لا يتحاشى الشاعر حسن عبدالله، في مجموعته الجديدة، “ظلّ الوردة”، الصادرة عن “دار الساقي”، الخطر الذي يحدق بالقصيدة. بحسبه، أن اللغة الشعرية تعوق شاعرية القصيدة، ولا تمكّنها من الوصول إلى مبتغاها في الكشف عما “تخفيه الحياة وراء ظهرها”.
لا يستسلم الشاعر للعائق اللغوي، ولا يتوّقف عن الكتابة بالخطر، فيمعن في التحديق الشعري، كما لو أنه الخطر نفسه، حتى يشع الضوء في نصه الذي يبحث داخله عن معنى حضوره فيه. يسأل في قصائده المقسمة سبعة فصول: “كيف يمكن لشاعر طبيعي أن يكون شاعراً طبيعياً؟!”.
يعرّض الشاعر قصيدته للوهم. يقرنه بالمشاهد التي يستعرضها أمامه، محاولاً الذهاب إلى ما قبل كتابته عنها. يكتسب المشهد ظلالاً، سرعان ما تستولي على النص لإيضاح قدرتها على جرف القصيدة نحو الدهشة والإحتفاء بتذليل الحدّ بين الظل والجسم: “كان ذلك ظلّ شخص/ ينظر إلى ظلّ حرذون/ يركض على ظلّ غصن/ في ظلّ شجرة زيتون”، كما بتذليل الحدّ بين الموت والحياة التي “لديها الكثير لتفعله في الربيع والموت أيضاً”. أحياناً يفيض الوهم في النص، وتتجمد كائنات الظل، لتصبح أحجاراً يتراشق بها، مثل عصافير الدوري التي تندفع من شجرة اللذة إلى شجرة الألم، حتى تستقر على وردة، التي لكثرة التحديق فيها، ينسفها ظلها، فتنفجر. يتعذر على الشاعر أن يحيا هذا المشهد، المتفجر جراء وهمه، فالظلمة تحيط به، وعلاقته بموضوع وهمه، لا تسلم من جلبة العدم. لذا يلجأ إلى الألم كضوء ينير رغبته، أو إلى الذاكرة التي تساعده في التغلب على الوقت الذي انقطع فيه عن تدوين نفسه، مستمراً في فعل الكتابة كانتزاع ما يستر عري كل الأشياء، منقذاً إياها من الرتابة التي تمليها “الهدنة” بين “نسيان متواصل لما حدث لنا من آلام”، و”نسيان متواصل للآلام التي لم تحدث بعد”. بالوهم تنجو الأشياء من “الحياة الجميلة”، وبالإنفجار تصطحبها القصيدة إلى “تلك الأيام التي كنا نحيا فيها الحياة/ من دون أن نراها”.
لا يغرق الشاعر في نصه مثلما يحصل للغرقى في البحر أو النهر. اليابسة الشعرية حاضرة دائماً، على شكل غياب تصير فيه الأحجار مزهرية، أو كـ”حب من دون حب”، يشبه عبوة ناسفة مزروعة في قصصه التي غالباً ما تفضي إلى موت كائناتها أو تصيبهم بعاهة، والأفظع أنها تدفعهم إلى الزواج: “البعض يموتون من الحب/ والبعض يجنّون/ والبعض يخرجون منه/ بعاهات دائمة/ والأفظع من هؤلاء وهؤلاء/ أولئك الذي يتزوجون”. على رغم الفظاعة الأنطولوجية التي تسكن الشاعر، يصر على أن “الحب نشاط إبداعي/ والزواج نشاط مهني/ يُزهر الإنسان في الحب/ ويُثمر في الزواج”. الرغبة الحبية التي يغرق في يابستها، تلصق الجسم بظله، والجنة بلذة نهش التفاح المتساقط منها، ولا يترك الحب مساحة لكتمان قصة تتعلق بالشامة تحت نهد الحبيبة الأيسر، فيفشي عبدالله هذه القصة كأنه يتدارك فقدان نهدها الأيمن بلغة الخطر الشعرية. يسعف الحب الشاعر من الغرق في الفقدان والفراق، يُبعده عن الهلاك أمام المرأة كألكسندر بوشكين، وعن تلبية “نداء الهاوية” برجلين خائرتين “لدرجة أشعر معها/ بأنني لم أعد قادراً/ حتى/ على مجرد التقدم في العمر”. يشكك الشاعر بقدرة اليابسة الرغبوية على انقاذه من حضور كمخلوق لم يُنجَز بعد، فكل إنسان بالنسبة إليه هو “من ذوي الإحتياجات الخاصة”، ولن تتمكن قوة الحب من الإعتناء به على أكمل وجه، كما تفعل العزلة مثلاً: “ما سر الراحة/ التي يشعر بها الإنسان/ كلما انتبه إلى أنه:/ غير ذي شأن؟”.
اللغة التي يعتمدها الشاعر في القصيدة شبيهة باستخفاف الآخر بعشّاقه: “لم نكن نتخاصم أو يحسد واحدنا الآخر/ لأن استخفافها بنا/ كان موزعاً علينا بمقادير متساوية”. تتساوى لغتا الشيء وظلّه، ولا نجد معركة بين معنى وآخر، أما القاموس اللغوي، إصطلاحاً ورمزاً، فعادلٌ كالموت الذي لا عدالة فوق عدالته لأن “الإعدام للجميع!”. لا تنفذ اللغة المتساوية بأخطارها الشعرية، حكم الإعدام في حق القصيدة، إلا أنها تتخف من عبء الشعر في بعض المقاطع، وتحتضر في شكل نثري: “لو أن الطريق سهلة إلى الجبال/ لذهبت/ وعملت ناسكاً”، لتضع الحادثة في إطار الخطر والتنازل له كأنه عادة شعرية: “انقطاع الكهرباء المتكرر في هذه الأيام/ يضطرني للنوم في الليل/ والسهر في النهار!”. هذه اللغة بلا قيد، كأنها وُلدت على مفترق الطرق، بين التوقف عن الكتابة والشروع بها من جديد، اختيارها نتج من حنين إلى الماضي الكتابي وصلابة في المخاطرة الشعرية. يتعامل الشاعر مع لغته كحمل ثقيل وكظل خفيف، لا ينقضي التعبير من خلالها سوى بتعب ٍيفسخ اليابسة الشعرية تحته، ليقلب عبدالله عينيه إلى الداخل ويخفي أذنيه في تجاويفهما، ويمضي في “تحليق حر ومستقيم/ بعدما أكون قد أوكلت القيادة/ للطيار الآلي”. كما لو أنه يتقاعد عن لغة الخطر ليبدأ جولة شعرية جديدة، يتمم فيها واجبه حيال ماضيه ويعتني به.