفياتية السابقة، بالإضافة إلى تبني فكرة الشراكة الأورومتوسطية، والإصرار على دعم قبرص اليونانية بالتوازي مع رفض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وإذا كان الغرب قد سارع في المرحلة اللاحقة إلى مراجعة كيفية تعاطيه مع تركيا، خصوصاً بعد أحداث 11 أيلول وما تلاها، فإن تركيا، وعلى الرغم من إرسالها قوات عسكرية لدعم المهام التي يقودها “الناتو” في أفغانستان وتسهيلاتها اللوجستية للقوات الأميركية التي كانت تحتل العراق، لم تكن تُظهر التزامها بتلك المسارات انطلاقاً من قرار إستراتيجي، مثل ذلك الذي كان سائداً منذ انضمام تركيا إلى حلف “الناتو” عام 1952، وإنما أمكن ترجمته التزاماً بمساراتٍ مرحلية تضع المصلحة القومية التركية في أعلى سلم الأولويات.
فالدوافع التي حكمت التوجه التركي نحو “الناتو” في خمسينيات القرن الماضي لناحية البحث عن ما يعزز الهوية الغربية لتركيا كمدخل للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولناحية البحث عن ضمانات للدفاع والأمن، لم تعد إطاراً حاكماً للسياسات الخارجية التركية. فتلك الدوافع لم تعد جاذبة للشعب التركي بشكل عام، خصوصاً بعدما نجح الرئيس التركي في إظهار تلك العلاقة على أنها مهددة للسيادة التركية ولوحدتها الوطنية، مستفيداً من قناعة تشكلت لدى جزء كبير من الشعب التركي لناحية التخلي الأميركي عن حماية تركيا بعد قرار سحب الباتريوت منها، وكذلك تواطؤ حلف “الناتو” مع قادة الانقلاب وحماية الولايات المتحدة الأميركية لفتح الله غولن ورفاقه، والذي ترفض الولايات المتحدة تسليمه لتركيا تمهيداً لمحاكمته.
يمكن التقدير أن الفترة الرئاسية الثانية للرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما قد شكلت نقطة اللاعودة في مسار التباعد بين الغرب وتركيا. فالتعديل في الإستراتيجية الأميركية في سوريا ما بعد عام 2014 لجهة التركيز على تنظيم “داعش”، وعدم ملاقاة الدولة التركية في مشروعها لإسقاط النظام في سوريا، بغية تحقيق أهداف تركيا في الشمال السوري قد تقاطع مع القرار التركي بشراء منظومة S 400 الروسية، إذ رأت الولايات المتحدة أن تركيا لا تلتزم بالمعايير الأمنية والإستراتيجية لحلف “الناتو”، ومن خلال إدخالها لمنظومة S 400 في تشكيلاتها الدفاعية، فإنها ستجعل من إمكانية الولوج الروسي إلى التقنيات الأطلسية أمراً ممكناً.
في المرحلة اللاحقة، أضافت محاولة انقلاب 2016 مزيداً من التعقيد إلى واقع العلاقة، إذ اتهمت الإدارة التركية الغرب، وخصوصاً الاستخبارات الأميركية بدعم الانقلابيين. ثم تعقد الخلاف أكثر بسبب رفع التعرفة الجمركية على واردات الولايات المتحدة الأميركية من الصلب التركي، وكذلك بسبب العقوبات الأميركية التي فُرضت على وزيري الداخلية والعدل التركيين بعد قيام تركيا بتوقيف القس الأميركي برانسون بتهمة التجسس والإرهاب. أما العملية العسكرية (نبع السلام) التي قامت بها القوات التركية في الشمال السوري عام 2019، فقد أبرزت عمق الخلاف بين الغرب وإردوغان، إذ كان الموقف الأميركي والأوروبي معارضاً وغير متفهم للهواجس التركية.
إذاً، أسست التوجهات الداخلية والخارجية التي كرسها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، بعد هيمنة حزب “العدالة والتنمية” لتضارب مع المصالح والتوجهات الإستراتيجية الغربية. وإذا كان من الممكن اعتبار التحوّل نحو نظام رئاسي تتركز فيه كل السلطات في يد شخص واحد، سبباً في توجّس الغرب وتبنّيه حملة إسقاط الرئيس إردوغان في انتخابات عام 2018، فإن أسباباً أخرى ألقت بثقلها على تلك العلاقة، إذ بات الرئيس التركي يعتقد أن المسار الغربي يستهدف وجوده، وبالتالي يتحين الفرص لإقصائه عن السلطة.
وإذا تخطينا الحذر الغربي من انعكاس آثار أي تدخل صارخ في الانتخابات التركية على بعض الملفات الإستراتيجية كالحرب على الإرهاب وحزب العمال الكردستاني واللجوء وفاعلية الدور التركي في أوكرانيا، فإن الوقائع الآنفة الذكر تظهر سلبية الموقف الغربي من الرئيس رجب طيب إردوغان.
وإذا ربطنا هذا الموقف بالوثيقة المشتركة المنبثقة عن الطاولة السداسية، التي لا يخرج موقفها من الملفات الحساسة عن إطار مراعاة الغرب وجعل العلاقة معه في سلم أولوياتها، إضافة إلى إفراد الصحافة الغربية مساحة لتحليل الواقع المتعلق بالعملية الانتخابية مع الإشارة إلى تركيز هجومها على النظام الرئاسي وتآكل مؤسساته وانتقاد سياسات الرئيس إردوغان تجاه الغرب، فإن ذلك يظهر أن المعركة الانتخابية التي يخوضها إردوغان لن تكون في مواجهة مرشح المعارضة زعيم حزب “الشعب” الجمهوري كمال كليجدار أوغلو فقط، وإنما في مواجهة منظومة تجمع بين عدد من الأحزاب التركية المعارضة وتحالف غربي يناسبه في هذه المرحلة التخلص من شخصية تبحث في كيفية الاستفادة من اللحظة الإستراتيجية المتاحة في عملية بناء كيان تركي مستقل، بعيداً من أي التزام بأمن الغرب ومصالحه.