بورتريه| غسان مسعود: عن أي جمهورٍ تتحدثون؟
أشجار «فجليت» وظلالها المطلية بالشمس والسُّماق كانت أول سينوغرافيا مسرحية شاهدها غسان مسعود (1958-..) فالفتى الذي تفتحت عيناه على منظر قريةٍ جبلية تصل السماء بالبحر، غاص مبكراً في طين جبال قريته الساحلية العابقة بشقائق النعمان والزعتر البري؛ مخبئاً في كل مرةٍ يئوب فيها من نزهاته في الجبال حفنةً من ضوءٍ في جيوبه.
في بيت ريفي تربّى (مسعود) مع إخوته العشرة، في أسرةٍ مكوّنة من خمس بناتٍ ومثلها من الشبان، كان (غسان) سادسهم المدلل لأب عارف بالله؛ انتبه باكراً إلى موهبة ابنه الصغير في الرسم والخط العربي، فخصّهُ بمعاملةٍ مختلفة عن بقية أخوته، وأحلّه من الشغل في زراعة الأرض؛ تاركاً المجال أمام مواهبه للتفتح والنضوج.
تعلّمَ الفتى في مدارس القرية؛ مجتازاً بتفوق المرحلتين الابتدائية والإعدادية؛ ليذهب بعدها إلى مدينة (الدريكيش) متمماً دراسته الثانوية في مدرسة (خالد بن الوليد). هناك كان الشاب اليافع يرسم أشجاره كل يوم بألوانه المائية؛ متغزلاً بصبايا (الدريكيش) وطرقاتها الحجرية، ليحصل بعدها على (البكالوريا الأدبي). الشهادة التي ستمنحه مقعداً في (كلية الأدب العربي) بجامعة دمشق العام 1978، ليترك وراءه أشجار رمان وتين وأسماك بحيرة (بنمرة) في قريته المسحورة.
المرور من تحت قوس قزح كان حلمه الطفولي الأثير لديه؛ رؤيا ستأخذه بعيداً في رحلته الأولى إلى عاصمة بلاده: «كانت دمشق بالنسبة إليَّ وقتها عالماً مغلقاً ومليئاً بالضجيج».
فواز الساجر
نسأله عن فكرة ترييف المدينة نتيجة الهجرات المتتالية التي شهدها الريف السوري نحو دمشق فيجيب: «هذه فكرة أعتبرها من أغبى الأفكار؛ ومَن طرح هذه الفكرة إما أن يكون أحمق وغبياً وإما أنه عنصري؛ لأن على مَن يقول هذا الكلام أن يتذكّر بأن الكثير من الأسماء الثقافية والسياسية التي حملت اسم سورية في الخارج هم ريفيون عاشوا في دمشق؛ وحملوا اسم بلادهم إلى كل أرجاء العالم؛ من دون أن يفرّقوا بين ريف ومدينة، ومن ينظرون هذه النظرة العنصرية إلى بعض السوريين بأنهم ليسوا دمشقيين – بعد أكثر من ستين سنة من إقامتهم في دمشق – أقول له إن هذا (الريفي) سوري قبل كل شيء وله حقوق في عاصمة بلاده، كما كل الناس في كل دول العالم تأتي وتعيش وتعمل في عواصم بلادها، طالما أن السوريين بعقدهم التاريخي والاجتماعي تعارفوا على أن دمشق هي عاصمة بلادهم. أصلاً ما قيمة دمشق من دون صباح فخري، وسعد الله ونوس، وفواز الساجر، وأدونيس، وفاتح المدرس، وعبد السلام العجيلي، وزكي الأرسوزي، وأدهم إسماعيل؟».
مبتعداً عن خط المطر الذي تقع عليه قريته الجبلية؛ عاش (غسان) متنقّلاً بين أحياء (ركن الدين) و(الصالحية) و(المزرعة)، ليلتقي في قاعات الجامعة السورية – والتي كانت تشهد وقتها حراكاً ثقافياً منقطع النظير- بـ «فواز الساجر» بعد عودته من موسكو؛ إذ كان (المسرحي الراحل) يقوم وقتها بتأسيس فرقة للمسرح الجامعي، فلمع (مسعود) عبر أدوارٍ مميزة في مسرحيات الجامعة، مساهماً بتأسيس الدورة الأولى لمهرجان المسرح الجامعي العام 1982، تحديداً عندما وقف لأداء دور البطولة في مسرحية (رجل برجل) تأليف وإخراج (لؤي عيادة) وبعدها ليمثّل مع المخرج (طلال الحجلي) في مسرحيته (فرعون لا يشبه الفراعنة): «سيأخذني الساجر إلى مكانين سوف يغيران حياتي إلى الأبد، الأول هو (سكان الكهف) والثاني المعهد كي أعمل معيداً وأكون مساعده في تدريس التمثيل».
بعد تخرجه من المعهد العالي للفنون المسرحية كانت مسرحية (ليالي الحصاد -1987) لمؤلفها (محمود دياب) ومخرجها (جواد الأسدي) هي أولى العروض التي شارك فيها (مسعود)، ليقف مجدداً أمام (الساجر) في مسرحية «سكان الكهف – 1988» ومن ثم ليقدّم مسرحيته «الملك لير- 1995» في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي؛ منتزعاً جائزة أفضل عرض مسرحي؛ ولتتوالى بعدها العروض التي قام بإخراجها على نحو: «ألو تشيخوف، لن يكون، مذكرات رجل نعرفه جيداً، ريما، كسور، عربة ترام اسمها الرغبة، الديبلوماسيون، عرش الدم».
بعد قرابة خمس سنوات من الكارثة السورية يقيّم مسعود وضع المسرح في بلاده سارداً عن تجربة جيل مسرح التسعينيات في سورية: «للأسف ثمة من يظن أن المسرح السوري قام على أكتافه، شخصياً ما قدمته مع طلابي من مشاريع وعروض دخلت تاريخ مسرح التسعينيات في سورية تشهد على أقوالي هذه، ولكن مَن قال إنني كنت أعمى عن التجربة التونسية التي استنسخها البعض في المسرح السوري؟ والسؤال الذي يجب أن يطرحه البعض على نفسه هو: لماذا لم أقم باستنساخ التجربة التونسية؟ ولماذا لم أقلّدها وأمشي على نسقها في الدراماتورجيا المسرحية؟ الجواب هو أنني وبصراحة اعتبرتُ تجربة الأصدقاء في المسرح التونسي بأنها تجربة ذات خيال تركيبي، فهم يعملون على اقتباس نص عالمي، ومن ثم يقومون على توليفه تونسياً للجمهور، لكن أين النص؟ هاتوا لنا نصاً مسرحياً تونسياً؟ للأسف اليوم ثمة مَن يهاجم مسرح (سعد الله ونوس) المترجمة نصوصه إلى كل لغات الأرض الحية؛ (ونوس) الذي كتب مسرحية (طقوس الإشارات والتحولات)؟ هل قرأ مَن يهاجم اليوم تجربة (ونوس) هذه المسرحية؟ هناك مسؤولية يجب ألا نتجاهلها في القراءات النقدية لمسرح (ونوس)، وهنا دعني أشِدْ بما قدمته الناقدة السورية (خالدة سعيد) مؤخراً في هذا السياق، والتي قرأتْ هذا النص من الزاوية الصوفية الوجودية، فنص من مقام (طقوس الإشارات والتحولات) يقف برأيي بالسوية الفنية مع أبدع نص كتبه شكسبير، ومثله نصوص (الأيام المخمورة) و(ملحمة السراب) و(منمنمات تاريخية) وهذه كلها نصوص ذات بنى درامية إعجازية».
أي جمهور
لكن ألا ترى معي أن التجارب الجديدة لها الحق في تقديم أطروحاتها الفنية ومناقشة ما قدّمه جيلكم نقدياً؟ يجيب: «لست ضد النقد، إطلاقاً، هكذا ربّانا أساتذتنا وهكذا ربّينا طلابنا؛ لكن ثمة من يتكلم عن جيل التسعينيات المسرحي في سورية، متناسياً التجارب التي قدمتها مع كلٍ من (فايز قزق) و(جهاد سعد) و(نائلة الأطرش) مستنداً إلى حجم الجمهور؛ وإذا كان المقياس هو الحديث عن حجم جمهور كبير للعروض، فأحب أن أذكّر هؤلاء أن الجمهور لم يأتِ بكثافة إلى عرضٍ مسرحي في دار الأوبرا السورية (تستوعب أكثر من ألف ومئتي متفرج) – كما قدِم لحضور مسرحيتين هما مسرحية (صح النوم) للسيدة (فيروز) العام 2008 ومسرحيتي (الديبلوماسيون – 2003) فعن أي جمهورٍ تتحدثون؟ عن جمهور مسرحَي (القباني) و(الحمراء) اللذين لا يتسعان إلا لمئتي أو ثلاثمئة متفرج كحدٍ أقصى؟
سجل هذا الفنان بصمته الخاصة في صياغة مختبره على الخشبة، ناقلاً معارفه وهواجسه إلى أجيال من عشاق فن المسرح فعام 2000 أعلن (مسعود) عن عرضه الجديد (كسور) مقتبساً نص (الشقيقات الثلاث) لـ(أنطون تشيخوف)، ليشهد شباك تذاكر (مسرح الحمراء) الدمشقي حشوداً كبيرة من جمهورٍ جعل منه فناناً أكثر حيوية وإقبالاً على الكتابة والإخراج للمسرح؛ مقدّماً أدواراً لافتة في غير عرض؛ كان أولها مع تلميذه (عبد المنعم عمايري) في مسرحيته (صدى) حائزاً عليها جائزة أفضل ممثل في (مهرجان قرطاج)، كما لعب شخصية الشاعر (بابلو نيرودا) في المسرحية التي أعدّها الراحل ممدوح عدوان عن نص (سكارميتا) الشهير (ساعي بريد نيرودا) وأخرجها محمود خضور للمسرح القومي: «أيُ مقياس تريدونه اليوم لقياس حجم النجاح الذي حقّقه مسرح التسعينيات؟- يضيف بطل فيلم (قرصان الكاريبي): «يقولون عن مسرحنا بأنه (مسرح كليشيه)؟ كل الذي قدّمناه من مسرحيات من مثل (العنبر رقم 6) و(سكان الكهف) و(الاغتصاب) وغيرها مما قدّمته مع أبناء جيلي من عروض واعتبرها النقاد وقتذاك تحفاً مسرحية وفنية وتقولون عنا كليشيه؟! منذ منتصف الثمانينيات مروراً بالتسعينيات؛ ووصولاً إلى مطلع الألفية الثالثة قدّمنا كجيل الكثير ونزفنا أعمارنا على خشبة المسرح؛ ويقولون عنا مسرح كليشيه»؟!
إلغاء
على فكرة ليعلم من يهاجمنا اليوم كجيل أننا وبكل تواضع الجيل الذي أعاد الجمهور إلى المسرح. يضيف: «وبما أنه وصل التطاول علينا إلى هذا الحد، فلنترك التواضع جانباً ونحكي حقائق ووقائع وتاريخاً: ما حدث أننا كجيل سمحنا للآخرين أن يستنسخوا أرواحنا بكل طيب خاطر، وأن يغرفوا من مخيلتنا وذاكرتنا كأبناء شرعيين لنا؛ لكن أن يشطبونا فهذا ما زادني قناعة بالصمت، لا أحد له الحق في إلغاء الآخر لأننا كنا نعطي بلا حساب، فشخصياً أعتقد أن مَن يجب أن يشتغل في المسرح عليه أولاً أن يثبت نفسه في المسرح الكلاسيكي، وبعدها نأتي إلى ما يسمّونه مسرح اليوميات؛ ذلك المسرح الذي تسرّب من نصوص شعراء اليوميات الرديئة بحجة الحداثة».
هناك نوع من المسرح يفكر به (مسعود) اليوم، هو مسرح ينشأ مع الأزمة. يقول: «أراقب بعض أقلام الشباب والشابات الصغار؛ وهم يكتبون أشياء لافتة للغاية؛ وقد تكون رؤيا لأدب مسرحي عن سوريا في هذه المرحلة، هو مسرح أعتقد أنه يقترب من ريبرتوار الحرب الأهلية بلبنان؛ والتي أنتجت تجربة مسرح زياد الرحباني كظاهرة فنية، وكيف قرأ (زياد) الحرب في وطنه؛ أعتقد أن هناك خطاً في هذا الاتجاه، وبتُ أتلمّسه اليوم وأقرأ منه ولا أريد أن أذكر اسم مَن يكتبه اليوم، لكن دعني أقل إنني متفائل به جداً؛ فالحرب السورية ستولد من رحمها نصوص وعروض مسرحية جديدة ومفارقة لكل ما قدم في الريبرتوار السوري المعاصر، وهذا أمر طبيعي في تجارب الشعوب التي تخوض حروباً، وإن لم يكن هكذا فعلينا أن نخلقه؛ هذا تجلٍّ طبيعي للحرب التي أعتقد أنها ستفرز مسرحها وأدبها وشعرها وفنها التشكيلي».
أدوار عالمية
في السينما قدّم (مسعود) شخصية الضابط الإسرائيلي في الفيلم الإيراني (المتبقي – 1994) لكن الغيب العام 2003 كان يدبر مفاجأته الكبرى لهذا الرجل بترشيحه لأداء شخصية (الناصر صلاح الدين الأيوبي) في فيلم «مملكة السماء» للمخرج (ريدلي سكوت)؛ نقلة في المكان والزمان لهذا الرجل وضعته في قلب استديوهات هوليود وأمام أهم مخرجيها؛ لينتزع دور (صلاح الدين) بجدارة من كلٍ من (شون كونري) و(بن كنجسلي)، هذه الفرصة التي فتحت أبواب السينما العالمية له؛ فتتالت الأدوار التي لعبها أو رشِّحَ لها وكان أبرزها دور (كاهن الفرعون) في فيلم لـ(سكوت) أيضاً بعنوان (سِفر الخروج)؛ ودور «شمس الدين التبريزي» في الفيلم المأخوذ عن (قواعد العشق الأربعون) للتركية إليف شافاق.
لكن ماذا تفعل السينمات الصغيرة أمام نوع كهذا من السينما الدعائية؟ يجيب: «السينمات الصغيرة، لاسيما في بلداننا وبلدان العالم الثالث هي أمام هوليود لا تلبث أن تكون سوى أسماك صغيرة أمام حيتان الفن السابع في العالم».
في سورية بلدي زمانٌ للموت، مكانٌ للموت؛ واليوم هو الزمان وهو المكان، ليس المهمّ لأي سببٍ تموت وكيف تموت وبأي ذنب؟ يعقّب (مسعود) قارئاً لنا بعض مما كتبه عن الحرب في بلاده: «يكفي أن تدخل دائرة الزمان والمكان السوريين، فأنت هدفٌ محتمَل، قتيلٌ محتمل، كافرٌ محتمل، خائنٌ محتمل، ليس بالضرورة أن تكون طرفاً في المعركة أو طرفاً في السياسة، يكفي أن تكون سورياً لتدخل فخ الزمان الخطأ والمكان الخطأ».
صحيفة السفير اللبنانية