ميادة الحنّاوي… «شمس» لا تنطفئ… تقول الحكاية التاريخية الواقعية إنّه في إحدى السهرات الدمشقية الصيفية في سبعينيّات القرن الماضي، أعاد موسيقار كبير اكتشاف مغنيّة شابة. لكنّها لم توافق على طلبه، لأنّها وقتها كانت زوجة وزير وابنة مدينة عُرف عنها الالتزام الديني بقدر ما اشتهرت بقدرتها على رفد الساحة الفنية بالطرب الأصيل ونجوم الغناء.
الحديث هنا عن «مطربة الجيل» ميّادة الحناوي (1959) و«موسيقار الأجيال» الراحل محمد عبدالوهاب (1902 ــ 1991). في الفترة التي كانت فيها الشام قبلة للسياحة، ظلّت بلودان (ريف دمشق) تحتّل مكانة عالية من دون أن يعرف غالبية من قصدوها بأنّها سمّيت تاريخياً بـ «مصيف المشاهير»، إلى درجة أنّ محمد عبد الوهاب حجز لنفسه طاولة شبه ثابتة في أحد مطاعمها، برفقة صديقه وزير الداخلية السوري السابق عدنان دبّاغ، زوج ميّادة الحناوي آنذاك. غنّت ميّادة منذ الصغر، وعندما أعاد اكتشافها الموسيقار المصري بعدما استمتع بصوتها لوقت طويل وأشاد به بل وقع في غرامه، دعاها لزيارة مصر لاحتراف الفن. لكنّها رفضت لأنّها لم تكن تنوي الخوض في عالم الطرب، على الرغم من أنّها ابنة عائلة فنية رصينة، وشقيقتها فاتن الحنّاوي اشتهرت بأنّها مطربة سورية مقبلة نحو الشهرة. أما شقيقها عثمان الحناوي، فباحث موسيقي وذاكرة متّقدة توثّق الزمن الجميل. ساعده في ذلك، أنّه بعد وفاة زوج شقيقته ميّادة، رافقها إلى مصر، حيث أقاما في زمن مزدحم بنجوم يتنافسون على الغناء الأصيل. هناك، جهّز عبد الوهاب لميّادة ألحاناً خاصة، وظلّت على مدار عامين تتحضّر للانطلاقة. وعندما تعاملت لاحقاً مع الموسيقار الراحل محمد الموجي (1923 ــ 1995)، أغضبت صاحب «كلّ ده كان ليه» فسحب منها أغنية «في يوم وليلة» لتذهب إلى وردة الجزائرية (1939 ــ 2012) فتصبح من أشهر وألمع أعمالها. حفلات ميّادة التلفزيونية كانت برفقة «فرقة الفجر» بقيادة المايسترو السوري الراحل أمين الخيّاط (1936 ــ 2023)، فيما حضورها النادر جعل كبار الملحنين في المحروسة يتسابقون للعمل معها، إلى درجة أنّه نُقل عن الموسيقار الراحل رياض السنباطي (1906 ــ 1981) قوله: «يسعدني كما بدأت حياتي مع أم كلثوم أن أنهيها مع ميادة الحناوي». علماً أنه لحّن لها قصيدته «أشواق» وأغنيتها الخالدة «ساعة زمن».
من المعلوم أنّ أحد ملهميها وصنّاع نجاحها كان الموسيقار الراحل بليغ حمدي (1932 ــ 1993) الذي قدّمت معه أبرز أعمالها الجماهيرية الخالدة، مثل: «أنا بعشقك»، و«الحبّ اللي كان»، و«فاتت سنة». لذا، شكّلت وفاته صدمة مهنية لها، تمكّنت من تجاوزها وراحت تتكّيف مع روح العصر آنذاك. هكذا، تغيّر شكل منجزها من دون التخلّي عن جوهره وقوامه. قدّمت الأغنية الطربية القصيرة، مثل «غيّرت حياتي» (سامي الحفناوي) ومن ثم «مهما يحاولوا يطفّوا الشمس» مع صلاح الشرنوبي الذي أصدرت معه عام 1999 ألبوم «توبة». ثم انكفأت لأسباب قالت إنّها «شخصية» لغاية عام 2004. بعدها، يمكن القول إنّها كانت آخر أيّام المجد الحقيقي عندما أحيت حفلات عامرة في مدن عربية عدّة، أهمّها قرطاج. تلا ذلك انهماكها في أغنيات وطنية مع الملحن خالد حيدر و«شركة الشرق السورية» (نبيل طعمة ــ كتب لها أغنيتين وطنيتين لدمشق وبيروت). أصدرت بعد ذلك أوبريت «يسلم ترابك يا شام» (كلمات رامي يوسف، وألحان هيثم زياد) بمشاركة نجوم الغناء العربي: هاني شاكر، ولطيفة التونسية، وعاصي الحلاني وحسين الجسمي.
ثم تعرّضت وبعض زملائها لهجوم شرس قاده الممثل ونقيب الفنانين السوريين السابق الراحل صباح عبيد. الأخير كان صاحب الجملة الشهيرة: «لو كان بازوليني عضواً في نقابة الفنانين، ولم يدفع ضرائبه والتزاماته المالية، فسأطوي قيده». جملة ردّدها على إثر حملة شُّنت ضده، لأنه طوى قيد نجوم الفن في سوريا، وعلى رأسهم ميادة الحناوي، وهيثم حقي، وياسر العظمة، وغيرهم. مرّت تلك الموجة عام 2007 بينما كانت صاحبة «نعمة النسيان» تنقطع وتعود من خلال حضور إعلامي متباين، وقد ظهرت بعدها كأنّها خضعت لعملية تجميل، لأنّها فقدت وزناً بسرعة لافتة. وفي عام 2014، حضرت بألبوم تعاونت فيه مع الملحن الجزائري نبلي فاضل، وغنت قصيدة «كردستان موطن الأبطال» (كلمات الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، وألحان هلكوت زاهير)، ليأتي بعدها قرار العودة إلى الساحة بجرأة، متكئة على تاريخ شاهق من أجل مواجهة الجمهور على خشبات المسارح وفي الحفلات المباشرة. ولكن ربما كانت النتيجة مخيبة للآمال، أو لنقل إنّها ليست على قدر الطموح!
وكان لافتاً اختلال توازنها على المسرح وهي تحيي حفلة في سيدي منصور في تونس أثناء غناء «أنا بعشقك»، فهوت أرضاً. ثم حاولت بعدها استعادة قوّتها والغناء مجدداً وقوفاً، لكنّها لم تتمكّن من ذلك، فاستأذنت الجمهور لتجلس على الكرسي. المقطع المصوّر تم تداوله آنذاك بغزارة، قبل أن تتكرّس فكرة صعوبة غنائها على المسرح، بعدما أعلن القائمون على مهرجان لبناني اسمه «أمسيات حراجل» (قضاء كسروان) عن إلغاء السهرة التي كانت ستحييها. هنا، ربط بعضهم الأمر بوضعها الصحي، لكن الردّ لم يطُل، إذ أعلن المايسترو السوري عدنان فتح الله في حديث مع «الأخبار» (23/8/2019) أنّه يستعدّ لإحياء أمسية شامية تكون نجمتها «مطربة الجيل» على مسرح «دار الأوبرا». وبالفعل، أطّلت عام 2019 على الخشبة المذكورة وعاش الجمهور على ذكريات الماضي من دون أن يصدّق أنّ الصوت يتعب والقدرة على الغناء المباشر تتراجع ربما مع التقدّم في السن! هذه حقيقة يجب تقبّلها وقاعدة لا بدّ من أن فيها استثناءات تؤكّدها من دون أن تلغيها. هكذا، ظلّت صاحبة «الحبّ اللي كان» تنفي خبر مرضها، وتؤكّد مراراً أنّها في صحة جيدة، من دون أن تغادر دمشق طوال الحرب إلا لسفر. وهذا العام، أُعلن عن حفلة لها في O Beirut (جلّ الديب)، فتعقّبتها الأسئلة النقدية عن طبيعة الحفلة ومدى صحة قرارها بأن تطلّ من نادٍ ليلي بدلاً من مسرح عريق أو مهرجان معروف. مع ذلك، أحيت السهرة وغنّت من دون أن تصل إلى ما يتمناه جمهورها، ليعقب السهرة البيروتية إعلان «الهيئة العامة للترفيه» في السعودية عن أمسية ضمن فعاليات «موسم جدّة» بعنوان «ليلة من الزمن الجميل»، أحياها كل من: محمد ثروت، وعفاف راضي، وميادة الحناوي. حضرت الأخيرة وباركت عقد «المصالحة» السورية ــ السعودية، لكنها لم تكن في حال جيدة!. تعثّرت على المسرح، وأدت أغنيات قليلة مع تفاعل جماهيري مترف بالوفاء لتاريخها ثم غادرت متعبة! عموماً، ميّادة الحناوي شعلة متّقدة في تاريخ سوريا الفني. هذه حقيقة راسخة لا يمكن أن ينفيها أي شيء مهما حصل!