بدت واضحة عودة الاهتمام الأميركي والغربي بأهمية الساحة السورية من جديد، بعد فشل الهجوم الأوكراني المُتبنى من حلف “الناتو”، فهناك خشية حقيقية لديهم من انعكاس هذا الفشل على وضعية مناطق غرب آسيا.
ألقت الاضطرابات التي اندلعت في السويداء منذ بضعة أيام بظلالها على المشهد السياسي العام في سوريا، وأطلقت الهواجس من جديد حول مستقبلها، وخاصةً ما يتعلق بمصير وحدة أراضيها، وسيادتها عليها، بعد ملامح العودة إلى المربع الأول، في عام 2011، وعودة التدخل الخارجي الذي لم ينقطع.
أنتجت الحرب واقعاً جغرافياً مؤلماً للسوريين فيما بينهم، وأخذت شكل الحدود الفاصلة بين الدول، بل أصعب من ذلك، فحركة السوريين بين هذه المناطق أكثر تعقيداّ وصعوبة، وتكاد تكون شبه مستحيلة مع مناطق شمال غرب سوريا، حيث مناطق الاحتلال التركي، والجماعات المسلحة التي تعمل لديه.
بدت واضحة عودة الاهتمام الأميركي والغربي بأهمية الساحة السورية من جديد، بعد فشل الهجوم الأوكراني المُتبنى من حلف “الناتو”، فهناك خشية حقيقية لديهم من انعكاس هذا الفشل على وضعية مناطق غرب آسيا، وأن تتحوّل من جديد إلى منطقة صراع خشن، فبدأ الأميركيون العمل على تصعيد تحركاتهم العسكرية في منطقة الجزيرة السورية، ومحيط التنف، وصولاً إلى العبث بمناطق السويداء ودرعا، لتعزيز الانقسام الجغرافي.
والأمر لم يتوقف على سوريا، بتحركاتهم العسكرية التي لم تتوقف في العراق أيضاً بين القواعد المنتشرة فيه، والعمل على رفع القدرات العسكرية لإقليم أربيل، وتأهيل 28 لواءً عسكرياً جديداً من البيشمركة، بما لها من أدوار خاصة في العراق وإيران، ويكرس أكثر واقع الانفصال في العراق.
كما أن العامل الإسرائيلي المأزوم بالانقسام الداخلي، والخشية من مواجهة عسكرية يحتاجها، ولا يريدها مع قوى المقاومة، له دور أساسي في الحسابات الأميركية والغربية، والذي يتطلب تأمين اندماجه بالمحيط، وإزالة التهديدات المستمرة له، والمحيطة به من الشمال والشرق على الحدود اللبنانية والسورية، وفي غزة والضفة الغربية وداخل الأراضي المحتلة عام 1948، وهذا العامل يحتاج إلى تفكك سوريا المدمرة بشكل كامل، وبناء حزام أمني من السوريين على الحدود، ويسمح هذا التفكيك المترافق باستمرار الدمار، وعدم عودة التعافي، بالتحكم في الصراعات الداخلية، ويقطع طريق شرق المتوسط إلى العراق وما بعده.
ويلعب الجانب التركي دوراً سلبياً ومدمراً في التركيبة الجغرافية والسكانية، بما يعزز الانقسام السوري، وبما يخدم استراتيجية قضم الأراضي السورية، التي بدأت بعد الحرب العالمية الأولى، رغم ما تحمله هذه السياسات من مخاطر على بنية الدولة التركية، بما تحمله من تناقضات سياسية وقومية ودينية، بين مكونات المجتمع التركي، ومع ذلك فإن الأطماع التركية مستمرة بالمطالبة بعمق أمني، يصل إلى حدود الـ 70 كم على كامل المنطقة الشمالية من سوريا، ويترافق ذلك مع مشروع بناء “مدن الطوب”، بتمويل قطري، لأجل إعادة اللاجئين السوريين إليها، ليشكلوا منطقة نفوذ سياسي واقتصادي تركي، بما يؤهلها فيما بعد لطلب الانضمام إليها.
على الرغم من الدور الروسي السلبي، الذي منح تركيا فرصة اجتياح جرابلس عام 2016، وبعدها عفرين التي أخطأ قادتها السياسيون والعسكريون تقدير الموقف، فإن الموقف الروسي العام تجاه تفكيك سوريا، معارض بشدة، إذ يمس هذا التفكيك المكانة الروسية التي تعمل عليها كبديل مناقض للسياسات الغربية، باحترامها لسيادة الدول وحفاظها على أراضيها، وقد تساهم تصوراتها للحل السياسي السوري، في إعادة وحدة الأراضي السورية، بما يضمن للسوريين الشراكة في السلطة والثروة، رغم عدم وضوح هذا الحل حتى الآن.
ويقف الإيرانيون إلى جانب روسيا في مواجهة عملية التفكيك، وخاصةً أن القوى المُفكِكة، لن تتوقف في سوريا، كما لم تتوقف في العراق من قبل، ونجحت في ذلك، فإن القبول بالتفكيك السوري، سيجعل من انتقال العدوى إلى إيران ممكناً، وهي بحاجة إلى مواجهة الأميركيين في سوريا والعراق، وإجبارهم بالتوافق مع روسيا على الخروج من كامل المنطقة، عدا عن المواجهة مع الإسرائيليين، الذين يدركون أن إيران خصمهم الأقوى، والأكثر تهديداً وجودياً لهم، بدعم قوى المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق، وتفكيك سوريا يُعدّ هزيمة لها.
يختلف الدور العربي الذي تقوده المملكة العربية السعودية والإمارات، والذي لا يخلو من التنافس والصراع بينهما، عن الدور القطري المستمر بدعم السياسات التركية والإخوانية، وهذا الدور المستجد بعد الانزياح الواسع في العلاقة نحو الشرق، ودخول منظمة “بريكس”، يصب في مصلحة عدم تفكيك سوريا، التي تشكل أهمية جيوسياسية كبرى كمحور بين الشمال والجنوب، كم يهمها تقليص الدورين التركي والإيراني في سوريا، وإعادة سوريا إلى المنظومة العربية، ولكن ذلك يتطلب بداية، تأمين استقرار سوريا غير القابل للتحقيق من دون حل سياسي.
وقد يكون العامل السوري الداخلي هو العامل الأهم في كل معادلة منع التفكيك، والانتقال إلى التوحيد، ويتميز هذا العامل بالتناقض، فهو من جهة السياسات العسكرية والخارجية، يلعب الدور الأهم لمنع التفكيك، والاستمرار في استعادة المزيد من الأراضي خارج السيطرة، ولكنه في الوقت ذاته يلعب دوراً سلبياً في ترسيخ التفكك، بفعل المستوى الاقتصادي والإداري والسياسي، بما يساهم في استمرار سياسات الهجرة واللجوء، وتوسيع هامش فقدان الثقة مع الأطراف السورية المتنوعة، والفشل في بناء نموذج داخلي إيجابي مستقطب للسوريين، يدفعهم للعودة إلى سوريا، والمساهمة في إعادة بنائها من جديد.
ضمن هذه المعادلات الصراعية، فإن مخاطر التفكيك تتساوى مع آمال التوحيد، بفعل استمرار ستاتيكو الصراع في سوريا على وضعه الحالي، والأمر يتطلب كسره، والدفع بالسوريين إلى التوافق على مستقبل بلادهم، ضمن إطارٍ يجتمعون عليه.
الميادين نت