«مهرجان القاهرة السينمائي الـ 37».. دورة راكدة وهدوء ثقيل
لا تنتهي الأسئلة. كثيرةٌ هي تلك المتعلّقة بـ «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي»، المنتهية دورته الـ 37 مساء 20 تشرين الأول 2015. أسئلة متنوّعة، تتناول مضمون الدورة هذه، المتعلّقة بمعنى إقامة مهرجان سينمائيّ وبكيفية اختيار الأفلام وآلياته. تتناول شكلها أيضاً، المتمثّل بأنماط التنظيم ومقرّات العروض والإقامة.
مآزق
تحاول ماجدة واصف (رئيسة المهرجان في دورته الأخيرة هذه) أن تُقدّم شيئاً مقبولاً، لن يختلف كثيراً عن دورات قديمة، لكنه يكشف توقاً ما إلى تجديد يصطدم، دائماً، بنظام ضاغط. النظام المقصود هنا سياسيّ ـ اقتصاديّ رسميّ. المهرجان تابعٌ لسلطة حاكمة، تمويلاً وإشرافاً. لا تتدخّل السلطة مباشرة، لكن التركيبة المعمول بها منذ أزمنة بعيدة يعرفها من يُكلّف برئاسة المهرجان. البيروقراطية فاعلة بقوّة. الميزانية مُقدَّمة من السلطة الحاكمة نفسها. الوضع الأمني ـ السياسي العام مرتبك. المهرجان محتاج إلى حماية وأمن توفّرهما السلطة هذه قدر الإمكان. لذا، المقرّ مُختزل بـ «دار الأوبرا المصرية»، المحتوية على صالات غير سينمائية. الفندق («ماريوت ـ الزمالك») مريح وقريب. هذا أحد المطالب الأساسية المفروضة من قِبَل «الاتحاد الدولي للمنتجين السينمائيين» لمنح المهرجان صفة «دولي». لكن، يبدو أن الاتحاد غير راغب في سحب الصفة هذه، وأن يقع المهرجان في مطبّات ومخالفات. العروض لا تستقيم إلاّ في صالة سينمائية، والمهرجان يعتمد قاعات غير سينمائية. في القاهرة، هناك صالات حديثة ومتطوّرة. المأزق كامنٌ في الهوّة الكبيرة القائمة بين المهرجان ومحيطه: المدينة والصالات والناس تحديداً. أصحاب الصالات يريدون بدلاً مادياً، لانصرافهم عن كلّ فعل ثقافي. «الميزانية لا تسمح». والحلّ؟ لا أحد يعلم.
لم تعد القاهرة متداخلة ومهرجانها السينمائيّ، كما في دورات سابقة. القول بأولوية الأمن مقبول نظرياً. لكن السينما تريد صالة لها، لا قاعات غير صالحة لعروضٍ سليمة وصحّية للأفلام. اختيار صالات سينمائية في «وسط البلد» مثلاً ملحّ. هناك مجمّعات قابلة لأن تكون مركزاً للعروض. الفنادق لن تكون بعيدة جداً عنها. الأمن قادرٌ على توفير حماية. لكن الهوّة حاصلة، وردمها محتاج إلى خطوات جذرية تنطلق من إزالة التوتر بين المعنيين جميعهم، والتحرّر من كل «فساد» متنوّع وممكن. تقديم الصالات مقابل مردود ماليّ أساسيّ. المردود الماليّ جزء من الميزانية. لكن البعض لا يملّ من ترداد المقولة نفسها: «الميزانية لا تكفي». إذاً، يتوجّب وضع خطط عملية لتحسين الوضع، تبدأ بتحويل المهرجان إلى «مؤسّسة مستقلّة» تعمل على تمويل نفسها بنفسها، خصوصاً عبر تفعيل «سوق الفيلم»، كما يحصل في المهرجانات الدولية الأخرى، والعمل على جعله نواةً أساسية في برنامجه السنوي. «لن أكون متشائماً للغاية، لكنّي مضطرّ لأقول لكَ إن تحويل المهرجان إلى مؤسّسة مستقلّة في مصر مستحيلٌ فعلياً. السلطة الحاكمة لن تقبل، والعاملون في المهرجان لا يملكون جرأة المواجهة». خلاصة دردشة مع معنيين بالهمّ السينمائي (والثقافي العام).
أولويات
المهرجان محتاج إلى السلطة في مصر. من دونها، لا تُقام دورات سنوية يحتاج إليها لتثبيت موقعه في «الاتحاد الدولي للمنتجين السينمائيين». لكن السؤال الأبرز كامنٌ في معنى إقامة مهرجان دوليّ للسينما، وفي أولوية تحديد أهداف عملية ومنطقية لإقامته. القاهرة مدينة تصنع سينما. إقامة مهرجان باسمها يحتلّ مكاناً في المشهد الدوليّ مطلبٌ. لكن ترجمة «تنظير» كهذا تتطلّب وضوحاً في الأهداف والسياقات والسلوك والمعاني. عروض أفلام لا تُعرض في الصالات التجارية؟ لم يعد الأمر أساسياً لدى مهتمّين بالفن السابع، بسبب توفّره بتقنيات أحدث وأهمّ وأكثر تطوّراً مما تمتلكه إدارة المهرجان. ندوات ومطبوعات؟ لا الأولى تثير اهتمام أحدٍ، ولا الثانية تُقرَأ. لقاءات مع سينمائيين؟ في ظلّ الأوضاع المرتبكة، تُصبح زيارة هذا السينمائيّ أو ذاك معلّقة. علماً أن المهتمّ بلقاءات كهذه (بالنسبة إلى نقاد أو إعلاميين أو صحافيين تحديداً) يتوصّل إلى إجرائها إما في مهرجانات أخرى، أو عبر وسائل تواصل متنوّعة.
في مقابل هذا كلّه، تتحوّل قاعات «دار الأوبرا المصرية» إلى حيّز لعروض غير مريحة، بصرياً وسمعياً وجسدياً. الأقسى من ذلك، يبقى في الغياب الكبير للمُشاهدين العاديين. «الحشود» الكبيرة تظهر في عروض خاصّة بأفلام مصرية (معظم «الحشود» تلك مكوّن من صحافيين وإعلاميين فنيين مصريين). هذا حسنٌ، ربما. تظهر أيضاً عند عرض أفلام أجنبية يتردّد أن فيها «مناظر حميمة». هذا يحصل غالباً في دورات سابقة. لكن كلاماً كثيراً يتردّد في أروقة المهرجان عن ابتعاد ملحوظ لمُشاهدين عاديين، أو بالأحرى عن انقطاع المشاهدين العاديين عن المهرجان برمّته.
حكاية أولى: سائق سيارة أجرة يسأل شابّة يُقلّها إلى «دار الأوبرا» عمّا يجري داخلها. تخبره عن المهرجان. يجيبها بعشقه للسينما: «بس طبعاً الأوبرا دي للبهوات». تنفي ذلك. تحثّه على المشاركة. يقول لها: «أخاف أن أدخل مكاناً كهذا. سـ «يُجرجروني»، أو أجد نفسي عاجزاً عن الدفع». تُعلمه أن ثمن بطاقة الدخول يُساوي 10 جنيهات مصرية فقط (أكثر من دولار أميركي واحد بقليل). يُصرّ على التعبير عن خوفه، من دون معرفته سبباً لخوفه هذا. حكاية ثانية لعلّها تساهم في تفسير «خوف» سائق سيّارة الأجرة: يروي شابٌ تعرّضه ـ ذات دورة ـ لـ «بهدلة» من قِبَل رجال أمن يتولّون حراسة «دار الأوبرا». يقول إنه كان طالبا جامعيا حينها، وإنه كان يريد مشاهدة الأفلام، وإنه يتوق إلى التعرّف إلى سينمائيين. تقع الـ «بهدلة» بسبب هندامه. يسخر منه أحدهم قائلاً إنه يريد مشاهدة «مناظر حميمة». أمرٌ مؤسف. حكايتان لا تختصران المشهد العام، لكنهما معبّرتان عن جزءٍ من واقع يعانيه كثيرون.
هذه ملاحظات تُساق في نهاية دورة يصفها البعض بأنها «راكدة». هدوء مشوب بثقل متنوّع: فوضى في تنظيم الدخول إلى قاعات تعرض فيلماً مصرياً من إنتاج السبكي. عجز عن تسهيل أمور بسيطة بسبب قوّة البيروقراطية وسطوة السلطات الحاكمة. غياب واضح لسينمائيين أجانب وعرب. ندوات تُقام في قاعات فارغة. مطبوعات تصدر بأشكال تُنفر الضيف من قراءتها. احتفالات تكريمية عادية للغاية …إلخ. لكنها ملاحظات لن تكون أقلّ من دعوة إلى نقاش مفتوح عن المهرجان برمّته، بحثاً في مآزقه، وسعياً إلى إيجاد حلولٍ ما، لها. فللقاهرة حقٌّ متمثّل بمهرجان يستحق صفة «دولي»، ويحتاج إلى حضورٍ محليّ أكثر تأثيراً إيجابياً وفعالية حيوية، سينمائياً وثقافياً واجتماعياً.
«الهرم الذهبي» للفيلم الإيطالي «البحر الأبيض المتوسط»
في ختام الدورة الـ 37 (11 ـ 20 تشرين الثاني 2015) لـ «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي»، تُعلن نتائج المسابقة الرسمية، التي تضمّ 16 فيلماً روائياً، بينها 3 أفلام عربية فقط، هي: «مدام كوراج» للجزائري الفرنسي مرزاق علواش، و «من ضهر راجل» للمصري كريم السبكي، و «الليلة الكبيرة» لمواطنه سامح عبد العزيز. أما لجنة التحكيم الخاصّة بها، فبرئاسة المنتج البريطاني بول وبستر، وعضوية الممثلتين الهندية راديكا أبتي والمصرية داليا البحيري، والمخرجين: البيروفي جوناثن ريلازي شيانغ، والجورجي جورج أوفاشفيلي، والمصري مروان حامد والمغربية ليلى مراكشي، والمنتجة الفرنسية آن ـ دومينيك توسّان.
الجائزة الأولى «الهرم الذهبي لأفضل فيلم»، الممنوحة للمنتج، تذهب إلى «البحر الأبيض المتوسّط» للإيطالي جوناس كربينيانو، علماً أن كودوس سيّون يفوز بجائزة أفضل ممثل عن دوره فيه. الجائزة الثانية «الهرم الفضي ـ جائزة لجنة التحكيم الخاصّة» الممنوحة للمخرج، ينالها الإيسلنديّ داغور كاري عن «فوسي». الجائزة الثالثة «الهرم البرونزي ـ أفضل أول أو ثاني فيلم» وتمنح للمخرج، يفوز بها «بولينا» (إنتاج مشترك بين الأرجنتين والبرازيل وفرنسا) للأرجنتيني سانتياغو ميتري.
هناك أيضاً جائزة أفضل ممثلة للويز بورغوان عن دورها في «أنا جندية» (إنتاج فرنسي بلجيكي مشترك) للوران لاريفيار، و«جائزة نجيب محفوظ لأفضل سيناريو»، الذاهبة إلى الروماني كورنيليو بورومبيو، كاتب سيناريو «الكنز» ومخرجه. بالإضافة إلى «جائزة أفضل إسهام فني»، التي ينالها «الشمس الساطعة» لداليبور ماتانيك (المولود في زغرب، يوغوسلافيا السابقة).
صحيفة السفير اللبنانية