في عام 2008، وعلى هامش قمة “مجموعة دول الثماني” المنعقدة آنذاك في جزيرة هوكايدو اليابانية، اجتمع كل من لويس إيناسيو دا سييلفا، رئيس البرازيل، وفلاديمير بوتين، رئيس روسيا الاتحادية، ومانموهان سنج، رئيس وزراء الهند، وهو جين تاو، رئيس الصين؛ لمناقشة أفضل السبل لتنسيق السياسات الاقتصادية لبلادهم، خاصة في كل ما يتعلق بالنظام المالي والتجاري وسلاسل توريد الغذاء، وفي العام التالي مباشرة، قررت هذه الدول إقامة تجمع اقتصادي فيما بينها عُرف في ذلك الوقت باسم “BRIC” نسبة إلى الحروف الأولى من أسماء الدول الأربع باللغة الإنكليزية.
وعندما تقرر ضم دولة جنوب أفريقيا التي أصبحت إحدى الدول المؤسسة له اعتباراً من أول كانون الثاني/ يناير 2011، أضيف حرف S إلى اسمه الأصلي ليصبح رسمياً تجمع دول “بريكس BRICS” وهو الاسم الذي ظل يعرف به حتى 24 آب/أغسطس الماضي/ حين تقرر ضم 6 دول جديدة دفعة واحدة، هي: مصر والسعودية والإمارات وإيران وإثيوبيا والأرجنتين، ويتوقع أن يعرف منذ الآن فصاعداً أو بالأحرى اعتباراً من أول كانون الثاني/يناير 2024 باسم “بريكس بلس BRICS PLUS”.
لم يكن الهدف من تأسيس “بريكس” في البداية تحدي النظام العالمي القائم، سواء في بعده الاقتصادي أو في بعده السياسي، ولم يعرف عن هذا التجمع المحدود العضوية في ذلك الوقت حرصه على إقامة نظام عالمي مختلف وإنما كان هدفه الأساسي تعزيز وحماية مجموعة من “الاقتصاديات الناشئة” التي اتسمت بالديناميكية الشديدة وبالقدرة على تحقيق أسرع معدلات نمو في العالم آنذاك.
ففيما لم يتجاوز نصيب الدول المؤسسة له 16% من الناتج الإجمالي العالمي عام 2000، ارتفعت هذه النسبة إلى أكثر من 22% في السنة السابقة مباشرة على تأسيسه، ثم إلى نحو 40% هذا العام، ما يدل بشكل قاطع على أن تأسيس هذا التجمع صب لصالح الدول الأعضاء كافة.
ولأن النظام الدولي شهد منذ ذلك الحين تحولات جذرية تدل على أنه يتجه نحو مرحلة استقطابية جديدة، ربما تكون أشد خطورة من مرحلة الحرب الباردة، فقد كان من الطبيعي أن يحاول تجمع “بريكس” التأقلم مع هذه التحولات من خلال توسيع نطاق العضوية فيه، على أمل أن يسهم ذلك في تحسين أداء النظام العالمي الراهن والتخفيف من مساوئ الهيمنة الأميركية المنفردة عليه. لكن، هل تعني هذه الخطوة أننا إزاء محاولة لإقامة تكتل أو “معسكر” اقتصادي وسياسي جديد في مواجهة المعسكر الآخر الذي تقوده الولايات المتحدة والغرب، أم أننا إزاء محاولة جادة لإقامة نظام عالمي جديد يحقق طموحات البشرية في إقامة نظام دولي أكثر عدالة وقدرة على مواجهة التحديات الكونية؟
لا يختلف أحد على أن تجمع “بريكس” نجح خلال فترة وجوده على الساحة الدولية، والتي لم تتجاوز عقداً ونصفاً، في التحول إلى مركز جذب شديد الإغراء بالنسبة إلى العديد من دول العالم، بدليل أن أكثر من 40 دولة أفصحت عن اهتمامها بتوثيق علاقاتها به على مختلف الصعد والمستويات، وأن 16 دولة تقدمت رسمياً بطلبات للعضوية، وذلك وفق تقرير نشرته وكالة “رويترز” عشية انعقاد قمته الأخيرة في جوهانسبرغ.
يلفت النظر هنا أن هذه الموجة من التوسع، وهي الأولى في تاريخ “بريكس” حكمتها معايير واعتبارات جيوسياسية متنوعة، وبالتالي لم تقتصر على المعايير أو الاعتبارات الاقتصادية التقليدية، منها:
1- الحرص على ضم أهم الدول المنتجة للطاقة في العالم، وهو ما يفسر قبول السعودية وإيران والإمارات أعضاء جدداً في موجة توسعه الأولى، وبهذا سيصل مجمل إنتاج دول “بريكس بلس” من النفط إلى أكثر من 40 مليون برميل من النفط يومياً، وسيكون بمقدور هذا التجمع الدولي السيطرة على أكثر من 43% من إنتاج الطاقة في العالم، ما يعني أنه سيكون له القول الفصل في مجموعة أوبك + أيضاً.
2- الحرص على مراعاة توازنات جيو سياسية معينة تضمن له ضم دول مهمة من آسيا (إيران والسعودية والإمارات)، وأخرى من أفريقيا (مصر وإثيوبيا) وثالثة من أميركا اللاتينية (الأرجنتين)، بعضها معاد بوضوح وصراحة للغرب (إيران)، وبعضها الآخر أقرب إلى الغرب أو حتى حليف له (الإمارات والسعودية ومصر)، ما يتيح لتجمع “بريكس” طرح صورته كتجمع عالمي للدول الراغبة في بناء نظام دولي جديد أكثر عدالة وأقل تسلطاً، وليس كتكتل إقليمي أو كمحور معاد للولايات المتحدة والمعسكر الغربي.
3- عدم التردد في ضم دول متباينة أو حتى متعارضة المصالح إلى حد التصادم أحياناً (كالسعودية وإيران، ومصر وإثيوبيا)، وهو ما يرى فيه البعض عاملاً سلبياً قد يؤدي إلى إضعاف هذا التجمع وزيادة تناقضاته الداخلية، بينما يرى فيه البعض الآخر عاملاً إيجابياً قد يؤدي إلى تحوّل “بريكس” في المستقبل إلى مظلة سياسية قادرة على احتواء بعض الأزمات الدولية المستعصية ومعالجتها، كالأزمة بين السعودية وإيران أو بين مصر وإثيوبيا. وأياً كان الأمر، فمن الواضح أن هذه الموجة من موجات التوسع في عضوية “بريكس” لن تكون الأخيرة، وأن نجاح هذا التجمع الدولي في الإسراع بعملية تحوّل النظام الدولي الراهن أحادي القطبية إلى نظام متعدد القطبية سيتوقف في نهاية المطاف على قدرته على حل مشكلات “الجنوب العالمي”، خاصة مشكلاته الاقتصادية التي فشلت في حلها كل النظم التي تعاقبت على قيادة النظام الدولي منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن.
فحين تحوّل النظام الدولي في نهاية الحرب العالمية الثانية من نظام تسيطر عليه الدول الكبرى المنتصرة في تلك الحرب، ويتخذ من ميثاق “الأمم المتحدة” مرجعيته القيمية والقانونية، إلى نظام ثنائي القطبية يسعى للهيمنة عليه معسكران متصارعان أيديولوجياً وسياسياً، انفسح المجال لظهور تجمع دولي ثالث يعبّر عن مصالح “أغلبية صامتة” من الدول، كانت ما تزال حتى ذلك الوقت محرومة من ممارسة أي دور على المسرح الدولي؛ بسبب وقوعها تحت الاحتلال العسكري المباشر للقوى الاستعمارية الأوروبية، وتعاقبت على قيادتها حركات سياسية واقتصادية متنوعة، كـ”حركة التضامن الآسيوي- الأفريقي” التي جسدتها قمة باندونج، ثم “حركة عدم الانحياز” التي تأسست في بلغراد في بداية الستينيات، ثم “مجموعة 77” التي تأسست إبان انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية في منتصف الستينيات وأصبحت تضم الآن 134 وتعرف باسم “الجنوب العالمي”.
غير أن هذا التجمع الدولي فشل في تحقيق أغلب طموحاته بسبب الخلل الكامن في موازين القوة على الصعيد العالمي، وهو الخلل الذي تجلى بوضوح سواء إبان مرحلة النظام الدولي ثنائي القطبية أو إبان مرحلة النظام الدولي أحادي القطبية.
صحيح أن النظام الدولي ثنائي القطبية سمح لدول الجنوب بهامش أكبر من حرية الحركة السياسية أتاحت لها إمكانية التعبير عن مطالبها الاقتصادية، والتي تمحورت حول ضرورة إقامة نظام اقتصادي عالمي جديد يسمح بتعديل شروط التبادل الدولي المختلة لصالح المنتجات المصنعة، ونقل التكنولوجيا بشروط أكثر إنصافاً، والحد من تدخل الشركات العابرة للقومية في شؤونها الداخلية..إلخ، بيد أن موازين القوى السائدة لم تسمح لها بالذهاب بعيداً في هذا الاتجاه، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي الذي كشف عن هشاشة التوازن القائم بين المعسكرين آنذاك، حيث تبين أن هذا التوازن استند إلى موازين الرعب النووي أكثر من استناده إلى موازين القوة الشاملة التي مالت بحسم لصالح المعسكر الغربي، كما تبين أن الحرب الباردة بين المعسكرين يمكن أن تحسم من دون إطلاق رصاصة واحدة.
اليوم، يبدو الوضع مختلفاً. فالنظام الدولي الحالي هو نظام أحادي القطبية، تطمح الأغلبية الساحقة من دول العالم إلى زحزحة الهيمنة الأميركية المنفردة عليه وتحويله إلى نظام ليس متعدد القطبية فحسب، وإنما إلى نظام قادر على مواجهة التحديات الخطيرة التي تواجه البشرية ككل، كتحديات البيئة والفقر والفساد والتنمية غير المتوازنة والجريمة المنظمة وغيرها من التحديات الكونية.
ويبدو أن تجمع “بريكس”، خاصة بعد الموجة الحالية من موجات التوسع في العضوية، سيحاول طرح نفسه كنواة لتجمع عالمي يبحث عن أمن البشرية ككل وسلامها، وليس عن أمن مجموعة صغيرة أو محدودة من “الأقطاب الدولية”. فقد كان لافتاً للنظر أن يفرد البيان الختامي الصادر عن قمته الخامسة عشرة فقرات مطولة تتحدث عن أهمية إصلاح الأمم المتحدة، خاصة مجلس الأمن الذي لم تعد العضوية فيه تعبر عن التوازنات الجيوسياسية الراهنة في النظام الدولي، وعن حاجة المجتمع الدولي الماسة إلى نظام مختلف يكون أكثر قدرة وفاعلية على تحقيق السلم والأمن للبشرية كافة.
كما كان لافتاً للنظر أن يعيد الرئيس الصيني في أروقته تكرار المقولة التي يحلو له ترديدها دائمة، ولكن بطرق متنوعة، مفادها أن الهيمنة “ليست ضمن مكونات الحمض النووي الصيني”.
لكي يثبت تجمع “بريكس” صحة هذه المقولة عليه أن يثبت أولاً أنه يرغب حقاً في مساعدة “الجنوب العالمي” على مساعدة نفسه، بالاستثمار في بنيته التعليمية والثقافية والفكرية، وفي نقل التكنولوجيا المتقدمة إليه، وليس فقط في مساعدته على إقامة بنيته التحتية الأساسية أو على التخفف من عبء مديونيته من خلال استبدال الدولار الأميركي باليوان الصيني!.
الميادين نت