في خلال أسبوع على العدوان على قطاع غزة، صبّت طائرات الاحتلال آلاف الأطنان من المتفجّرات على القطاع، وقصفته بنحو 6 آلاف قذيفة بمعدّل ألف قذيفة يومياً، في ما بدا أقرب إلى سياسة الأرض المحروقة، من دون أن تحقق أيّ نتائج سوى تدمير البنية التحتية ومنازل المواطنين وقتل المدنيين. وفي ظلّ تلويح إسرائيل بتنفيذ اجتياح بري لغزة، وطلبها من الجهات الأممية ترحيل مليون و200 ألف فلسطيني من منطقة شمال القطاع إلى جنوبه في غضون الساعات المقبلة، وتهديدها بأن حربها طويلة وصعبة، تُطرح على الطاولة السيناريوات المحتملة للعملية البرية وما يمكن أن يرافقها أو يَنتج منها.
والجدير ذكره، هنا، أنه منذ انسحابه من غزة عام 2005، شنّ جيش الاحتلال أكثر من 7 حروب على القطاع، اكتفى في معظمها بقصف القطاع من الجو، فيما في أطولها، أي حرب عام 2014 التي استمرت لأكثر من 52 يوماً، لم يستطع التقدّم لأكثر من كيلومترَين اثنين داخل غزة، وتكبّد خسائر كبيرة. وفي السياق، بات واضحاً، بحسب التقييمات والتحليلات العسكرية الإسرائيلية، أن جيش العدو اليوم لم يعُد ذلك الجيش القادر على القتال برياً، لا بل إن المنظومة العسكرية الإسرائيلية أصبحت أسيرة التفوق الجوي هجومياً، وما قد توفره «القبة الحديدية» من أمان دفاعياً، وذلك على حساب القدرة الهجومية وفعالية القوات البرية.
من هنا، تتراوح سيناريوات الهجوم البري المرتقب اليوم على غزة بين عدة احتمالات، أوّلها اجتياح المناطق الزراعية والسيطرة على ما بين 400 متر – 2 كلم، بهدف إنشاء منطقة عازلة على طول الحدود الفاصلة بين القطاع والأراضي المحتلة، وذلك لإبعاد المقاومة عن «الغلاف» غزة؛ وثانيها تقسيم غزة إلى 4 معازل أو كانتونات بما يتيح السيطرة عليها؛ فيما ثالثها، وهو الأصعب، يتمثّل في الاجتياح الكلّي للقطاع، والوصول إلى مناطقه كافة، وهو ما يمثّل الخيار الأكثر تهوّراً وتعقيداً والأعلى فاتورةً. ومهما يكن ما تفكّر به مؤسسة الاحتلال الأمنية، في حربها «الطويلة»، بحسب ما وصفها وزير الحرب، يوآف غالانت، في مؤتمر صحافي عقده مع نظيره الأميركي، فإن الخيارات المطروحة أمامها تبدو محدودة، فيما حذّرها رئيس الوزراء الأسبق، إيهود أولمرت، من مغبة الاجتياح البري، واصفاً ذلك بـ«الكابوس»، ونبّهتها مصادر في المقاومة إلى أن هذا الخيار سيكلّفها نصف جيشها.
والواقع أنه إذا ما قرّر جيش الاحتلال البقاء في القطاع أو بعض المناطق فيه، فستَمثل أمامه تحدّيات كثيرة، وعلى رأسها الحاجة إلى قوة نارية كبيرة، والتنسيق بين القوات البرية وتلك الجوية، وتحمّل تكلفة الضربات التي سوف تتلقّاها وحداته في ظلّ تأهّب أكثر من 40 ألف مقاتل من «كتائب القسام»، والجهوزية التامة لآلاف المقاتلين من بقية الفصائل المقاوِمة. وبينما يحتاج الاجتياح البري إلى الدفع بمئات آلاف الجنود (نحو 400 ألف جندي من قوات الاحتياط)، فهو يوفّر مساحات كبيرة للمقاومين للقيام بعمليات إنزال خلف خطوط العدو ومهاجمتها من الخلف من جهة، ومن جهة أخرى، فهو قد يجعل بقية الجبهات أقلّ قدرة على المواجهة، ولا سيما في حال دخول «حزب الله» في المعركة، والدفع بقوة «الرضوان» إلى الجليل.
كما أن على جيش الاحتلال، إذا ما أراد تحقيق «إنجاز» تشتدّ حاجته إليه، السيطرة على المواقع المركزية مثل الطرق، وتنفيذ عمليات خاصة لاغتيال القادة العسكريين، ومحاولة إنقاذ الأسرى، وهذا ما يجعل الخسائر المتوقعة في صفوفه أكثر فداحة. يُضاف إلى ما تَقدّم، أن المقاومة ستواجه الاجتياح بالعديد من الوسائل القتالية، وأولاها الأنفاق الداخلية في ظلّ تقديرات بوجود مدينة من الأنفاق أسفل قطاع غزة، ستسهّل على المقاومين تنفيذ عمليات كرٍّ وفر وخوض حرب شوارع ضد جنود العدو، فيما تخدم التضاريس المعقدة في غزة، والتي تبدو أشبه بمتاهة، المقاومة أيضاً، التي ستستفيد كذلك من الركام بتحويله إلى درع بوجه القوة النارية لجيش الاحتلال.
ومن بين السيناريوات المتوقّعة، أن يلجأ جيش الاحتلال إلى تقسيم غزة إلى عدة محاور أو أجزاء (بيت حانون – بيت لاهيا – جباليا في النطاق الشمالي، ومحور مدينة غزة، ومحور ثالث يضمّ دير البلح ومخيم النصيرات، ثم محورَي خان يونس ورفح على الحدود المصرية). ومن أجل ذلك، سيسعى إلى إقامة منطقة عازلة بعمق 2-3 كيلومترات، لتأمين بلدات الجنوب من أيّ محاولة أخرى للاقتحام براً، بما قد يتضمّن إزالة أيّ مبانٍ فلسطينية في النطاق المحدّد. ومن المتوقّع أن تمتدّ عملية الاجتياح، والحال هذه، على 3 مراحل، تبدأ بمرحلة «التطهير والتمهيد النيراني»، وهو ما يجري حالياً، حيث يُعمل على «تطهير» المستوطنات في محيط غزة، والتأكد من عدم وجود مقاتلين داخل أي منها، وإجلاء سكان عدد منها، بالتوازي مع مواصلة القصف العنيف على غزة، بما يتيح استكمال عمليات الحشد والاستعداد للمرحلة الثانية. وبالنسبة إلى هذه الأخيرة، من المفترض أن تبدأ فيها عملية تقدّم قوات إسرائيلية مدعومة بعناصر الاستطلاع على محاور الاقتراب من القطاع، لـ«تطهير» مسارات يمكن للقوات الخاصة التقدّم من خلالها. وفي حال النجاح في ذلك، ستبدأ المرحلة الثالثة، والتي تتمثّل في تقدم القوة الرئيسة، مدعومةً بالدبابات، لاستكمال تدمير البنية التحتية العسكرية لفصائل المقاومة، وتدمير شبكة الأنفاق، مع البدء في فرض المنطقة العازلة بعمق من 2 إلى 3 كيلومترات، مع إمكانية فرض إجراءات أمنية تمنع عودة النازحين إلى مناطقهم مرة أخرى.
وعلى الرغم من أن الكثير من المراقبين يستبعدون تحقّق تلك السيناريوات، إلا أن جيش الاحتلال، الذي مني بضربة قاصمة، قد لا يكون أمامه سوى الخيار البري، في محاولة لاسترداد قوة ردعه. لكن هذا الخيار قد يحمل في طياته بذور انفجار الأوضاع برمّتها، وصولاً إلى حرب إقليمية واسعة. كما أن ثمة تساؤلات حول خطة ما بعد الاجتياح، الذي قد يستمر لشهور بحسب تصريحات مسؤولين إسرائيليين، وخاصة في ظل إقرار مسؤولين أمنيين سابقين بعدم قدرة جيش الاحتلال على إعادة احتلال غزة، إذ يحتاج الأمر إلى أعداد كبيرة من الجنود للبقاء فيها. يُضاف إلى ذلك، أن الاجتياح سيضطرّ جيش الاحتلال إلى ارتكاب جرائم إبادة، واللجوء إلى استخدام أسلحة محرمة دولياً أو أسلحة غير تقليدية، فضلاً عن أن مدته «الطويلة» ستزيد من الضغوط على حلفاء المقاومة وقد تدفعهم إلى التدخل، وأيضاً على الدول العربية وشعوبها، وهو ما قد يخلق واقعاً سياسياً جديداً.
في كلّ الأحوال، ينبئ الحشد العسكري الإسرائيلي حول القطاع، والذي يناهز 400 ألف جندي، بأن خيار الاجتياح البري انتقل من خانة «الخيارات المؤلمة غير المرجحة»، إلى الخيار العسكري المحتمل تنفيذه، من دون أن يكون نجاحه مضموناً. إذ لطالما أكّدت المقاومة استعدادها لأي اجتياح بري، وأعاد قادتها التأكيد، بالتزامن مع بدء معركة «طوفان الأقصى»، أن الخطة الدفاعية التي أُعدّت أقوى بكثير من الخطوة الهجومية، وهذا يعني تسلّح المقاومين بقاذفات الصواريخ من «آر بي جي» و«كورنيت»، وتفخيخ المباني والشوارع والركام، وانتشار القناصة.
صحيفة الأخبار اللبنانية