تستعد إسرائيل للانتقال إلى المرحلة الثالثة من حربها على قطاع غزة، أي من العمليات العالية الكثافة إلى الأقل منها وتيرةً وحدّةً، الأمر الذي ينقلها والمقاومة إلى حرب عصابات قد تطول أو تقصر، وفقاً لاستجابة العدو نفسه للمتغيّر الميداني، في ما سيكون شبيهاً بواقع الحزام الأمني في جنوب لبنان في القرن الماضي، والذي انتهى بعد عناد الجيش الإسرائيلي طويلاً إلى الانسحاب وتعزيز قوة «حزب الله» بما لا يقاس بما كانت عليه سابقاً.
على أن اللافت في الأيام الماضية، كان تهيئة الجمهور الإسرائيلي للاستعداد للانتقال إلى هذه المرحلة، عبر خفض سقف توقّعاته بما يتلاءم مع ما تحقّق إلى الآن، بينما معظم هذا الأخير يندرج في إطار إنجازات تكتيكية لم يرقَ أيّ منها، تقريباً، إلى مستوى الإنجاز الإستراتيجي، فضلاً عن الغايات التي وُضعت ابتداءً للحرب، وتبيّن أنها خيالية وغير قابلة للتحقّق.
وفي حين يضغط الرأي العام في العادة على صانع القرار في تل أبيب، في اتجاه مزيد من التعمّق في الحرب لتحقيق أهدافها، يبدو أن القيادة اليوم هي من تحاول توجيه الرأي العام وإعادة بلورة توقّعاته، وهو ما بدأت بالفعل العمل عليه عبر الإعلام – الأداة الطيّعة لديها -، لتهيئة الرأي العام للنزول عن شجرة التوقّعات العالية جداً، الأمر الذي أشارت استطلاعات الرأي، على اختلافها، إلى نجاحه. وإن كان لا يزال التغيّر بطيئاً في هذا السياق، فمن المُقدَّر له أن يصل إلى الحد الذي يسمح بإجراء تغييرات ميدانية.
ولعل خطاب رئيس الأركان، هرتسي هليفي، كان واضحاً في دلالاته في هذا الإطار؛ إذ قال: «ستستمر الحرب أشهراً أخرى، وإن كنا سنعمل بأساليب مختلفة. لا توجد حلول سحرية، ولا توجد طرق مختصرة، في التفكيك الشامل لمنظمة إرهابية»، في إشارة منه إلى حركة «حماس».
ويحمل كلام هليفي إقراراً متعدّد الاتجاهات والمستويات، ويشكّل دلالة على توجهات الجيش الجديدة، وعنوانها: لن يُعلن وقف إطلاق النار، بل ستستمر الحرب لأشهر إضافية، بأساليب وتكتيكات مختلفة.
كما أن الأهم في حديث رئيس الأركان، هو الاعتراف بأن العمليات الحالية، كما هي منذ أسابيع طويلة، عاجزة عن تحقيق الأهداف، وتحديداً تفكيك حركة «حماس». وفيما يُعد هليفي أحد أهم المؤثّرين على توقّعات الجمهور، تبيّن استطلاعات الرأي وكتابات المعلّقين المدفوعين من الجيش، والتي جاءت في أعقاب تصريحاته، خفض سقف التوقّعات العالية جداً، بالفعل.
مع ذلك، يبدو أن الانتقال من مرحلة إلى أخرى، تشمل انسحابات وإعادة تموضع دفاعي لتقليل الخسائر، سيكون طويلاً، كونه يتطلّب من الجيش تحقيق «إنجازات» تبرّر هذا الانتقال.
هنا، تتكاثر الأسئلة والتحديات: ماذا عن الأسرى الإسرائيليين؟ وماذا عن مطالب «حماس» بأن تشمل أي صفقة تبادل مقبلة، وقفاً نهائياً لإطلاق النار؟ وماذا عن قادة حركة «حماس» الثلاثة: يحيى السنوار ومحمد الضيف ومروان عيسى؟ هل يمكن الانتقال من الحرب العالية الكثافة إلى الأدنى منها، من دون تصفية هؤلاء القادة أو أحدهم على الأقل؟ وفي المحصّلة، هل يمكن «بيع» صورة النجاح للجمهور الإسرائيلي من دون الإجابة عن هذه الأسئلة ميدانياً؟
على أن انتظار تحقيق إنجازات قبل الانتقال إلى المرحلة اللاحقة، لا يعني الانتظار إلى الأبد، خصوصاً أن «المزيد من الشيء نفسه» ليس وصفة سحرية من شأنها تغيير واقع الأمور وتبديل النتائج، بل هو يتحوّل مع الإنكار والمعاندة إلى عنصر إضرار تصعب معه أيّ معالجة لاحقة.
وعلى هذه الخلفية، تسعى إسرائيل، وإن مع إنكار علني، لإبرام صفقة تبادل أسرى، من دون وقف دائم لإطلاق النار، وفي الحدّ الأقصى الممكن، مع هدنة طويلة نسبياً قياساً بما رافق صفقة التبادل الأولى، تحت إغواء إطلاق عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين، والسماح بإدخال مزيد من المساعدة الإنسانية إلى قطاع غزة.
وهذه الصفقة المأمولة هي التي تملي على الجيش الإسرائيلي الاستمرار في ضغطه الميداني، وليس فقط البحث عن إنجاز ما. إلا أن إسرائيل تواجه إصراراً فلسطينياً على أن يكون الاتفاق شاملاً، وأن يفضي إلى إنهاء كامل للحرب، مع حصانات وإعادة إعمار وغيرهما من المطالب، التي لا يجد الإسرائيلي قدرة على تلبيتها، شكلاً أو مضموناً.
إلا أن الوقت يضيق على الجيش الإسرائيلي، فيما إنهاء المرحلة الثانية، والذي يبدو أن توقيته ثابت إلى الآن في منتصف الشهر المقبل، لا يستقيم بلا صورة انتصار مطلوبة، بات مفتاحها، في الحد الأدنى من ناحية الأسرى، في يد «حماس»، بعد شبه اليأس من إمكانية الوصول إليهم عسكرياً، ما يدفع الحركة إلى التصلب في موقفها التفاوضي.
كذلك، يثقل على إسرائيل «الدولة»، أن رأس الهرم السياسي معنيّ باستمرار الحرب، بمستوى ووتيرة عاليَين يمنعان تفكّك ائتلافه الحكومي، وبالنتيجة يضمنان استمرار حياته السياسية، المهدّدة في حال تحوّل الحرب إلى وتيرة منخفضة، تسمح بالمساءلات السياسية، بالانتهاء. أيضاً، ثمة تجاذب إسرائيلي – فلسطيني، وإسرائيلي – إسرائيلي، ومن وراء الكل واشنطن التي تضغط على تل أبيب لإنجاز المهمة ميدانياً، وفي الوقت نفسه بلورة أو القبول بمخارج سياسية لا يريدها بنيامين نتنياهو.
في خضمّ ذلك، يبدو لافتاً خروج كتابات في الإعلام العبري، عن السياق العام الذي يحكم الرواية العبرية شبه الموحّدة للحرب.
وفي هذا الإطار، كتبت صحيفة «معاريف» الآتي: «رغبة الجيش الإسرائيلي في التأثير على صورة الإنجازات التي يحققها، أمام الجمهور في الداخل، مهمة للغاية، لكنّ هناك خطاً رفيعاً بين ذلك، والغطرسة»، فيما اعتبرت «هآرتس» أنّ «من الأفضل أن نأخذ بحذر شديد إحصاء جثث الإرهابيين، وهو ما تصرّ إسرائيل عليه لوصف نجاحاتها العسكرية.
كل يوم، في تصريحات وتصريحات القادة الميدانيين، ترتفع تقديرات خسائر حماس. تتحدث التقديرات بالفعل عن حوالي 8000 إرهابي، ولكن في خلفية التقارير الاستخباراتية، يُذكر أن هذه التقديرات مبنية على مستوى متوسط من الثقة». بعبارة أخرى، من المحتمل أن يقع الجيش الإسرائيلي في فخّ المبالغة في التقدير، والذي عانى منه الجيش الأميركي في حرب «فيتنام». ولعل ما أشارت إليه الصحيفتان، ينبئ بما سيواجه صانع القرار في تل أبيب، في حال قرّر الانتقال إلى المرحلة الثالثة من الحرب.
صحيفة الأخبار اللبنانية