مطبخ التاريخ وطهاته

قامت الحكومة الهندية منذ خمس سنوات تقريباً بإتلاف أكثر من 150 ألف وثيقة من أرشيفها الوطني، بحجة أن كمية الأوراق الموجودة لم تعد تُحتمل، لأسباب تقنية ولوجستية ومالية. لم يُناقش القرار الحكومي في وسائل الإعلام إلاّ بعد تنفيذه ولم يفصح أحد من المسؤولين الهنديين عن نوعية الوثائق التي تمّ إتلافها أو عن مضمون تلك الأوراق. ببساطة، أعطت الحكومة لنفسها حق تقرير ما هو مهم وما هو غير مهم في أرشيفها الوطني من دون استشارة أي من مفكري البلاد أو مؤرخيها.

أثار هذا القرار المتفرّد غضب نشطاء ومؤرخين هنود وعالميين، تحديداً في ما يتعلق بملفات اغتيال المهاتما غاندي في العام 1948. وكان الجواب الرسمي بأن تلك الأوراق بأمانٍ مطلق، مخبّأة داخل 52 علبة تحتوي على 11 ألف وثيقة سرية لم يُكشف النقاب عنها حتى اليوم.

لا نعرف طبعاً إن كانت الحكومة الهندية صادقة فيما تقول، أو ما إذا كانت قد أتلفت أو عدلت في مضمون تلك الوثائق، لكن هذه المسألة تحيلنا إلى إسرائيل، حيث قررّ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو منذ سنوات قليلة تمديد فترة حجب الوثائق الحكومية الرسمية من 30 الى 70 سنة. وبموجب ذلك القرار، فإنّ جميع الوثائق والمراسلات المتعلقة باحتلال فلسطين وقيام الدولة العبرية مثلاً، لن تُفتح أمام المؤرخين حتى سنة 2018. وبذلك، فإن أوراق «نكسة حزيران» ستبقى أيضاً مغلقة حتى العام 2037، وبالتالي، فإن وثائق احتلال بيروت لن ترى النور قبل العام 2052. كذلك الأمر في ما يتعلق بوفاة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. إذ لن نعرف إن كان لإسرائيل دور في تلك الجريمة حتى العام 2074.

وفي تعليق له على قرار تمديد الحجب، قال المؤرخ الإسرائيلي جوشوا فرويندلش، أحد المسؤولين عن الأرشيف الرسمي: «أنا مقتنع أنه وتحت الظروف الراهنة، بأن هذه الأوراق، لا تصلح للمشاهدة العامة». أما بالنسبة لما هو مسرّب ومنشور من تلك الأوراق فبحسب جريدة هآرتس، «سوف يُعاد طيها بموجب هذا القرار». وقد اتخذ القرار بعد التشاور مع مؤرخين إسرائيلين وخبراء في القانون الدولي، وقد كان لهم قول في القرار بإخفائها عن أعين الناس.

إن كان هذا يدلّ على شيء، فعلى أن القرار الإسرائيلي يؤكد بأن الدولة العبرية قلقة من تاريخها القريب، ولا تريد لأحد أن يعرفه. وتكمن المصيبة بأن الدول العربية لا أرشيف لها لطرح رواية مضادة للرواية الإسرائيلية، وأنّ معظم صُنّاع الأحداث توفّوا ولم يتركوا وراءهم لا أوراق ولا حتى مراسلات، بل اعتمدوا فقط على تدوين مذكراتهم الشخصية، التي تخدم قصة الراوي وتظهر أمجاده في معظم الأحيان، أكثر من خدمة الحقيقة نفسها. من ذلك مثلاً مذكرات الرئيس محمد انور السادات والملك حسين بن طلال والملك عبد الله بن الحسين، وبعضها مغلوط ومشكك في صدقيته مثل أوراق نجله الملك طلال أو السلطان عبد الحميد الثاني، وقد صدر كلاهما في مصر في الستينيات، والبعض الآخر منسيّ تماماً مثل مذكرات اللواء محمد نجيب أول رئيس لجمهورية مصر. في سوريا مثلاً، لم يترك أي من رؤسائها العشرين مذكرات منشورة، ولكن عدداً من رؤساء الوزراء فيها كتبوا شهاداتهم مثل جميل مردم بك وفارس الخوري وخالد العظم. ولعل من أشهر تلك المذكرات مذكرات خالد بك، بأجزائها الثلاثة، ولكن الرئيس العظم توفي قبل إكمالها وتابعت زوجته المهمة تلك، بما يروق لها ويسعف ذاكرتها، غير السياسية أصلاً. كما أن الملك فاروق لم يترك مذكرات مكتوبة وموثقة له، ولا حتى الرئيس جمال عبد الناصر، أو كل من الرؤساء حبيب بورقيبة وهواري بومدين وحافظ الأسد وياسر عرفات، ولا أي من ملوك السعودية أو حكام العراق. وأرشيف العهد الملكي في مصر دمّر معظمه على يد «الضباط الأحرار»، وأرشيف العراق وسوريا ضاع في عتمة الانقلابات العسكرية المتلاحقة منذ وقوع الأول في دمشق العام 1949.

بذلك، لا تستطيع أي من تلك الدول تحدي الرواية الإسرائيلية عند صدورها بعد سنوات، وإن كان قرار تمديد الحجب الإسرائيلي جريمة بحق التاريخ، فإن جريمتنا كعرب أننا لا نملك أرشيفاً وطنياً أصلاً، لنحتفظ به أو لنكشفه أمام المؤرخين العرب والأجانب، يشرح بالوثائق والبراهين الذي جرى لعالمنا العربي منذ العام 1948. لقد كان لدى الفلسطينيين أرشيف محترم ودقيق، جمعوه بكدِّ وتعب، يروي قصة أراضيهم وحقوقهم ورجالاتهم وقضيتهم، ولكن هذا الأرشيف دُمّر بالكامل وسرقت منه خرائطه وأوراق الملكية الفلسطينية (الطابو) بعد اجتياح بيروت العام 1982. وكان وزير الدفاع الإسرائيلي أريل شارون يدرك تماماً أهمية ذلك الأرشيف الفلسطيني وقد عمل منذ وطأت قدماه مدينة بيروت على حرقه ونقل بعض أوراقه فوراً إلى تل أبيب.

بالعودة إلى إسرائيل، إذ صدقت حكومتها في ما يخص تاريخ نشر الوثائق، فلن يكون هناك أي شاهد عيان على قيد الحياة من اللاعبين الأساسيين العرب ليُثبت حقيقة أو زيف تلك الأوراق عند نشرها. سيكونون جميعهم قد فارقوا الحياة. بذلك تستطيع إسرائيل قول ما تشاء عن الأموات من دون الخشية من أي مسائلة قانونية أو تاريخية. وفي تلك الأوراق، لو صدقت، سنجد أجوبة عن تساؤلات كبيرة حيّرتنا لسنوات. هل كانت إسرائيل على علم مسبق عن مواقع الطيران الحربي المصري يوم أغارت عليها ودمّرتها بشكل كامل في صباح الخامس من حزيران العام 1967؟ مَن سرّب لها تلك الحيثيات عن الجيش المصري؟ هل كان المشير عبد الحكيم عامر بريئاً أم مجرماً؟ ما هي حقيقة الاتصالات السرية بين تل أبيب و «الضباط الأحرار» قبل العام 1956؟ كيف مات عبد الناصر؟ مَن هو قاتل أبي جهاد وأبي إياد وأبي حسن سلامة، ومَن قام بتسميم وديع حداد؟ كيف قرأت إسرائيل تأسيس «فتح»، والأهم، كيف قرأت تأسيس «حماس»؟

لن يكون أيّ منا يومها على قيد الحياة لمعرفة ما ستقوله إسرائيل على لساننا في ما يخصّ تلك الأحداث التي شكلت تاريخ المنطقة بأكملها، ودمّرت جيلاً بعد جيل من الحالمين والساسة العرب.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى