الفتح العثماني لمصر بين التاريخ والحكي الشعبي
من يقرأ ما كتبه المؤرخ الشهير ابن إياس في كتابه «بدائع الزهور في وقائع الدهور» عن أحداث الفتح العثماني لمصر بعد موقعة مرج دابق (وهي كتابة كانت أشبه بيوميات الحرب الدائرة بين شراذم المماليك بقيادة الأشرف طومانباي وقوات السلطان العثماني سليم الأول) يدرك كم كانت الصدمة عنيفة على المصريين الذين تملكتهم الحيرة وسيطر عليهم الارتباك إزاء الفتح العثماني وسقوط دولة المماليك، كما كانوا مترددين بين الترحيب بالحاكم المسلم الجديد الذي خلصهم من دولة متداعية تحت وطأة الفساد والفوضى والظلم التي كانت عليها دولة المماليك الجراكسة في سنواتها الأخيرة من ناحية، وبين الأسى والحزن لسقوط بطلهم الشعبي: طومانباي وعلى الدولة التي كانت طوال الشطر الأكبر من تاريخها عنواناً للمهابة السياسية والعسكرية في الخارج، والأمن والاستقرار الاجتماعي والازدهار الاقتصادي في الداخل.
لم يخيب طومانباي ظن من ساندوه ووقف شامخاً حتى انتصرت الخيانة القذرة، حاول لمّ شعث القوات التي تبعثرت هاربة من المواجهة مع الجيش العثماني، ولكن الحقيقة البشعة كشفت عن وجهها المخيف أمام ناظريه: دولة متفسخة أنهكها الفساد والظلم وانصراف الناس عنها، وموارد مستهلكة مستنزفة، وخزانة خاوية، وجيش فاشل استسهل العدوان على الناس الذين كان عليه حمايتهم، وتعوّد على حروب الشوارع بين طوائف المماليك المختلفة، ويخشى ملاقاة العثمانيين. وعندما اهتز جسد طومانباي في مشنقة على باب زويلة من أبواب القاهرة، لم يكن ذلك مجرد مشهد مأسوي يرمز إلى نهاية دولة لم يبق من مجدها الغابر سوى ذكريات باهتة وظل شاحب.
وكان من الطبيعي أن تدور حول هذا الحدث كتابات المؤرخين، وقصائد الشعراء، وحكايات الرواة، وما يروى في مجالس الحكي الشعبي، وبينما يعتبر المؤرخ المصري ابن إياس أهم من كتب عما شاهده وعاينه من أحداث تلك السنوات الفارقة في تاريخ المنطقة العربية بخاصة، وتاريخ العالم المعروف آنذاك بعامة، في إطار التدوين التاريخي آنذاك، كانت هناك، بطبيعة الحال، روايات أخرى شبه تاريخية محملة بطبقات من القصص الخيالية الشعبية، ويفوح منها أريج الأسطورية، والوهم الذي يميّز الحكي الشعبي.
ويظن بعضهم أن النص الذي ينسب إلى ابن زنبل الرمال والذي قدمه لنا المؤرخ المصري قاسم عبده قاسم في دراسته عن كتاب «واقعة السلطان الغوري مع سليم العثماني» (الصادر مع بداية 2015 عن دار عين للدراسات، القاهرة) هو مصدر تاريخي بالمعنى المتعارف عليه ويدخل ضمن تراث التدوين التاريخي في الفترة ما بين نهاية عصر سلاطين المماليك وبداية العصر العثماني؛ ولكننا لا نوافق قاسم عبده على هذا الرأي. ذلك أن مؤلف هذا النص هو أحمد بن أبي الحسن علي بن نور الدين المحلي الشافعي؛ المتوفى سنة 960هـ. وكان هذا الرجل الذي عرف اختصاراً باسم الشيخ ابن زنبل الرمال يشتغل بالتنجيم من خلال قراءة خطوط الرمل وتموجاته (كما يتضح من كنيته: الرمال) وهذه المهنة أقرب إلى التنجيم والدجل؛ وقد انتشرت على نطاق واسع مع التدهور والاضمحلال اللذين تحكما بالحياة الاجتماعية والثقافية أواخر عصر سلاطين المماليك. وكان ابن زنبل الرمال مشهوراً في أواخر دولة المماليك، وشكل عقلية الناس في أنحاء الدولة المملوكية، وكان أمراء المماليك يثقون بالرجل، ويعتقدون بصدقه، بيد أن من الطبيعي أن الرجل كان أسير مهنته التي لم يكن الصدق والدقة وتحري الحقيقة من مميزاتها بأي حال من الأحوال، والرواية التي يحكيها لنا ابن زنبل الرمال الذي عاش حوالى أربعين سنة تحت الحكم العثماني، بعد سقوط دولة المماليك، تحمل دلائل الوهم وسمات الخيال أكثر مما تحمل من خصائص الكتابة التاريخية بمقاييس تلك العصور.
فالنص لا يمكن أن يكون نصاً خاضعاً لشروط الكتابة التاريخية التي خضع لها النص الذي كتبه المؤرخ ابن إياس على رغم صحة الإطار العام للحدث التاريخي والأشخاص التاريخيين، فضلاً عن المسرح الجغرافي الذي دارت فيه وقائع الحدث، والمثال الأخير على هذه الخصائص التي تقرّب نصّ «واقعة السلطان الغوري مع سليم العثماني» من الحكاية الشعبية، بقدر ما تبعده عن الكتابة التاريخية، نص طويل احتل صفحات عدة تتناول المشاهد والحوارات التي تخيل ابن زنبل الرمال أنها وقعت منذ لحظة خيانة حسن بن مرعي للسلطان والأشرف طومانباي، وتسليمه إلى السلطان العثماني سليم خان، حتى إعدام السلطان المملوكي الأخير شنقاً على باب زويلة، وعلى رغم التصوير الدرامي الرائع في ما كتبه ابن زنبل ونقله الرواة، فإن النص ينتمي من دون شك إلى ذلك النمط الباكر من «الراوية التاريخية» الذي تختلط فيه حقائق الأحداث التاريخية مع تفاصيل خيال المؤلف في شكل يصعب تحديد مداه، إذ نجد الراوي بعد النهاية المأسوية لطومانباي، والنهاية السياسية لدولة سلاطين المماليك، يتحدث عن «صفة السلطان طومانباي» ثم بعض الأمور التاريخية الفرعية والتنظيمات الإدارية التي جرت في بداية العصر العثماني مثل «ذكر تولية الكشاف ومشايخ العربان»، و»ذكر خروج الغزالي نائب الشام وسلطنته بها»، و»ذكر قطع رأس الغزالي الخائن». وينتهي الكتاب بهذه الحوادث التاريخية التي رواها ابن زنبل الرمال في أسلوب الحكاء الشعبي الذي كان يروق جمهور السامعين الذين كانت تزدحم بهم المحافل العامة وساحات الإنشاد في ذلك الوقت. ومن الواضح أن هذا النص دوّن نقلاً عن رواية شفوية كان يتداولها الرواة الذين نشروا هذه الراوية التاريخية، إذ إن كثيراً من فقرات هذا الكتاب تبدأ بعبارة «قال الراوي»، أو « قال الناقل» وفي بعض الأحيان ترد عبارة «قال المؤرخ». ويبدو من هذا أن النص الشفوي كان واسع الانتشار لأن الحكاية التي يحملها كانت حكاية النهاية التي حاقت بدولة كانت آثارها المادية مازالت ماثلة أمام العيون في عواصم الدولة المملوكية في مصر وفلسطين والشام والحجاز، كما أن تراث ذلك العصر الثقافي كان مازال راسخاً في نفوس الأجيال المتتالية، وكان الحكي الشعبي من أهم ما بقي من هذا التراث. وظلت الحكاية التي حكاها ابن زنبل الرمال عن نهاية المماليك تحظى بالاهتمام وتلقى الرواج بدليل أن هذا النص ظل ينسخ حتى القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي. وعلى رغم هذا لا يمكن اعتباره نصاً تاريخياً خالصاً، ومن ثم يجب على الباحث أن يتعامل بحذر مع ما يحمله من أحداث ووقائع يزعم أنها تاريخية، في حين ينظر إلى النص نظرته إلى الأدب الشعبي بوصفه مصدراً للتاريخ الثقافي والاجتماعي، ويبحث فيه عن المفاهيم الشعبية ورؤية الناس ونظرتهم التعويضية إلى الحدث التاريخي. كما ينبغي أن يبحث في هذا النص عن خصائص الحكي الشعبي في تلك العصور، وعناصر الإثارة والمتعة التي كانت تشد الجماهير إلى الاستماع لهذه الرواية المثيرة عن حدث بالغ الأهمية في التاريخ العربي الإسلامي.
صحيفة الحياة اللندنية