عن زيارة لبيت محمد الماغوط.. الفصول كلها في قلبي
تتصل بالشاعر الكبير فيجيبها. تزوره في بيته في دمشق فيهديها مؤلفاته الكاملة ويعلمها أن القصيدة التي أحبتها يحبها أيضاً أنسي الحاج.
كان الخريف في بدايته، ينثر رغباته في الهواء، ويبحث عن شجرة يقيم فيها لوحده، لكل خريف شجرة واحدة فقط تجهز له الأريكة وتنتظره، وما علق من لون ورائحة فوق هذه الأرض كان الشعر، فواحا حزينا قادما من تلك الكينونة التي تفكر وتهذي مع إحدى الشجرات.
أيلول يكبر وغرفتي ما زالت صغيرة، كنت أخجل أني لم اقرأ له، لكنني انتميت للشعر معه، للريح القوية في اسمه عندما تصفر لتجدف وراءها أيدي أصدقائي وتبدأ بالحديث عن طفولته وشبابه والمعتقلات والمسرح وأعقاب السجائر التي يرميها مع خطوته الزافرة، حفظت عن ظهر قلب بدون أن أملك كتابا يوما له، عناوين أعماله، شكل قصيدته وبناءها، لحم النثر الفوار، واللحظة التي اكتشف بها أصابعه أول مرة وهي تلعق العتمة وتنسج ضوءها الخاص، عرفت كل شيء عنه في جلسات أصدقائي الشعرية.
وكثيرا ما حدث أن أعاد أحدهم سرد تلك الذكريات في جلسة أخرى، لأكون أنا أول المشاركين في سرد تاريخ الشعر بين دموعه الزرقاء العالية، لقد تعرفت عليه بين أصوات أصدقائي، رطوبة شفاههم وهم يروون آخر لقاء معه في الجريدة، آخر دواوينه وأخباره.
يجب أن أشتري كتابا له، وأحفظه، لابد لي من معرفته لوحدي بدون ايماءات وتعاليم جاهزة، ذهبت في نهاية الحصص المدرسية إلى المركز الثقافي القديم في اللاذقية، كم كنت أحب ذاك المكان، حيث رائحة الخشب والثياب التي مص عطرها المطر الخفيف، ليغدو العطر كرائحة التراب بعد أول قطرة تقبله، كنا أنا والبحر والتراب وروائح الكتب القديمة نبحث عنه.
هناك وجدته، الأعمال الكاملة كتاب أحمر صغير، اخترت زاوية له بنافذة واسعة، كانت تشبه مكان كتابته في بيته الدمشقي على الشرفة الزجاجية يرقب الباعة والعشاق والمطر ذاك المتسكع الصفير.
موسم الذئاب كانت أول قصيدة يرجف فوقها قلبي، تناولت من حقيبتي المدرسية كمشة اوراق وبدأت انسخ كل ما تقع عليه عيني من قصائد، كنت أفقر من تلك القصائد لكن روحنا كانت واحدة وهي تدخل البحر القريب.
لن تنساني ولن انساها تلك الليلة من العام 2003 عندما طمرت جسدي وأوراقي تحت غطاء الصوف، رحت أجهش كيتيم وجد بيتا له، عروس هاربة من زفافها آخر مقعد الباص، لقد وجدت نفسي، نعم لقد لمست وجعي وعتمي و حزني ووحدتي لمستهم من اعضائهم، وخلقت لشرودي الطويل زورقا يجعله يتهادى ويرى القمر بعيون جديدة، أمي لم تدر ماذا تفعل بفتاة يبكيها كتاب، هل ستغلي لي النعنع مع الليمون؟ أم تضع لي كمّادات باردة فوق رأسي؟ الأفضل أن تقرأ لي سورة الحسد وتفجر رصاصة فوق جسدي، لأن عينا ما أصابتني، هذا هو الغيب المنقذ الأخير الذي تبقّى لها، نعم كانت عينا زرقاء علقت فوق عيني الحقيقة صرت أرى بها ماكنت أجهل تسميته وأخاف منه بالوقت ذاته إنه الشعر الجيفة الخالدة ذاتها.
أنا سوزان
عند اقتراب موعد انتهاء الفصل الأول من العام الدراسي حصلت من أحد الأصدقاء المولعين بذاك المتسكع حتى العظم كما كان يصف نفسه على رقم هاتفه، لم يكن في بيتي خدمة الصفر القطري الذي يمكنني من الاتصال داخل المحافظات، كنت سأطلب دمشق، لذلك استعنت بحصالة دكان حارتنا الشتوي، دكان صغير بقرميد أحمر يعلو مدخله، يبيعنا الفقر والكسل، قائمة ديونه أكثر من محتويات الدكان، أمام بابه الخشبي الضيق على مفرق حارتنا تلعب الريح بأكياس الشيبس وعلب البسكويت وضحكات الأطفال الراكضة. كم كان يشبه صوته دكان حارتنا الوحيد بسقفه المتداعي الحزين تحت امطار ذاك اليوم، وضعت نقودا في الحصالة وطلبت الرقم، غاب صوتي وراء بحة الأرصفة في كلمته البطيئة جدا: (أيوا)
أتكلم الآن من اللاذقية، أنا سوزان!.
رحب بتلك الكلمات العفوية التي لا أدري كيف خرجت، في صوته مطر أخذ يتساقط هنا أيضا يلف حارتي ويدق على الأبواب والشبابيك يرد تحيات المارة، قلت له: لابد أنك حزين لقد جاء الشتاء.
قال لي قصيدة مطلعها: الفصول كلها في قلبي، أنا لست بحاجة إلى أن أنظر من النافذة أو الروزنامة لأعرف الطقس واليوم والفصل.
كان الهاتف يصفر يريد فكة أخرى، جيبي فارغ والحياة فارغة والموت فارغ، لكن صوته زهرة في هذا اليوم، لعنت النقود والبرد و جيبي ألف لعنة، وأنا ألوح لصاحب الدكان والسماعة على أذني أن يناولني قليلا من الفكة، لكنه لم يكترث لإشاراتي وتوسلاتي وتابع قراءة جريدة انتهت صلاحيتها منذ سنين، كنت أسميه بوغييه، لأن في جلسته و أنفته و حواجبه المعقودة، طعما فرنسيا لا يصلح لحارتنا اليتيمة.
أيام المطر حيث الطرق تقول في قلبها مثلي قصيدة الشتاء، كنت أمشي وفي يدي حجر صغير تعودت أن ألتقط حجرا من أول طريق المدرسة حتى أصل بيتي، وهناك أسور به ياسمينة دارنا العجوز، سمعت صوتا يناديني من بعيد، صاحب الدكان بوغييه،، اقتربت منه ولم افهم ما كان يقوله من فرط الدهشة لقد جعلته يعيد القصة مرات عدة حتى سقط الحجر من يدي وركضت إلى البيت.
كان ذاك البدوي الأحمر قد اتصل بصاحب الدكان من دمشق مرات عدة يسأله عني، وبوغييه طبعا لم يكترث ولم يخبرني، آه لو كان يعلم من المتصل، من الذي حرك قرص هاتفه طالبا رقمك، من خفق صوته في سماعة هاتفك الحالك، إنه محمد الماغوط.
في الهاتف الثاني عبّأت جيوبي بالنقود، وجهزت نفسي لحوار طويل بعد أن اخبرتني امي أننا سنسافر في عطلة الربيع إلى دمشق، زودته برقم بيتنا وأخبرته أنني أتكلم من دكان يدعى بوغييه لذلك ربما يقطع الخط راح يضحك وهو يزودني بعنوانه بالتفصيل ويطلب مني إعادته، حفظته كاسمي، (حي المزرعة قرب جامع الإيمان)، أخبرته أنني قادمة إلى زيارته وقال لي أنه سينتظرني، كنت أشتهي أن أرمي سماعة الهاتف وأركض أركض مثل (فوريست غامب) فقط أركض.
الزيارة
كانت المرة الأولى التي أرى فيها دمشق، تشبهه تلك الغيوم المتناثرة فوق صيحات الباعة، تلك الأعشاب البرية التي أخذت بالابتعاد عن الجبل ونزلت الوادي، وحيدة مع أضواء دمشق نمت وفي عقلي عنوان وطريق واحد الى السماء (المزرعة ـ قرب جامع الإيمان).
نزلت معي ابنة عمي التي تعيش دمشق منذ 30 سنة، وتحفظ زواريبها وبيوتها أكثر من اسمها، وصلنا إلى العنوان تماما، ودّعتها على أمل أنها ستجيء لأخذي بعد ساعتين.
لأ أعرف أحدا خارج هذا الشارع وهذا الدرج الطويل سوى محمد الماغوط المدينة غريبة واسمه فوق الباب هو بيتي.
فتح لي الباب ابن أخته و يدعى محمد، ثم قادني إلى مكان الماغوط، ممر قصير يليه ممر أقصر ثم أريكة واسعة على طرفها الأيمن قرب الباب، كانت دمشق تتمدد، تدخن و تبكي وتتثاءب.
سلمت عليه وقبلته كنت أنوي تقبيله من عينيه الزرقاوين، لكن صوت القرآن القادم من مسجلة وضعها الماغوط فوق رأسه تماما على رف خشبي، جعلني أصير في مكان آخر، يشبه أعماقه، عروق يديه، زوايا المكان، علب السجائر الكثيرة فوق الطاولة، بورتريهات لوجهه تقع قبالة صمته الطويل، إني هنا الآن أرى كل شيء بمفردي، ولاعلاقة لأصدقائي بعد اليوم بصورة الماغوط في قلبي.
سألني عن اللاذقية، والبحر والأرصفة، قال لي إنه كان يقيم بالقرب من بيتي في منطقة تدعى ضاحية بوقا، المعهد الزراعي هناك، وينام أيضا داخل المعهد، قلت له إني أمرّ يوميا بالقرب من ذلك المكان، ومرات طويلة أقف قرب بابه، كنت أحب الاشجار والزهور التي زرعت على جانبي المدخل، لكنني اليوم عرفت السر الذي يجمعني بمعهد الزراعة لسنوات الطويل، وهو أن روحك سكنت فيه منذ زمن مضى.
يد الماغوط
السجائر لا تنطفئ في يده، حتى إذا ما شارفت سيجارة على الانتهاء رماها وأشعل غيرها مباشرة، وأحيانا كنت أرى في صحن السجائر ثلاث سجائر مشتعلة لم تنته بعد والرابعة في فمه.
شربنا النبيذ، قال لي إنه يحب القرآن ويسمعه كقصيدة طويلة جميلة، يسمعه من دون اشارات وملامح وتأويلات يحصرها به الشيوخ، وأن سبب كل مصائبنا وحروبنا هم هؤلاء الشيوخ، كان يمسك المسجلة وينتزع الشريط ليضع شريطا آخر، كانت الأغنية التي دارت بعد القرآن تماما تلك التي أحبها لفيروز، وكأن يده التي وضعت و سجلت (طريق النحل)، في أي مكان أسمعها الآن، أحسها تطلع من أنفاس المسجلة ذاتها ويد الماغوط تعيد الشريط إلى بداية الأغنية كلما شارفت على الانتهاء.
أشار لي إلى اللوحات الممتدة فوق الجدار، هناك لوحة لسعاد حسني أهدته إياها فيما مضى، بورتريه له بتوقيع فاتح المدرّس، مدّ رأسه صوبي وقال إن مجموعة أميركيين زاروه وحدثوه فقط عن (سئمتك أيها الشعر أيتها الجيفة الخالدة).
أخرجت من حقيبتي الكاميرا ونادى ابن أخته محمد، أن يلتقط لنا صورا، تصورنا أكثر من عشرين صورة، كنت قد وضعت فيلما كاملا في الكاميرا وجهزتها، وكان الفيلم يضم حوالي ثلاثين صورة.
أذكر كل تلك الصور وكأنها أمامي الآن، مرتبة في ألبوم صغير، ونحن نرفع كأسينا عاليا وأنا أحضنه، وهو يقاطع محمد بأن يحضر له قنينة نبيذ جديدة وهو يرفع يده إلى رف المسجلة كي يخفض الصوت، أتذكر كل حركة فيها، لم أملك أي منها، لقد قال لي صاحب محل التصوير، فيما بعد أن الفيلم احترق، بكيت كثيرا ورجوته أن يعود ويحاول مرة أخرى لينقذ صورة فقط، إلا أن الفيلم احترق بالكامل وانتهى الأمر، كنت أريد فقط تلك الصورة التي اقتربت فيها منه فقاطعني وقال المرأة شجرة يا سوزان ونهدها هو الغصن الخارج من الشجرة..
كنا نتحدث قبلها عن ليلى ومطلع قصيدة حزن في ضوء القمر، عندها ابتسم لي وقاطع تصوير محمد طالبا منه أن يأخذني إلى المكان الذي يكتب فيه كل يوم، دخلنا إلى غرفة في آخرها شرفة مربعة صغيرة، الزجاج يكسو الجدران وتليها طاولة رسم خط القهوة اليابس على وجهها كلمات تركها الماغوط، الغيم قريب من الزجاج والشارع يبتعد، هنا يحتسي القهوة صباحا مع العصافير وأسطح البيوت، ومن ثم يكتب آلاف القصائد في قلبه، لقد لمست مخلوقاته وأنا أنظر إلى السماء من وراء زجاج الشرفة.
كنت قد التقطت صورة على شاطئ البحر، ممسكة قصبة طويلة، أخط على رمل الشاطئ عنوان قصيدته الأقرب إلى قلبي، انتظرت الموجة حتى اقتربت وأخذت المشهد كاملا، ثم زينته بإطار خشبي.
عندما رآها كان مدهوشا، ومرت ساعة نظر فيها إلى الصورة ثم قال: لقد علمت أنك ذكية وحساسة أتدرين أين ؟ لأنك تحبين تلك القصيدة هل تعرفين أنها كانت أكثر القصائد قربا لأنسي الحاج؟ نعم كان يحبها كثيرا.
شعرت بالغبطة لا، ربما كانت وجنتاي قد احمرتا قليلا، أنا وأنسي الحاج نحب الرجل المائل.
بعد قليل رن جرس الباب، دخل محمد علينا و ذكر له اسم من على الباب فأشار الماغوط بإيماءة من وجهه أنه لا يريد مشاهدة ذاك الشخص، ثم التفت إلي وأخبرني أنه رجل يحب أن يصير شاعرا رغما عن الشعر، كل يوم يأتي ويدق الباب على الماغوط أكثر من عشر مرات، قلت له وماذا يريد قال لي: يريد ان يقرأ لي قصيدة، قلت له: إذا دعنا نسمع؛ لم يشأ أن يرفض طلبي ولم يشأ ان يسمع شعر ذاك الرجل الذي بدأ بإنشاد الشعر وهو على الباب، ليدخل إلينا وكأنه دخل الى مسرح كبير مضاء بالكامل، اعتلى المنبر من دون أن يسلم على أحدنا مقابل الأريكة وأخرج من جيب قميصه الرث ورقة رثة أيضا، وبدأ صوته يبلع الكلمات وعينيه ترقب وجه الماغوط المتذمر.
قاطع الماغوط تفعيلة الشاعر ووعده بلقاء آخر، وبعد أن خرج، صمت الماغوط وأردف: هذا ممن يكتبون ديوان شعر كامل كل يوم، لقد أصبح يملك مجلدات ضخمة من تلك الثرثرة.
لم أودعه جيدا، بعد أن تأخرت على بنت عمتي المنتظرة في الشارع، أهداني أعماله الكاملة وأنا واقفة قربه نظر الي ثم كتب (إلى سوزان علي طفلتي وحبيبتي).
انا طفلة تلك القصائد نعم، طفلة كل صراخ وحريق جاء بينها، منذ أن مسكت كتابه أول مرة ورحت في بكاء طويل، أنا حبيبة دمشق النعسانة الهزيلة في قصائده، قطفت له زهرة من جبل قاسيون، ووضعتها فوق كتابه أسبوعا كاملا، ثم قرأت لروحه جميع القصائد بصوت عال في غرفتي الدمشقية الصغيرة بينما كانت روحه تسخر وتغني صاعدة السماء.
صحيفة السفير اللبنانية