التنف مقابل البوكمال: استعدادات عملانية لمواجهة الاحتلال… مع فورة المعلومات عن استعدادات أميركية عسكرية في شرق الفرات والبادية، برزت المساعي لشدّ أزر «قسد»، وتنسيق عمل عسكري مشترك يَجري بمشاركة بقيّة الفصائل المدعومة أميركياً في منطقة التنف، وذلك بهدف معلن، وهو احتلال مدينة البوكمال لقطع الطريق بين دمشق وبغداد، ومنهما إلى العمق الإيراني. لكن دمشق لا تشعر بالقلق، بل على العكس من ذلك، إذ يعتبر أكثر من طرف في محور المقاومة أن التحرّك الأميركي سيكون مناسبة أمام أطراف المحور للانقضاض على القوات الأميركية في البادية السورية، وإخراج الأميركيين من هذه المنطقة الحساسة. وفيما يروّج الأميركيون لهجوم محتمل على قوات دمشق وحلفائها، تُظهر الاستعدادات العسكرية في البادية وشرق السويداء، ما يمكن اعتباره تحضيراً لهجوم برّي على قاعدة التنف الأميركية، ربّما يسبقه هجوم بطائرات مسيّرة وصواريخ باليستية، على غرار الهجوم على منشأتَي «أرامكو» في السعودية قبل سنوات.
وإذا كان الأميركيون يحاولون تجميع حلفائهم في البادية والشرق السوري من أجل البوكمال، مع ما تمثّله هذه الأخيرة استراتيجياً كطريق إمداد رئيس ومعبر حدودي مع العراق، فإن الجانب الآخر أيضاً لا يغفل عن تجميع قواه بهدف الردّ السريع على الخطوات الأميركية، خصوصاً أن القوات الروسية في سوريا باتت تشعر بالضيق من الحركة الجوية الأميركية، ولم تَعُد تجد حرجاً في التضييق على حركة الطيران الحربي الأميركي، الذي شكّل خطراً على الطيران المدني السوري في حادثتين خطيرتين في 2 و12 حزيران الماضي، بعدما تحرّش بطائرتين مدنيتين أثناء رحلتين من دمشق إلى موسكو وبالعكس.
في ذروة التحرّكات العسكرية الأميركية في الشرق السوري والغرب العراقي، وعودة الحديث عن ربط الإقليم الكردي في شمال العراق بالمناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد في الشرق السوري، وكذلك الحديث عن رغبة أميركية في دعم إقليم انفصالي للسّنة في وسط المنطقة الحدودية بين سوريا والعراق، فضلاً عن التغوّل التركي على مياه دجلة والفرات، جاءت زيارة رئيس الحكومة العراقية، محمد شيّاع السوداني، الأسبوع الماضي إلى دمشق، ولقاؤه الرئيس بشار الأسد، ليفتتحا مساراً مختلفاً في العلاقات الرسمية بين الدولتين. ويبذل السوداني، بالفعل، جهوداً جدّية لإقامة علاقة «ثابتة» مع سوريا، فيما يرغب الأسد في إقامة «علاقة مؤسّساتية» مع الدولة العراقية، وهو ما قاله صراحة في المؤتمر الصحافي المشترك، وكان أكّده في اللقاء الجانبي المغلق. لكن ثبات العلاقة مستقبلاً سيتأثّر حكماً بحجم الضغوط الخارجية، وبقدرة البلدين على صياغة وتنفيذ الخطط المشتركة. كما لا يمكن إغفال تأثير الاضطراب السياسي في العراق، والذي يهدّد الاستقرار في كلّ لحظة، والآن أيضاً، مع بروز مؤشّرات إلى انشقاقات داخل الائتلاف الحاكم في بغداد.
والجدير ذكره، هنا، أن استقرار العلاقات بين العراق وسوريا لطالما مثّل تهديداً مباشراً للعديد من القوى الدوليّة والإقليمية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل، التي جهدت لمنع أيّ تقارب حقيقي بين الطرفَين. ومنذ استقلال البلدين عن الاحتلالين البريطاني والفرنسي، مروراً بوصول «حزب البعث» إلى السلطة في بغداد ودمشق، بقيت جدران الفصل السياسي أعلى من المصالح المشتركة، ليبلغ الصراع ذروته في ثمانينيات القرن الماضي عبر حرب أمنية عنيفة. ثمّ جاءت الحرب الأخيرة في سوريا والعراق، لتكسر إلى حدٍّ ما السطوة الأميركية التي منعت البلدَين من التعاون، فاندفعت بعض الفصائل العراقية إلى القتال إلى جانب القوات السورية، بينما احتفظ القرار الرسمي العراقي بمسافة «آمنة»، إرضاءً للأميركيين.
في دمشق، يبرز التفاؤل بالزيارة تبعاً للمواقف الإيجابية التي عبّر عنها السوداني في العلن وفي الاجتماعات المغلقة، لكن دمشق لا تبالغ في انتظار نتائج سريعة وجذرية للزيارة، مع اطّلاعها على الضغوط الأميركية المستمرة على الحكومة العراقية لتبقى الأخيرة جزءاً من الحصار العسكري والاقتصادي على سوريا. وعلى ما تقول مصادر ديبلوماسية سورية، فإن «دمشق ترى في زيارة السوداني خطوة مهمّة لتحقيق تكامل مصالح البلدين، في ملفات الأمن والمياه والاقتصاد والمواصلات». وتشير المصادر إلى أن «هناك وعياً سورياً عراقياً مشتركاً، بأن مفتاح أمن المنطقة واستقرارها يكمن في مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية ذات الجذر الاقتصادي، وربط الشعوب بشبكة مصالح اقتصادية واجتماعية مشتركة». ووفقاً للمصادر التي تحدّثت إلى «الأخبار»، فإن «الزيارة أظهرت سعياً عراقياً لتفعيل اللجان المشتركة المعنيّة بالحصص المائية ومكافحة الإرهاب وتعزيز العلاقات التجارية مع سوريا»، فيما لمس السوريون حماسة عراقية لاستكمال «الانفتاح العربي» على دمشق بخطوات عمليّة. وفي هذا الإطار، عبّر السوريون عن «رغبة في دور عراقي في التوسّط لإزالة العديد من التوترات الإقليمية والدولية»، وهو ما يُفهم منه إعطاء الأسد الضوء الأخضر للجانب العراقي لإجراء اتصالات ووساطات مع دول عربية وغربية لا تزال تعادي دمشق.
وبدا واضحاً، لدى الجانب العراقي، الاهتمام الكبير بملفّات الأمن والحدود ومكافحة المخدّرات، حيث يتلاقى السوريون والعراقيون على همّ معالجة تسرّب الإرهابيين على طرفي الحدود، ومعالجة ملفّ مخيّم الهول الذي يرى فيه الجانبان قنبلةً موقوتة ويقطنه الآلاف من عائلات عناصر «داعش»، فضلاً عن تفكيك مخيّم الجدعة داخل الحدود العراقية. وعلمت «الأخبار» أن السوداني أعطى توجيهاته للأجهزة الأمنية والعسكرية العراقية، لرفع مستوى التنسيق الأمني مع الأجهزة السورية، لمتابعة هذه الملفّات، خصوصاً أن الأسد وضع السوداني في أجواء النقاش مع الجانب الأردني حول «أمن الحدود»، والجهود السورية لمكافحة المخدّرات.
ويعوّل السوريون والعراقيون على رفع مستوى التبادل التجاري، ولا سيّما من خلال تصدير البضائع العراقية عبر مرفأ اللاذقية، وقدرة العراق على مدّ سوريا بمشتقّات النفط والغاز لتعويض النقص الكبير الذي تعانيه البلاد في ظلّ الاحتلال الأميركي للشرق السوري. وتشكّل الزيارة محرّكاً مهمّاً لصياغة ملفّ مائي مشترك سوري – عراقي، يقوّي موقف العاصمتين في المفاوضات مع تركيا، التي تتعمّد قطع المياه عن البلدين، وتستخدم ملف المياه في الضغط السياسي، بعد أن عرقل الأميركيون لسنوات وضع تصوّر من هذا النوع. كذلك، يعزّز رفع مستوى التنسيق، قدرة الجانبين على مواجهة أيّ مشروع انفصالي جديد في المنطقة، ويضعف احتمالات ربط المسألة الكردية بين البلدين.