كولومبوس والبحث عن أورشليم (كارول ديليني)

 


عرض / زياد منى


-الكتاب: كولومبوس والبحث عن أورشليم
المؤلفة: كارول ديليني
-عدد الصفحات:320
-الناشر: فري برس، نيويورك، لنجن، ترنتو، سدني، نيودلهي
-الطبعة: الأولى/ 2012


لا شك في أن المكتبة العالمية تحوي العديد من الكتب عن كريستوفر كولومبوس، صدرت خصوصًا في نهايات القرن الماضي بمناسبة مرور خمسمائة عام على اكتشاف أميركا، للغرب، ما يجعل القارئ يطرح سؤالا هو: هل من جديد لم يكتب عنه بالعلاقة؟
في الحقيقة، فإن كثيرا مما كتب خطته أقلام مؤرخين أو أدباء، ما يجعل هذه النسخة، موضوع العرض، عن مغامرات المستكشف الإيطالي، أو لنقل: الجِنَوِي، ذات نكهة خاصة لأسباب عديدة سنذكرها ضمن عرضنا.

المؤلفة

بداية، الأستاذة كارول ديليني، حاملة العديد من الشهادات العلمية، ليست مؤرخة وإنما أنثروبولوجية ثقافية. مجال هذا التخصص دراسة البشر الأحياء عبر فترة طويلة، ويدخل ضمن مجاله اللغة والقيم والتوجهات في المساحة والزمن، ومفاهيم عن الطبيعة الإنسانية والجنوسة والعلاقات العشيرية وأمور أخرى مهمة. هذا يدفع الباحث المتخصص في هذا المجال لأن يكون أكثر عمقًا في تقصيه مادة ما، ولا يقبل بالنتائج السطحية.
المؤلفة تقول في كتابها المهم هذا إن التواصل المطول مع مجموعة بشرية ما يجعل الأنثروبولوجي أكثر وعيًا للعلاقة بين معتقدات البشر وتصرفاتهم والقرينة الثقافية التي يعيشون فيها ومعها. هذا اكتشفته المؤلفة أيضًا من خلال معايشتها لأتراك في قراهم النائية حيث تبين لها أن الإسلام ليس منفصلاً عن حيواتهم، بل المصدر الأساس للرواية في حيواتهم.
لهذا قامت المؤلفة بزيارة الأمكنة التي من المفترض أن كريستوفر كولومبوس عاش فيها، ومن ضمنها مدينة جنوا الإيطالية المفترض أنها مسقط رأس المكتشف، وعايشت بيئة فترة حياته، عبر المراجع.
المؤلفة تتابع بالتفاصيل غير المملة خطوات كريستوفر كولومبوس وعائلته وحياته منذ ولادته حتى انطلاق رحلاته للاتصال بالخان الصيني الذي أشار إليه الرحالة ماركو بولو قبل ذلك، بهدف التجارة معه وجمع الذهب والمال اللازمين للمهمة الرئيسة التي نادرًا ما يشار إليها في سياق الحديث عن اكتشاف أميركا، إن صح التعبير، ألا وهي السيطرة على القدس أو ما يوصف بأنه استعادة أورشليم من المسلمين، استعدادًا لمقدم الألفية، وبالتالي عودة المسيح الثانية وهزيمته كل من يعدونهم كفارًا، وإقامة مملكته على الأرض.
لإثبات ذلك تدخل المؤلفة في تفاصيل مثيرة لم يتم التطرق إليها من قبل، آخذين في الاعتبار أنها درست اللاهوت أيضًا ولها مؤلفات في الموضوع.
مع أن كتب المؤلفة وسيرتها العلمية لا تشير بأي حال إلى أنها من أتباع الفكر الألفي، إلا أن موضوع الكتاب يضفي على بعض فصوله مصطلحات مرتبطة بذلك الفكر، حيث ترد مصطلحات مثل نذر الرؤى التنبؤية، تعلم "أسرار العالم"، أيام الأعاجيب، العثور على الفردوس وفقدانه، امتيازات وتنبؤات، خذلان والنهاية، وما إلى ذلك.


كولومبوس والدين

من الأمور المثيرة التي تثيرها المؤلفة معنى الاسم كريستوفر، أي حامل المسيح، وتربط ذلك بمعتقد المستكشف وعمق إيمانه الديني. ولإثبات مدى تأثر المستكشف المغامر بالدين وعمق إيمانه فإنها تخصص الفصل الأول للحديث عن الحروب الدينية أو المذهبية في أوروبا التي سبقت ولادته ومدى تأثره به ما جعله يقتنع بقرب حلول نهاية العالم الألفية، ومن هنا تنطلق لتثبت رأيها بأن هدفه لم يكن الثروة بحد ذاتها وإنما من أجل تنفيذ المعتقد الديني، أي الاستعداد للألفية الحتمية، كما رأى هو وغيره عبر القرون الماضية.
المهم في هذا الكتاب أن المؤلفة تضع المستكشف الإيطالي ضمن إطار مختلف عن اليقين الشعبي بأنه مغامر باحث عن الشهرة والمال. على العكس من ذلك، نراه، في كلماتها متدينا أصوليا متحجرا ومتعصبا إلى أقصى الدرجات، هدفه الأوحد جمع ثروة لتحقيق هدف تطلق عليه مصطلح استعادة أورشليم من المسلمين.
هذا يعني أن المؤلفة تثبت خطأ الفكرة السائدة القائلة إنه كان يبحث عن طريق بحري جديد بعدما منح بابا الفاتيكان خط رأس الرجاء الصالح للبرتغال. فقد كتب الكثير عن أن كولومبوس كان يبحث عن خطوط تجارة تتفادى درب الحرير الذي سيطر عليه المسلمون بعدما اجتاح العثمانيون إسطنبول عاصمة بيزنطة، ثم انطلقوا من هناك ليفرضوا سيطرتهم على معظم ديار الإسلام في بلاد الشام والمغرب العربي حتى تخوم المغرب الأقصى.
المؤلفة ترى التدين والعصبية الدينية في كل تصرفات كولومبوس وخططه ودوافعه. الهدف هو الاستعداد لنهاية العالم. لذا نراها تعرض حسابات كولومبوس الرياضية التي حاول من خلالها تحديد موعد القيامة، وبالتالي، مجيء المسيح، الثاني، وسيادته على الأرض، وبالتالي معاقبة كل من ليس من أتباعه. نراها تذكر حساباته الأولى التي لم توصله إلى نتيجة محددة، ثم مراجعته حساباته لتناسب زمنه.. إلخ!
هذا كله لا يعني أن كولومبوس لم يكن يبحث عن طريق للهند للوصول إلى الخان الأكبر والتواصل معه، لكن الهدف لم يكن ذلك الأمر بحد ذاته، بل غاية لجمع الثروة الكافية لإعداد حملة صليبية جديدة. كان بالتالي يبحث عن الذهب الذي تحدث عنه ماركو بولو في الشرق، والذي سيكفي لتعبئة خمسين ألف محارب للسيطرة على الأراضي المقدسة في فلسطين، والاستعداد لقدوم المسيح، الثاني.
وما زاد من اهتمام كولومبوس ادعاء ماركو بولو بأن خان الصين كان مهتمًا بالديانة المسيحية، لذا فإن خططه كانت كسب الأخير للمسيحية ومن ثم تشكيل كماشة، شرقية وغربية على ديار الإسلام والسيطرة على الأرض المقدسة، مع أنه ثمة شكوك حقيقية لدى بعض أهل الاختصاص في أن الرحال الإيطالي وصل أصلاً للصين حيث يسود ظن بأنه راوح في أواسط آسيا.
أما الملكة إيزابيلا فكانت أهداف دعمها خطط كولومبوس مختلفة، وأرضية بكل معنى الكلمة، أي جمع الثروة وتوسيع مملكتها.
في نهاية المطاف، قام كولومبوس بأربع رحلات إلى العالم الجديد، إن صح التعبير، وفي كل مرة كان يتوهم أنه وصل إلى الشرق، إلى بلاد الخان، مع أنه لم يعثر عليه أو على مملكته ولا على الذهب المزعوم الذي أشار إليه الرحالة ماركو بولو.

الكتاب

هذا الكتاب، الأول، وفق معارفنا، الذي يتناول مغامرة كولومبوس من هذه الزاوية، عمل أكاديمي فريد يبحث في أصول المستكشف/المغامر/الألفي المتعصب، ويشرح بيئته السياسية والدينية وبالتالي تأثيرها فيه، إضافة إلى طموحاته الشخصية دينية الجذور وما إلى ذلك.
المؤلفة تثري كتابها بسرد مراجع أساس مهمة إضافة إلى ملحق عن حياة الأفراد الرئيسين في الرواية ومصيرهم.
هذه التفاصيل تجعل بعض القراء يغوصون في تفاصيل تاريخية وبيئية هم ليسوا على معرفة بتفاصيلها كي يستوعبوا أهميتها للبحث. مع ذلك يبقى الكتاب قطعة أكاديمية ثمينة لكل من يهتم بالموضوع وبالأحوال التي كانت سائدة في أوروبا في بعض المفاصل التاريخية، والتي أوصلتنا في نهاية المطاف إلى المقولة المنسوبة إلى الجنرال الفرنسي غورو التي تقول: ها قد عدنا يا صلاح الدين؛ وكذلك تلك المنسوبة إلى الجنرال الإنجليزي اللنبي: الآن انتهت الحروب الصليبية.
من ناحية أخرى، فإن هذا الكتاب يكتسب أهمية للقارئ العربي وللبحاثة العرب المتخصصين في الموضوع للتعامل مع تاريخ الشرق بالغرب من منظور آخر، غير الاستعماري المادي البحت، وأعني بذلك البحث في كل مكونات الفكر الغربي تجاه الشرق، وبالتالي كيفية صياغة سياساته تجاهنا وتجاه بلادنا ومقدساتنا وتاريخنا.
المطلوب الفهم كي نعرف أصول المواجهة وكيفية التلاقي، على أرض صلبة، وليس على أوهام وتخيلات. لذا فإننا نعد هذا المؤلف درسًا تاريخيًا مهمًا، لنا جميعًا المعنيين بحاضر بلادنا ومستقبلها، ومستقبلنا.

الجزيرة نت

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى