لم تعد إسرائيل بعد عام ألفين تستطيع أن تحتفل بنصر. منذ انسحابها المذلّ من لبنان وهي في أزمة إنتاج نصر ولو على مستوى الصورة. لم تعد إسرائيل بالرؤية نفسها، ولا بالحجم نفسه، وحتماً لم تعد بالأشخاص أنفسهم الذين بنوا إسرائيل القديمة الممتلئة هيبةً وطموحاً وغروراً. ثم أصبح «عالم» إسرائيل ما بعد الحرب على لبنان تموز 2006 مهدّداً بالضائقة الأمنية، على الرغم من كل ما بنته إسرائيل لنفسها من نظام للأمن والتعاون مع دول عربية وغربية يضمن سلامتها وتفوّقها ورخاءها.
الإفراط في استعمال القوة لم يأتِ بوسيلة لتخفيف عبء الأمن، والمظلّة النووية هي الأخرى لم تجعلها تنام في أمانها. المشكلة دائماً كانت تنتظر عند نقطة في المستقبل لا تريد أن تأتي، بل لا يمكن الوصول إليها.مع «طوفان الأقصى»، تعقّدت شروط الأمن أكثر، وتعقّد النصر معها حكماً. ما حصل أدّى إلى تغييرات عنيفة في مواقع القوة ليس بالضرورة ما هو مرتبط بنوعية السلاح وحجمه وفعاليته، وإنما لجهة الإرادة والمبادرة والذكاء التاريخي والأداء الميداني. الفلسطينيون الضعفاء المساكين يتحدّون الكبار الأقوياء. هذه هي القضية الخطيرة. لم يضرب هؤلاء الذين يعيشون في «سجن في الهواء الطلق» أسس الكيان الصهيوني في السابع من أكتوبر الفائت فحسب، بل هزّوا منظومة الهيمنة الغربية. لذلك «اشتعل الرأس شيباً» في الكيان وفي أوروبا وأميركا على هذه العملية الجريئة التي يتنبأ العارفون بتداعياتها أنها قد تجرف كل الأوضاع القديمة في الشرق.
فكّرت إسرائيل خلال السنوات والأشهر السابقة لـ«طوفان الأقصى» بأن تُبقي غزة معزولة متخلّفة، قطاعاً مقهوراً لا يحمل إلا أقداره البائسة، لا يستطيع أن يُعطي نفسه فاعلية تؤثر في موازين الصراع. وفي هذا كانت إسرائيل تريد أن تظلّ اهتماماتها متجهة إلى حزب الله في الشمال. فهناك بحر الأخطار. أمّا أن تأتي الضربة على الرأس من غزة، وهي ليست جزءاً من كل جغرافيا العرب، فكان ذلك خارج كل تصور وتوقع. صحيح أنّ المقاومة في غزة خصم عنيد، وهذا ما خبرته إسرائيل في جولاتها القتالية المتكررة السابقة، لكن لم يكن في الحسبان أن تؤدي عملية «طوفان الأقصى» إلى كل هذا الألم والمرارة والمهانة. لم تكن الضربة من حزب الله الذي يملك إمكانية إذلال إسرائيل، بل كانت من طرف ضعيف محاصر من كل جهات الأرض. لسان حال الصهاينة: «لقد جرح الغزّيون كبرياء إسرائيل إلى الأبد، وهزّوا كل يقينيّاتها العسكرية والدينية والسياسية. أيّ خدعة هي قوة إسرائيل هذه!».
المهم أنّ إسرائيل التي تريد استعادة أمنها تحرّكت بسرعة وملأت الوقت. ولكن تحركت بجنون وملأته بالقتل. حيّدت السياسة والتاريخ وبدأت تتصرف كوحش متعطش للدماء. وظهرت بمظهر العرب حين وقوع الصدمات، أي بمنطق قَبَلي لا بعقل استراتيجي محسوب. في الحرب، هناك مناورات محدودة وعند اللزوم يتوقف المحارب عند حدّها، لكن إسرائيل التي أرادت أن تحفظ ماء وجهها قررت أن تنزل إلى حرب لا تعرف كيف تكون نتائجها.
بعض المسؤولين الإسرائيليين، وهذا ما ظهر من مواقفهم في الأيام الأولى لـ«طوفان الأقصى»، انجرفوا إلى الحرب وقبلوا منطق استعراض القوة، لا من زاوية القناعات وإنما بفعل الضرورات. الضرورات المرتبطة بالهيبة والصورة والكبرياء، وهم يعلمون أنّ إسرائيل لا شك ستغرق في الوحل وأنها ستقع في شَرَك لا تقدر على الخروج منه، ومع ذلك غلبت روح الانتقام والثأر روح العقل، ودخلت في المحظور الذي ظلّت تتجنب الدخول فيه، وهو احتلال غزة بريّاً لقطع الخسائر فزادت، ولطلب مزايا أكثر فتبدّد ما كان سابقاً متاحاً لها. إنّ إسرائيل، وهي على هذه الحالة من التوتر، لا تعرف ما هي الخطوة المقبلة. وهي قبل ذلك لا تملك تصوراً كاملاً عن الخطوة الحالية التي تجاوزت السبعين يوماً. هي أثبتت أمراً واحداً أنها آلة تدمير كبيرة وتصفي ثارات وحسابات غير واعية، وفي أعماقها تحسّ بالحقيقة موجعة وأنها بالفعل تغرق في مستنقعات الجغرافيا والسياسة، دون أن يتقدم أحد مالكاً للقدرة الاستراتيجية الفعلية على فتح الباب أمامها لترتيبات تحدّ من متاعبها وتحول دون انهيارها.
لقد بدأت إسرائيل تحسّ، وتحديداً منذ الأسبوع الثاني للحرب، بأنّ مناصري فلسطين من كل أنحاء العالم واتتهم فرصة غير مسبوقة لإحياء قضية الشعب الفلسطيني من جديد، وهم يفعلون كل ما بوسعهم للتنديد بأعمال إسرائيل العسكرية، ويضغطون، وخصوصاً في أوروبا وأميركا، على حكوماتهم لوقف النار. والأمر الآخر أنّ الحرب لم تكن مجرد مناسبة لتشمت فيها إيران بهشاشة إسرائيل وبقدرتها على أذيّة هذا البلد والردّ عليه عسكرياً عبر حلفائها الفلسطينيين، وإنما لتختبر، ولأول مرّة، مع بقية أركان محور المقاومة، جهود التنسيق في البر والبحر والجو. يا لهذه النتيجة! أرادت إسرائيل أن تتصرّف كقوة عظمى، لكنها الآن تتخبّط وسط أوهام الأهداف التي رفعتها وتحاول مع كل شركائها العثور على يقين بنصر محدود فلا تجد. كان أقرب يقين طُرح عليها يتعلق بفك الاشتباك ووقف النار بعد فشل كل الضغوط العسكرية والديبلوماسية التي مورست على المقاومة الفلسطينية وحزب الله على وجه الخصوص. لكن هناك مَن يكابر ويصرّ على فوز لا يتطابق مع مجريات الميدان، ولهذا المعارك ما زالت تدور رحاها.
كانت تجربة حرب تموز 2006 قاسية على العقل السياسي والعسكري، أمّا مع «طوفان الأقصى» فالتجربة دامية قاتمة والأفق مكفهرّ ومعبّأ باحتمالات مجهولة.
في إسرائيل هناك اقتناع بأنّها، على الرغم من آلة الدمار الهائلة التي تمتلكها وتستخدمها بقوة، ما عادت تخيف. وهذا بالفعل شيء يخيفها كثيراً. وهناك جزم بأنّ حزب الله حين يتحرك بقوته الكاملة التي هيّأها «نصر الله» لن يتمكن أحد من حماية إسرائيل من طوفان أكبر لا تعرف إسرائيل على أيّ شاطئ سيضعها!
إذا كان سلاح «إسرائيل القديمة» في حرب 1948 و1967 و1973 لم يخذل سياستها، واستطاعت عبر القوة إرغام العدوّ وكسر إرادته، فسلاحها بعد عام 2006 يخذل سياستها. من الواضح أنّ عملية الربط بين السلاح والسياسة في هذه العملية العسكرية على غزة ضعيفة هشّة، ثم إنّ المقاومة ما زالت تقاتل بإرادة فولاذية وبمعنويات عالية تتخطّى أيّ تصور وتسمو على أي قياس.
إسرائيل، بحكومتها الحالية، لم تعد قادرة على ربط الحرب بنتائج سياسية لمصلحتها. تواصل القتال، لكن القتال غير الحرب. القتال بالأدوات والنيران، بينما الحرب هي شيء آخر. هي صراع إرادات. ولهذا تشعر إسرائيل، على الرغم من كل الإحاطة الغربية والدعم العربي الرسمي، بأنّ هزيمة كبرى بانتظارها. في الوعي الاجتماعي الإسرائيلي، حُسمت المسألة «الجنّة ليست هنا». وفي الوعي العسكري، تحسم المسألة شيئاً فشيئاً «لقد جاء زمن الهزائم»!
لقد رويت لنا معارك وحروب العرب التي هزموا فيها كلّها، أمّا «طوفان الأقصى» فهذه قصة من نوع آخر. هي مجال من مجالات صنع المستقبل. مستقبل حافل بالانتصارات.
صحيفة الأخبار اللبنانية