كان الكرد المادة الأساسية لحملة الرئيس إردوغان الانتخابية، وساعدته في الانتصار على منافسه كمال كليجدار أوغلو بعد أن اتهمه بالتحالف مع حزب الشعوب الديمقراطي، الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني، وذراعه السوري الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، ووحدات حماية الشعب الكردية.
وساهمت هذه الحملة بعناصرها القومية المتطرفة، وبملامحها الدينية المذهبية، في إقناع نسبة عالية من الناخبين الأتراك الذين صوّتوا لإردوغان، الذي أنساهم بهذه المقولات مشاكلهم المعيشية اليومية الصعبة جداً، حيث الغلاء وارتفاع الأسعار والضرائب المجحفة والتضخّم والبطالة والإفلاس، والتي وصلت نسبها إلى أرقام قياسية لا تطاق.
وفشل كليجدار أوغلو وحلفاؤه آنذاك في إقناع الناخبين أنّ إردوغان وباعترافاته هو كان منذ عام 2010 على اتصال وعلاقة مباشرة وغير مباشرة، عبر رئيس مخابراته هاكان فيدان مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوغلان، الموجود في السجن منذ شباط/فبراير 1999.
وهو أي إردوغان الذي وقّع في 28 شباط/فبراير 2015 مع حزب الشعوب الديمقراطي على محضر للحوار والتنسيق والتعاون المشترك، من أجل الحل السياسي والديمقراطي للمشكلة الكردية. وهو أيضاً الذي أرسل الوسطاء إلى جبال قنديل شمال العراق للحديث مع قيادات العمال الكردستاني، التي اتخذت بين الحين والحين قراراتها لوقف العمل المسلح ضد تركيا.
ومع أن إردوغان وفي العديد من خطاباته المتكررة كان قد اعترف بأنه هو المسؤول عن كل هذه الاتصالات واللقاءات والإجراءات، إلا أن الذين صوّتوا له لم يبالوا بحملة المعارضة التي ذكّرتهم بأقوال وتصريحات إردوغان السابقة. كما هم لم يصدّقوا التسجيلات المرئية والمسموعة لإردوغان والتي تمّ تسريبها من قبل أتباع وأنصار الداعية فتح الله غولن في كانون الأول/ديسمبر 2013، وأثبتت آنذاك تورّط إردوغان وأفراد عائلته ووزرائه في قضايا فساد خطيرة جداً.
وكانت الحالة النفسية هذه للذين صوّتوا لإردوغان كافية بالنسبة له حتى يتصرّف كما يشاء من دون أن يبالي بردود أفعالهم المحتملة، وهو يعتقد وبفضل الإعلام الذي يسيطر عليه أن أتباعه سيصدّقون كل ما سيقوله لهم ومهما كان كذباً أو متناقضاً.
وكما هو الحال في مصالحة إردوغان مع حكّام الإمارات والسعودية ومصر والكيان الصهيوني، بعد أن هدّدهم وتوعّدهم واتهمهم جميعاً “بالقتل والإجرام والإرهاب والديكتاتورية والتآمر عليه وعلى الدولة والأمة التركية”. ويتمنى إردوغان لهؤلاء الحكّام الآن أن ينسوا كل ما قاله عنهم ويساعدوه لتجاوز أزمته المالية الخطيرة، كما هو الحال بالنسبة للإمارات والسعودية ومن دون أن يدري أحد ما هو المقابل.
وبالعودة للملف الكردي، فالمعلومات بدأت تتحدّث عن مساعٍ جديدة لإردوغان لإحياء الحوار مع الكرد داخلياً وخارجياً، أي زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوغلان، وقيادات حزب الشعوب الديمقراطي الجناح السياسي للعمال الكردستاني من جهة، وقيادات كل من الحزب المذكور الموجودة في شمال العراق بامتداداتها في سوريا، أي وحدات حماية الشعب الكردية التي تسيطر على شرق الفرات.
وهو ما أشار إليه غالب أنصاري أوغلو عضو البرلمان عن حزب العدالة والتنمية الحاكم، حيث تحدّث عن مثل هذه المساعي وشبّهها بتلك التي بدأت نهاية عام 2010. وكانت المفاجأة الأهم هي قرار المجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون الذي أوقف بث قناة Tele1 المعارضة لمدة أسبوع، مع غرامة مالية كبيرة بحجة تعليقات رئيس تحرير القناة ماردان ينارداغ الذي تمّ اعتقاله، بعد أن كشف خفايا المخططات التركية تجاه الكرد، وتناقضات الرئيس إردوغان على صعيد السياستين الداخلية والخارجية، وأهمّها الملف الكردي الذي يحظى دائماً باهتمام تركي وإقليمي ودولي.
المعارضة التي تذكّر باستضافة أنقرة لزعيم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني السوري صالح مسلم عدة مرات للفترة بين 2013-2015 تقول إن الرئيس إردوغان لم يعد يهاجم واشنطن كما كان يفعل ذلك قبل الانتخابات، حيث كان يتهمها بدعم الإرهابيين، ويقصد بهم المليشيات الكردية شرق الفرات.
في الوقت الذي يرى فيه مراقبون في الموقف التركي هذا محاولة من أنقرة لإحياء الحوار بين الائتلاف السوري المعارض وقسد بضوء أخضر وتشجيع أميركي من جهة، وإقناع قيادات قسد الكردية للتهرّب من أي حوار مثمر مع الحكومة السورية قبل الاتفاق الشامل بين أنقرة ودمشق فيما يتعلق بكل التفاصيل الخاصة بالأزمة السورية، وأهمها قضية اللاجئين السوريين في تركيا.
وتتزامن مع ذلك المعلومات التي تتحدث عن مساعي واشنطن بالتنسيق مع أطراف إقليمية لإنشاء تحالف عشائري سني سوري بامتداداته العراقية، وهو ما فعلته في العراق عام 2007 عندما دفعت مئات المليارات من الدولارات لرؤساء العشائر، التي استنفرت عشرات الآلاف من شبابها للتنسيق مع الجيش العراقي تحت اسم الصحوات السنية. والتي تحوّلت فيما بعد إلى حاضنة شعبية لفكر “القاعدة” ولاحقاً “داعش” التي اجتاحت الموصل واحتلت ربع مساحة العراق بسبب تواطؤ البعض من هذه الحاضنة الشعبية وقياداتها العشائرية.
في الوقت الذي نجحت فيه أنقرة في إقامة وتطوير علاقات تحالفية مع أحزاب وقوى سنية عراقية، بعد أن كسبت مسعود البرزاني إلى جانبها، وهو الذي استنفر الآلاف من قوات البيشمركة الموالية له للقتال إلى جانب الجيش التركي ضد حزب العمال الكردستاني المدعوم من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الرئيس العراقي الراحل جلال الطالباني.
ومن دون أن تهمل أنقرة قبل ذلك تسليح أكثر من 200 ألف من عناصر العشائر الكردية في تركيا، وقاتلوا وما زال البعض منهم يقاتل ضد مسلحي الكردستاني. ويسعى إردوغان لتحقيق التوازن العسكري والشعبي معهم عبر التحالف مع حزب الهدى الكردي الإسلامي المتطرف من جهة، وعبر تقديم مساعدات مالية ضخمة للعشائر الكردية في المنطقة.
ومن دون أن يكون كلّ ذلك كافياً لمنع حزب العمال الكردستاني وجناحه السياسي الشعوب الديمقراطي من السيطرة على الشارع الكردي في تركيا. وهو ما أثبته الحزب في الانتخابات الأخيرة التي حصل فيها على نسب عالية جداً من الأصوات في ما لا يقلّ عن ست ولايات، كما هو تقدّم على الأحزاب الأخرى في سبع ولايات أخرى جنوب شرق البلاد حيث يعيش الكرد.
وربما لهذا السبب عاد إردوغان إلى نهجه السابق الذي بدأه في العام 2010 وانطلاقاً من المقولة التي تقول “إذا فشلت في لوي ذراع عدوك فلا تتردّد في مصافحته”. وهذا ما سيسعى إليه إردوغان خلال المرحلة المقبلة لضمان فوزه في الانتخابات البلدية في آذار/مارس 2024 خاصة في إسطنبول وأنقرة.
على أن يتأكّد من النتائج الإيجابية لتحرّكاته الدولية والإقليمية التي يعرف الجميع أن الكرد كانوا منذ مئة سنة عنصرها الأساسي، وسيبقون هكذا إلى الأبد، طالما أن الدول الأربع التي يعيشون فيها، أي سوريا والعراق وإيران وتركيا تختلف فيما بينها، وكما يختلف الكرد أيضاً فيما بينهم. فلا هم يتفقون فيما بينهم ولا الدول التي يعيشون فيها تتفق وإياهم على الحد الأدنى من الحقوق والواجبات المتبادلة، ليبقوا هكذا ورقة تهب وفق الرياح الداخلية والإقليمية والدولية.
وبات واضحاً أن إردوغان صار المؤثّر الأساسي في هذه الرياح، بفضل وجوده العسكري الفعّال في سوريا والعراق، والآن عبر مساعي المصالحة مع العدو الأساسي أي العمال الكردستاني، بعد أن تبيّن له أن هذا الحزب ما زال مؤثّراً ليس فقط في تركيا، بل في كرد المنطقة عموماً، وبفضل واشنطن وحليفاتها في الغرب وربما “تل أبيب” أيضاً.
الميادين نت