المؤشرات والمعطيات السياسية في المنطقة بل في العالم كلّه تظهر أنّ الوضع على حافّة الانفجار والتصدّع، فهل نحن أمام حرب عالمية ثالثة، وموجة ثانية من التكفيريين والثورات الملونة؟
لم يمر وقت طويل على أوهام الانفراج والتسويات الإقليمية حتى أظهرت المؤشرات والمعطيات السياسية أن المنطقة بل والعالم كله على حافة انفجارات وتصدعات وتوترات إقليمية ودولية غير مسبوقة.
ثمّة حرب عالمية ثالثة لا تحتاج إلى ساعة صفر تقليدية، وثمة موجة ثانية من الخراب المركب للثورات الملونة والجماعات التكفيرية، وبين هذه وتلك تقاطعات وتشبيكات تصب جميعها في الدائرة القديمة – الجديدة نفسها، الإمبرياليات واليهودية العالمية، وتحدد ساحاتها في كل مرة وفق اعتبارات متغيرة من حيث وزنها السياسي النسبي، مثل أوراسيا وطريق الحرير، كما وفق اعتبارات شبه ثابتة، مثل الشرق الأوسط، حيث يتعالق النفط السياسي مع الكيان الصهيوني مع هاجس القلق والفوبيا الغربية من إيران.
عن الحرب العالمية الثالثة الدائرة فعلاً
منذ الأزمة الكبيرة التي ضربت الاقتصاد الرأسمالي 2008 والإمبرياليات، الأميركية والأوروبية، تتخبط في حساباتها ومقارباتها إزاء ما ينبغي لها فعله لاستيعاب أزماتها البنيوية التي لم تعد لعبة وأوهام مدرسة شيكاغو قادرة على مواجهتها.
وإذا كانت المتروبولات الأوروبية بسبب نظامها المالي النقدي لم تدخل نفق الأزمات الكبيرة على الطريقة الأميركية، فإن احتفاظها بفلسفة الأسواق الصناعية لم يحصنها ضد صعود الصين الكبير، فيما تضاعفت الأزمة الأميركية بعد أن راهنت على سيطرة طويلة الأمد للدولار على النظام المالي العالمي، واعتقدت أن هذا النظام الدولاري مع الثورة المعلوماتية وعربدة أساطيلها في البحار كفيل بإدامة سيطرتها.
فلم تعد الثورة المعلوماتية حكراً على الغرب، وفتح المشروع الروسي لنظام جديد من التبادلات المالية والتجارية شهية كل العالم الذي يعاني من التوريق والدولرة الأميركية، وتجلت الضربة التالية من قراءة الاستراتيجيين الأميركيين أنفسهم مثل بريجنسكي لأهمية الجيوبوليتيك في المشهد السياسي الراهن، بعد أن كان كامناً في بقية السياسات.
فكان الحديث عن أوراسيا والقلب الروسي لها وعن طريقي الحزام والحرير الصينيين، مدعاة لاستراتيجيات عمل سوداء عبر أوكرانيا وبحر الصين الجنوبي، سرعان ما تبيّن أنها بدلاً من أن تشكل عبئاً على روسيا والصين، وسعت “البيكار” على دوائر أوسع لصالح موسكو وبكين ومكّنتهما عبر “البريكس” وتوسيعه وعبر الاتفاقيات الثنائية وتحويل الدعوة الروسية من أجل عالم متعدد الأقطاب إلى أوراق عمل ميدانية.
في قلب هذه التحولات بدأت القارات تهتز تحت أقدام الإمبرياليين في الولايات المتحدة وأوروبا، ابتداء من أميركا اللاتينية التي انتظرت بفارغ الصبر التخلص من الأميركي الشمالي (اليانكي) وراح عملاء البنتاغون ونظرية مونرو يتساقطون الواحد بعد الآخر مثل أحجار الدومينو، واختفى عشرات الجنرالات والليبراليين المزعومين من هذه الحجارة؛ خوفاً من الملاحقة القانونية والعقاب الشعبي.
وعلى غرار الهزائم المتتالية لواشنطن في أميركا اللاتينية (حديقتهم الخلفية بحسب مبدأ الرئيس الأميركي الأسبق مونرو)، أخذت الدوائر تدور على فرنسا في أفريقيا وراحت تفقد مستعمراتها السابقة، دولة إثر دولة، بالرغم من محاولاتها تحريض بقايا الدول الأفريقية التابعة ضد أبناء جلدتهم من الأفارقة.
أما في آسيا وخاصة، الصين والهند وروسيا الآسيوية، التي تشكل في مجموعها الجانب الأكبر في تحالف “البريكس”، فقد أصبحت من القوى الأساسية في الاقتصاد العالمي والقوى العسكرية بما يجعلها مؤهلة وقادرة على إنهاء القطبية الأميركية، وتوفير مناخات حقيقية لإزاحة الدولار عن عرش النظام المالي والنقدي العالمي.
انطلاقاً من الصورة السابقة، وتفاقم الأزمات البنيوية للمنظومة الرأسمالية الشمالية الأميركية والأوروبية، وصعود قوى دولية وإقليمية جديدة والتأسيس لنظام مالي ونقدي جديد، راحت المتروبولات الرأسمالية تهرب إلى خياراتها التقليدية المعروفة بتوتير العالم وعسكرته كما في أوكرانيا، وتوسيع بؤر التوتر فيه وصناعة بؤر جديدة، ما أدخل العالم فضاءات جديدة من الحرب العالمية الثالثة، تذكر بفكرة الفيلسوف الفرنسي، فوكو حول المساحات الأفقية لصراع القوة وانتشارها وتخللها كل القطاعات والمسامات الاقتصادية والعسكرية والإعلامية.
لكن هذا الشكل من الحرب واستخدام القوة والمعرفة وتوزعها، بقدر ما يخدم الإمبرياليين في دمج أكبر قطاعات من البشر في حروبهم، بقدر ما يرتد عليهم بالنظر إلى المآلات الموضوعية نفسها.
الموجة الثانية من التكفيريين والثورات الملونة
ثمة موجة ثانية من الفوضى الهدامة وبالأدوات نفسها التي شهدتها الموجة الأولى مع تعديلات على جغرافيتها وخطابها، وبحيث تلائم المصالح الإمبريالية بين أوراسيا وطريق الحرير والصحراء الكبرى ونفط الشرق الأوسط.
فأما الأدوات، فهي جماعات الثورات الملونة الليبرالية من جهة والجماعات التكفيرية المسلحة من جهة ثانية، وأما الجديد في خطابها فهو بالنسبة إلى الجماعات التكفيرية التركيز أكثر على أشكال من السلطة وليس مجرد التبشير فقط، مدعومة من القوى الأطلسية واسترشاداً بآية السيف ضد من تسمّيهم بالكفار والمرتدين، فإذا لم تكن إقامة الخلافة ممكنة، فلا بأس من ثغور على أطراف هذه الدولة أو تلك، وحيثما تقتضي الحاجات الإمبريالية بين القلمون وبادية الشام والأنبار والصحراء الكبرى جنوب أفريقيا العربية، كما قرب حدود روسيا والصين وإيران.
أما بالنسبة إلى الثورات الملونة، فثمة مهمات جديدة من عناوينها: المثلية، صوفية القابالاه اليهودية، والإنسان الجديد (ما بعد الإنسان) كخليط بين البيولوجيا والذكاء الاصطناعي، وذلك إلى جانب المهمات القديمة – الجديدة باسم الليبرالية وتحطيم أي دور اجتماعي – اقتصادي للدولة باسم مكافحة الشمولية وبما يخدم استراتيجية العدو الصهيوني المعروفة في تفكيك المنطقة وتمزيقها.
وقد نشهد تقسيماً متكاملاً للعمل بين الثورات الملونة والجماعات التكفيرية في ما يخص جغرافيا هذه الموجة، على غرار ما شهدته سوريا: ثورة ملونة باسم الخبز تحمل علماً طائفياً في إحدى المحافظات، وعلى بعد مسافة قصيرة منها هجمات داعشية على الجيش السوري في صحراء تدمر، إضافة إلى منطقة إدلب وبالرعاية الأميركية وغير الأميركية للطرفين معاً، الملوّنين والتكفيريين.
الميادين نت