لماذا فاز أردوغان في الانتخابات البرلمانية التركية؟
مثّلت نتيجة الانتخابات البرلمانية التركية الخامسة والعشرين مفاجأة كبرى، باستعادة «حزب العدالة والتنمية» الحاكم للغالبية المطلقة التي خسرها في انتخابات حزيران الماضي، وهي نتيجة لم يتوقّعها أحد داخل تركيا أو خارجها، بما في ذلك المراكز التركية المتخصّصة في استطلاعات الرأي. وفي حين أرجع كثيرون هذه النتيجة إلى سياسات الترهيب والتخويف التي مارسها أردوغان على الناخبين الأتراك ـ وهو أمرّ أكدته غالبية المراقبين الأتراك والأجانب ـ إلا أن نتيجة الانتخابات التركية تعود إلى أسباب أكثر تعقيداً من ذلك.
عوامل نفسية
أثبتت نتيجة الانتخابات الأخيرة هشاشة الرأي العام التركي، الذي تميّز بالتقلب خلال فترة وجيزة نسبياً تعَدّ بالشهور. ويتأسس هذا الاستنتاج على نتيجة انتخابات حزيران التي فقد فيها أردوغان الغالبية ووقف حزبه عند حوالي 41 في المئة من الأصوات، في حين أحرز أقل قليلاً من نصف الأصوات في الانتخابات الأخيرة، في ارتفاع يُقدّر بحوالي ثماني نقط ونصف مئوية مرة واحدة. يمكن تلخيص سياسات أردوغان الانتخابية في الفترة الواقعة ما بين حزيران وتشرين الثاني في تثبيت معادلة «أنا أو الفوضى»، بمعنى إما أن تنتخبوني أو تتمدد الفوضى داخل البلاد. في هذا السياق ذهب الاستقطاب القومي التركي ـ الكردي الذي أجّجه أردوغان خلال الشهور الماضية محركاً لتبديل مزاج شريحة كبيرة من الناخبين، ولذلك سريعاً ما نسيت هذه الشريحة تحفظاتها على طموحات أردوغان المتمثلة في تحويل النظام السياسي التركي إلى رئاسي وغلّبت اعتبارات «الاستقرار» على ما سواها. وساهمت السمعة السيئة للحكومات الائتلافية في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي وارتباطها بتدهور الحالة الاقتصادية في تغيير النتيجة على النحو المعلوم، لا سيما أن أردوغان أحبط إمكانية قيام حكومة ائتلافية بين «حزب العدالة والتنمية» و «حزب الشعب الجمهوري»، مفضلاً الذهاب إلى انتخابات مبكرة لانتزاع الأغلبية البرلمانية.
عوامل تكتيكية
تميّز «حزب العدالة والتنمية» منذ فوزه الانتخابي الأول العام 2002 بكونه حزب اليمين الأقوى في تركيا، وهي حقيقة يتمّ تجاهلها في الغالبية الساحقة من التحليلات السياسية التي تتوقف حصرياً على «الطابع الإسلامي» للحزب. ترافق صعود «حزب العدالة والتنمية» تاريخياً مع تراجع ومن ثم نهاية أحزاب اليمين التركي التقليدية مثل «حزب الطريق القويم» و «حزب الوطن الأم»، بالتوازي مع صعود موازٍ لنجم أردوغان وأفول نجمي تانسو شيلر ومسعود يلماظ اللذين شغلا المشهد السياسي التركي في التسعينيات من القرن الماضي. تبنّى أردوغان وحزبه سياسة «إسلام السوق» التي تعني الانضواء في الاقتصاد العالمي وفق شرائط تراتبيته وميكانيزماته، تلك التي لم يضعها أردوغان وحزبه قط موضع التساؤل، مع تغليب قشرة أيديولوجية إسلامية على خطابه السياسي، فقد حظي في السنوات الأولى بكل التأييد الأميركي والغربي لتوليه السلطة.
أعاد أردوغان الكرّة في الانتخابات الأخيرة على أحزاب اليمين التركي الأخرى متمثلة في «حزب الحركة القومية»، فغرف حوالي مليوني صوت من مناصريه، مضيفاً لرصيده حوالي خمس نقاط مئوية. وساعد أردوغان على تحقيق ذلك أن القيادة المزمنة للحزب اليميني المتطرف متمثلة في دولت باهتشلي تفتقر إلى المرونة السياسية؛ وتتمحور أجندتها على بند واحد فقط هو «مكافحة الأكراد». وبسبب تعنت باهتشلي في تأييد حكومة ائتلافية، فقد اعتبره أتراك كثر عائقاً كبيراً في الحياة السياسية التركية، ما ساعد أردوغان على تبرير خطوة كان ينتويها في كل الأحوال، بالذهاب إلى انتخابات مبكرة. وقد استمال أردوغان في الشهور القليلة الماضية مرشحين ونواباً سابقين للحزب اليميني أبرزهم طغرل توركيش للنزول على قوائم «حزب العدالة والتنمية»، كما ساهم باهتشلي ذاته في تطفيش شريحة لا يُستهان بها من ناخبيه التقليديين باستبعاد النائبة الكاريزماتية ميرال أكشنير من قوائم المرشحين للانتخابات، خوفاً من منافسته لاحقاً على زعامة الحزب. وبالطبع كانت وجهة كل هؤلاء التصويت لأردوغان وحزبه اليميني أيضاً، فبقيت الكتل الحزبية الأربع التي أفرزتها انتخابات حزيران في مكانها بعد انتخابات تشرين الثاني، لكن مع تعديل أوزانها النسبية.
عوامل قومية
يشكل الأكراد كتلة وازنة من سكان تركيا، تتراوح تقديراتها ما بين خمسة عشر في المئة وخمسة وعشرين في المئة من سكان تركيا. وعلى مدار القرون الخمسة الممتدة من معركة «چالديران» التي دارت العام 1514 بين الشاه إسماعيل الصفوي والسلطان سليم الأول وحتى اليوم، وبموجبها ألحقت السلطنة العثمانية ما يعرف الآن باسم «كردستان تركيا» بأراضيها، فقد صعدت «المسألة الكردية» في تركيا وهبطت، لكنها استعصت على التذويب والانزواء برغم إنكار حقوق الأكراد القومية والثقافية ونعتهم بـ «أتراك الجبال».
ومثلت انتخابات حزيران الماضية ذروة الصعود السياسي الكردي بحصول «حزب الشعوب الديموقراطي» على أكثر من ثلاثة عشر في المئة من الأصوات، في مفاجأة أطاحت بالغالبية البرلمانية لحزب أردوغان. أما انتخابات تشرين الثاني، فقد قضمت من «حزب الشعوب الديموقراطي» حوالي المليون صوت، أو ما يمثل ثلاث نقاط مئوية ذهبت إلى أردوغان وحزبه. الجزء الأكبر من المليون صوت التي خسرها الحزب الكردي تعود إلى أصوات تذهب تقليدياً إلى «حزب الشعب الجمهوري» العلماني، انحازت إلى الحزب الكردي في انتخابات حزيران رغبة منها في تخطي الحزب لحاجز العشرة في المئة اللازمة للتمثل بالبرلمان، بحسب ما يقتضي الدستور التركي.
أما في انتخابات تشرين الثاني فقد أظهرت استطلاعات الرأي أن الحزب الكردي في وارد زيادة رصيده بنقطتين مئويتين، ما أعاد جزءاً من هذه الشريحة التصويتية إلى قاعدتها التقليدية في «حزب الشعب الجمهوري». جزء آخر من المليون صوت انتزعه الاستقطاب القومي التركي – الكردي، الذي نفخ أردوغان خلال الحملة الانتخابية في ناره التي لم تخبُ. الجزء الثالث من المليون صوت التي فقدها الأكراد وغنمها أردوغان تعود إلى أكراد تأثروا بموقف «حزب العمال الكردستاني» المتمركزة قيادته الآن في العراق، ويقاتل الدولة التركية منذ ثلاثة عقود. وقد لعب أداء الحزب المذكور دوراً في إضعاف موقف «حزب الشعوب الديموقراطي». فمن ناحية، تعرّض الحزب الكردي إلى مزايدة من أردوغان باعتباره واجهة للمسلحين الأكراد، ومن ناحية أخرى أظهر المسلحون الأكراد خشية من سحب بساط تمثيل الأكراد من تحت قدميهم. كل ذلك صب في مصلحة أردوغان وحزبه، التي تمثل الزيادة الطارئة في التصويت لحزبه إلى حد كبير الخسائر التي حققها «حزب الشعوب الديموقراطي» و «حزب الحركة القومية» معاً.
عوامل هوياتية
يخفى على كثيرين أن «حزب العدالة والتنمية» لا يمثل حزباً يمينياً محافظاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً فحسب، وإنما حزباً جهوياً أيضاً. على ذلك لا يتم التصويت للحزب بناء على قناعات أيديولوجية فقط، وإنما على خلفية جهوية وثقافية أيضاً. وإذا نظرنا إلى خريطة نتائج الانتخابات الأخيرة، سنرى أن «حزب الشعب الجمهوري» العلماني يسيطر تقليدياً على الساحل التركي الغربي تقريباً، في حين يستمد الأكراد أصواتهم من جنوب شرقي تركيا، والقوميون المتشدّدون يستمدون أصواتهم من منطقة بعينها في شرق تركيا ذات خلفية تاريخية معلومة. يعني ذلك أن تجاور الهويات الفرعية في تركيا يترك تأثيره العميق على صناديق الاقتراع، بحيث لا تخترقها الأيديولوجيا الإسلامية لأردوغان وحزبه بشكل كامل.
يلعب أردوغان منذ سنوات على العامل الهوياتي، وخصوصاً لدى سكان الأناضول الأتراك، الطامحين إلى المشاركة في نصيب من السلطة السياسية والاقتصادية والثقافية في الجمهورية التركية، والتي تمركزت جميعاً وطيلة عقود في مدن الغرب التركي. على ذلك يمثل أردوغان انتخابياً «هوية جهوية» بعينها ضمن هويات تركية أخرى، وهو أمر استمر يمثله منذ العام 2002 وحتى الانتخابات البرلمانية الأخيرة. وبدلاً من الالتفات إلى تلك الحقيقة في تحليل نتيجة الانتخابات، فقد احتفل الإسلاميون بانتصار أردوغان وحزبه بحيث خلطوا الدلالات الفلسفية بأحكام القيمة مع الانحيازات السياسية، مؤكدين وجود «هوية أصيلة» يمثلها أردوغان وحزبه، مقابل «هويات وافدة» تمثلها الأحزاب السياسية المنافسة كلها، في تناقض فجّ مع المنطق وأسس العلوم الاجتماعية. والدليل على ذلك الجملة التالية: «لا أحد أن يتجاهل حقيقة أن الحزب المحافظ الذي تشكل في العام 2000 يعبر عن الهوية الأصيلة للشعب التركي» (فهمي هويدي – السفير 3/11/2015).
هكذا يُختصر الشعب التركي بقومياته وأعراقه وأديانه ومذاهبه ومناطقه الجغرافية المختلفة وأنماط معيشته المتباينة – عند فهمي هويدي – في «هوية أصيلة» يمثلها أردوغان وحزبه الإسلاموي اليميني، و «هويات وافدة» يمثلها باقي المتنافسين على اختلاف أيديولوجياتهم، وهو ما يكشف على وجه الدقة كيف ينظر أردوغان ومؤيدوه إلى أخصامهم من التيارات السياسية الأخرى. وإذا كان الأمر كذلك فعلاً، فأين كانت «الهوية الأصيلة» للشعب التركي في انتخابات حزيران الماضي؟ وهل يمكن لأي هوية «أصيلة» أو غير ذلك الاختفاء والظهور بعد ستة شهور فقط؟ أم أن هذه «الهوية الأصيلة» عباءة يسبغها الإسلاميون على الشعب التركي وقتما يرضون عن النتائج ويرفعونها عنه في حال غضبوا منها؟
ربح أردوغان الانتخابات بسبب العوامل الواردة أعلاه، ولكن هذا الربح الانتخابي بحكم توصيفه وطبيعته زمني محض وليس سرمدياً، والتطورات في تركيا والمنطقة مازالت مفتوحة على احتمالات شتى. لننتظر وسنرى.
صحيفة السفير اللبنانية