لا تزال النتائج التي أسفرت عنها «قمّة فيلنيوس» الأطلسية، الشهر الماضي، ترخي بظلالها على العلاقات التركية – الروسية. وما الاتصال الهاتفي الذي جرى بين الرئيسَين الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب إردوغان، أوّل من أمس، سوى أحد تجلّيات التوتّر المتصاعد في العلاقات بين البلدَين مُذّاك. وفي خلال الاتصال، شدّد إردوغان على أهمية أن يبقى اتفاق «تصدير الحبوب» «جسر سلامٍ» إلى العالم، غير أن بوتين بدا حاسماً إزاء مسألة إحيائه، والتي تتطلّب بحسبه «تلبية شروط موسكو» لناحية رفع العقوبات الغربية عن صادرات الحبوب الروسية إلى العالم. على أن هذا الموقف لا يلغي احتمال عقْد لقاء بين الزعيمَين في وقت قريب، ولا احتمال عودة روسيا إلى الاتفاق، في ظروف أخرى. واتفاق نقل الحبوب الأوكرانية إلى العالم عبر سفن (برقابة تركية، وإحجام روسيا عن التعرّض لها)، كان يُراد منه مساعدة الدول الفقيرة لتصل إليها حاجتها من القمح والذرة والشعير وغيرها من الحبوب الضرورية لمعاشها. ولكن، ظهر أن غالبية الحبوب – وفق ما يؤكد الروس – تذهب إلى الدول الغربية والغنية، و13% منها إلى تركيا نفسها، فيما لا يتبقّى سوى النزر القليل لأفريقيا والدول الفقيرة. ولذا، وعد بوتين، خلال القمة الروسية – الأفريقية الأخيرة، دول هذه القارة، بتصدير الحبوب الروسية إليها مجاناً.
وعلى الرغم من الاختلال في توزيع الحبوب الأوكرانية، وافقت روسيا على الاتفاق، وجدّدته أكثر من مرّة، آخذةً في الاعتبار رغبتها في استمرار العلاقات الجيّدة مع تركيا، ومكافأة إردوغان على عدم التزامه بتطبيق العقوبات الغربية الاقتصادية ضدّها، ليَجري من بعد ذلك إغداق «جرعات الدعم» الروسية على الرئيس التركي من أجل تعزيز فرص فوزه في الانتخابات. ومع أن العلاقات الجيّدة بين الطرفَين، تصبّ في مصلحتهما معاً، وهما حريصان على استمرارها وتقويتها، غير أن موسكو بدت أكثر حرصاً من أنقرة، كونها تجاوزت – لهذه الغاية – الكثير من الأفخاخ، ومنها: إسقاط الطائرة الروسية في 24 تشرين الثاني 2014، ومن ثمّ اغتيال سفيرها في أنقرة في 19 كانون الأول 2016. وإذا كانت ثمّة تباينات فجّة في سياسات البلدَين في كلٍّ من ليبيا وسوريا، إلّا أن رهانات روسيا ظلّت عالية لجهة استمالة تركيا إلى جانبها في صراعها مع الغرب و«الناتو». وما «الهدايا» الروسية لأنقرة في سوريا، سوى جزء من متطلّبات تلك الرهانات، بهدف إبعاد الأتراك عن «الأطلسي»، وصولاً إلى إخراجهم من عضوية الحلف، وهو ما لا ينفيه المراقبون الروس على أيّ حال.
غير أن حسابات الحقل الروسية لم تطابق على ما يبدو حسابات البيدر. فالحرب الاستباقية التي بدأتها موسكو على كييف، في الـ24 من شباط من العام الماضي، مضى عليها سنة ونصف السنة، من دون أن يمضي مسارها وفق ما تطلّع إليه بوتين ابتداءً؛ ذلك أن المساعدات الغربية لأوكرانيا على مستوى التسليح والمشاركة في التوجيه والتخطيط، وضعت عقبات حقيقية أمام مسار التقدّم الروسي، من دون أن تفلح في المقابل في تيسير الحسم المرغوب أوكرانياً. ويضاف إلى ذلك، بدء كييف، منذ مدة، إرسال مسيّرات لتضرب الداخل الروسي، بما فيه العاصمة موسكو، فضلاً عن تمرُّد قوات «فاغنر»، والذي ألحق ضرراً معنوياً ومادّياً بالجبهة الروسية. ومن هنا، كان قرار إنهاء «اتفاق الحبوب»، كأحد محاولات روسيا للضغط على الغرب في هذه المرحلة من الصراع الجاري.
لكن أيضاً، فإن إنهاء الاتفاق ما كان ليتمّ بهذا الحسم، لولا المواقف التركية «المفاجئة» عشية «قمّة فيلنيوس»، والتي اعتبرها الروس «عدائية». ومن أبرزها: قرار أنقرة تسليم كييف خمسة من قادة كتيبة «آزوف» ممَّن أفرجت عنهم موسكو على أن يبقوا في تركيا إلى حين انتهاء الحرب، ومن ثمّ تأييد إردوغان انضمام أوكرانيا إلى «حلف شمال الأطلسي»، وبعدها، أثناء القمّة، رفعه «الفيتو» عن انضمام السويد إلى الحلف، وقبلها بأشهر موافقته على انضمام فنلندا إليه.
وإذ كانت روسيا تدرك، باعتراف الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، أن تركيا بلد أطلسي، وأن عليها التزامات خاصّة تجاه الحلف، فإن معرفتها بذلك، والتي لم تمنعها سابقاً من الرهان على بقاء «حليفتها» على مواقفها الاعتراضية على الغرب وحصاره لموسكو، ولا سيما في المجالَين العسكري والاقتصادي، ستكون الآن محلّ اختبار أكبر، بعدما أظهر إردوغان استعداداً لـ«التخلّي» في أكثر القضايا حساسيّة وخطورة بالنسبة إلى روسيا. وفي هذا الإطار، لن يقابل الروس بارتياح الخبر الذي نشرته وزارة الدفاع الأوكرانية، قبل أيام، من أنها وقّعت مع شركة ماكينات «بايكار» التركية اتفاقاً لإقامة مركز لصيانة وترميم المسيّرات على الأراضي الأوكرانية، فيما يشاع أن «توضيح» أنقرة أن «مركز الغاز» الذي وعد بوتين بإقامته في تركيا وفي منطقة تكيرداغ الأوروبية، لن يكون عبارة عن مستودع يُخزَّن فيه الغاز الروسي ليُباع في السوق العالمية، بل هو مجرّد منصة إلكترونية تبيع الغاز الروسي وربّما غيره، إنما ناجم عن ردّ فعل روسي أوّلي على مواقف تركيا السلبية في الآونة الأخرى.
بالنتيجة، تبدو العلاقات بين أنقرة وموسكو في مرحلة اختبار حقيقية قد تكون الأكثر حساسية منذ بدء «الشراكة» بين البلدَين في اجتماع بوتين وإردوغان في التاسع من آب 2016، في سانت بطرسبروغ. ومع أن الطاقم الجديد في تركيا الذي يتولّى السياسة الخارجية، وعلى رأسه حاقان فيدان، الذي كان – بصفته رئيساً للاستخبارات – جزءاً لا يتجزّأ من المفاوضات والعلاقات بين تركيا وروسيا منذ أكثر من 10 سنوات، أفضل مَن يَفهم روسيا، وبالتالي يمتلك إمكانية تجاوز القطوع الحالي، غير أن طرف الخيط يبقى في مَن يمسكه، أي إردوغان الذي أَظهر براعة في التذبذب في المواقف، والانتقال من موقع إلى نقيضه مُستغلّاً بمهارة لحظات الضعف الروسية. ومع ذلك، قد لا يجد بوتين بدّاً من أن يتحمّل «الضيم» التركي، ويُعيد صوغ «الشراكة» مع أنقرة ولو على مضض في لقائه المرتقب قريباً مع إردوغان في أنقرة.
صحيفة الأخبار اللبنانية