المارد يُخرج الأوراق المجهولة من قمقم طه حسين
شهدتُ، منذ أيام، توقيع الدكتور أنور مغيث، مدير المركز القومي للترجمة بالقاهرة، والدكتور عبد الرشيد محمودي، عقد إصدار الترجمة العربية لـ “مخطوطات طه حسين الفرنسية” التي تحمل عنوان “طه حسين، الأوراق المجهولة” وقد أنجزها الكاتب الروائي والمترجم الدكتور عبدالرشيد محمودي، وقد تفاهم الطرفان على صدور هذه الطبعة مواكبة للدورة المقبلة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، على أن تتضمن بين دفتيها: الترجمة العربية جنبًا إلى جنب مع الأصل الفرنسي، وبينهما صور المخطوطات الفرنسية كما عثر عليها المترجم.
ويوضح محمودي أن مخطوطات طه حسين الفرنسية هى نصوص أملاها طه حسين على من كتبها على الآلة الكاتبة أو دونها بخط اليد قبل نشرها مطبوعة أو إلقائها كمحاضرة أو خطبة أو توجيهها على شكل رسالة إلى شخص أو في صيغة تقرير لجهة ما فى صورة نهائية. إلا أنها لم تنشر ولم تذع بقدر ما نعلم.
وإذا صح ذلك كان معناه أنها مجهولة تمامًا. ويضيف المترجم: هى إذن تختلف عن كتابات أخرى ألفها طه حسين بالفرنسية، وسبق أن ترجمتها وجمعتها فى كتابي “طه حسين: من الشاطئ الآخر، كتابات طه حسين الفرنسية” الذي صدرت طبعته الأولى في بيروت عام 1990.
فهذه الكتابات الأخيرة نشرت بلغتها الأصلية فى صورتها النهائية، ومن الممكن الرجوع إليها فى مصادر معروفة أحلت إليها فى حواشى ذلك الكتاب.
ويذكر محمودي أن هذه المخطوطات الفرنسية ظلت مطوية لسنوات طويلة بين الأوراق التى خلفها طه حسين، ونجت لحسن الحظ سليمة أو تكاد مما أصاب أوراقًا أخرى فقدت فيما يبدو إلى الأبد. ويعني ظهور هذه المخطوطات في الوقت الحاضر فتح ملف خيل إليّ أنه أُغلق وأردت له أن يطوى. وذلك أنني ظننت أن كتاب “من الشاطئ الآخر” يضم معظم الكتابات الفرنسية لطه حسين، وأنه لم يبق منها إلا قليل قد تتكشف عنه الأيام، وعندئذ يضاف إلى الكتاب في طبعة مزيدة ومنقحة. وهو ما حدث بالفعل في الطبعة الثالثة من الكتاب الصادرة عن المجلس القومى للترجمة بالقاهرة في عام 2008.
وكنت قد نشرت فيما بين الطبعة الأولى والثالثة عددًا من الكتب عن طه حسين، ورأيت أنني أديت الواجب نحوه، وأن الأوان قد آن لكي أنصرف إلى أعمال أخرى.
ومن الواضح الآن أنني كنت واهمًا، وأن طه حسين لا يريد لملفه أن يطوى لا في حياتي ولا في حياة الغير؛ فها هي مخطوطاته الفرنسية تخرج من زوايا النسيان وتطالبني بأن أعني بها. وها هو المارد يخرج من القمقم.
طه حسين لا يفتأ يفاجئنا ويدهشنا. المخطوطات التي أقدمها الآن للقراء مهمة من حيث الكم. فلسنا هنا بصدد ورقة أو أوراق نادرة كانت شاردة هنا أو هناك، بل نحن نواجه مجموعة يعتد بها من النصوص التي لا يجوز أن تضاف إلى كتاب آخر، بل ينبغي أن تجمع في كتاب قائم بذاته، وأرجو أن يصدر قريبًا.
زد على ذلك أن هذه المخطوطات مهمة من حيث الكيف وبفضل قيمتها الذاتية.
أولًا، لأنها تدلنا لأول مرة وعلى وجه أقرب إلى اليقين على طريقة طه حسين في التأليف. نحن نعلم أنه كان يملي ولا يكتب؛ وقد صرح بذلك في إحدى كتاباته الفرنسية، انظر مقالة “أنا لا أكتب وإنما أملىِ” في كتاب “من الشاطئ الآخر”.
ولكننا نعلم أيضًا أنه كان يرتجل أحيانًا من وحي المناسبة، وفي مواجهة الجمهور.
لكن أين ينتهي دور الإملاء ويبدأ دور الارتجال في مؤلفات طه حسين؟ يجيب محمودي:
نستطيع أن نقطع بأنه كان يعتمد على الإملاء في كل ما نشره بالعربية من كتب أو مقالات، سواء جمعت في كتب أو نشرت متفرقة. وفي مثل هذه الحالات كانت النصوص المملاة يدفع بها إلى المطبعة لكي تنشر في صورتها النهائية، وعندئذ ينتهي دور المخطوطات وتختفي في المطبعة.
ومن أمثلة ذلك محاضرات طه حسين التي ألقاها على طلاب الجامعة المصرية عن الشعر الجاهلي عام 1925 أو مقالاته التي نشرت متفرقة ثم جمعت في “حديث الأربعاء”، أو في “على هامش السيرة”، فلم يبق من هذه الكتابات مخطوطات بعد طبعها: كان طه حسين يسلمها إلى المطبعة ولا يحتفظ لنفسه بنسخ منها.
ولكن ماذا نقول عن محاضرات طه حسين ومقالاته وخطبه وتصريحاته التى ألفها بالفرنسية؟
يجيب مترجم الكتاب الذي يعد أحد أهم المراجع في فهم أسلوب طه حسين في الإبداع: بعض هذه الكتابات ينطبق عليه ما قلته عن الكتابات العربية؛ فقد بقي لدينا منها نص مطبوع واختفت مخطوطاتها في معظم الحالات. ومن هذه الكتابات على سبيل المثال دراسة كتبها طه حسين ونشرت تحت عنوان “البيان العربى من الجاحظ إلى عبدالقاهر”، وترجمها محمد عبدالله عنان.
وهناك نص مطبوع من الأصل الفرنسي ونص آخر مطبوع من الترجمة العربية. ولا يوجد نص مخطوط. أما إذا صرفنا النظر عن هذه الحالات، فقد يخيل إلينا أن طه حسين كان يرتجل ولا يملى. فهو يلقي الدراسة أو المقالة أو يدلي بالتصريح، وقد يشاء الحظ أن يسجل النص أو يلخص أو يضيع “في الهواء”. ذلك ما يبدو لأول وهلة لكنه غير صحيح. فهذه المخطوطات التي ظهرت أخيرًا تدل على أن طه حسين كان في معظم الحالات يملي مؤلفاته الفرنسية.
كان يملي على من يكتب ما يقول على الآلة الكاتبة أو بخط اليد، وكان يحفظ هذه النصوص عن ظهر قلب أثناء إملائها أو عند تلاوتها عليه بعد تسجيلها وتنقيحها في بعض الأحيان. ومعنى ذلك أن حظ الارتجال هنا قليل جدًا.
فقد كان لديه في معظم الحالات نص يمليه ويحفظه في ذاكرته قبل أن يواجه الجمهور فيسترجعه أمام السامعين كلمة بكلمة إلا أن يتصرف هنا أو هناك لغرض محدد أو إذا لم تسعفه الذاكرة. كان يحفظ النص أثناء الإملاء أو عندما يتلى عليه بعد التدوين أو عند تنقيحه، وهو ما كان يحدث أحيانًا.
ويفسر لنا حفظ النص على هذا النحو تأني طه حسين في الإلقاء، وإتقانه حسن النطق والإعراب، وتفننه في توقيع الكلام. فكأنه ممثل يحسن الأداء بعد أن تلقن الدور وأحسن الحفظ بفضل “البروفات”، وأصبح بمقدوره عندئذ أن ينغمه أو يلونه كما يشاء.
وتدلنا هذه المخطوطات بالتالي على أن طه حسين إن كان قليل الارتجال، فقد كان صاحب ذاكرة خارقة، وبخاصة إذا تذكرنا أن بعض هذه النصوص طويل، وصعب من الناحية الفنية، وكثير التفاصيل.
وبعض هذه المخطوطات يحمل تصويبات (ما بين إضافة وشطب) كتبت بخط اليد. وهو ما يدل على أن طه حسين كان يعنى بتنقيح هذه النصوص قبل نشرها أو إلقائها.
فكيف كانت طبيعة دوره في هذا التنقيح؟
لا نستطيع أن نحدد صاحب القلم الذي كتبت به هذه التصويبات؛ فهناك عدة احتمالات. من المؤكد أن سوزان طه حسين كانت تتدخل أحيانًا فتجري تعديلات تشمل تصحيح أخطاء النحو والهجاء وقد تشمل تحسين بناء الجمل.
لكن آخرون أيضًا من المحتمل أنهم كانوا يؤدون مهمة مشابهة مثل أمينة طه حسين أو مؤنس طه حسين، أو سكرتيره أو أى شخص آخر يكون متاحًا في الوقت المناسب حتى ولو لم يكن من أفراد الأسرة.
لكن لنا أن نفترض أن التصحيحات – أيًا من كان المصحح – كانت تعرض على المؤلف وتُجرى بموافقته.
أما فيما يتعلق بقيمة هذه الكتابات المخطوطة من حيث محتواها، فلا بد أن نؤكد أنها بالغة الأهمية، حتى لو كانت “ثانوية” بمعنى أنها ألفت لغرض محدد أو لأداء الواجب في مناسبة. وذلك أنها تكشف عن جوانب نجهلها بدرجة أو بأخرى من فكر طه حسين وتثير الدهشة والتعجب والإعجاب في بعض الحالات.
بعض هذه الكتابات يفاجئنا اليوم لأنه ما زال حيًا أو “راهنيا” كما يقال. ومثال ذلك رسالة يقدم فيها كاتبها شرحًا واضحًا وحكمًا قاطعًا فيما يتعلق بفترة الحكم العثماني في مصر؛ ومقالة أخرى عنوانها “مشكلة الشرق”، وفيها يشرح المشكلات التي تعترض طريق التفاهم والسلام بين الشرق والغرب، مركزًا على قضيتين – قضية شمال أفريقيا (المغرب العربى) وقضية فلسطين – ويدلي فيهما برأي حاسم ينهي الجدل لدى العقلاء حول موقفه من موضوع الجزائر (“الفرنسية”).
وحول اتهامه بالتقصير في حق القضية الفلسطينية، يقول محمودي: طه حسين لا يتهاون ولا يهادن في الحالتين، بل يرسم بوضوح حدود العالم العربى من ناحية الغرب وحدود فلسطين العربية مجردة من دعاوى الصهيونية وأطماعها.
ولا يفوتني أن أشير هنا إلى تقييم دور طه حسين كوسيط بين الثقافتين: الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الغربية؛ فطه حسين عندما يتكلم الفرنسية ويوجه بها الخطاب إلى الفرنسيين والعالم الغربي بصفة عامة لا يسعى إلى إيجاد حل وسط أيا ما كان. صحيح أنه يحاول مد الجسور بين شاطئي المتوسط؛ وصحيح أنه يرى ضرورة التعلم من الغرب ونقل علومه وفنونه وأساليب حضارته، لكنه يعرف أين ينبغي أن توضع الحدود. فهو يحرص في هذه المخطوطات على تمجيد الثقافة العربية اِلإسلامية وعلى نقل وجهة نظر العرب والمسلمين صريحة قاطعة إلى الغرب ويواجه هذا الطرف الأخير ويصادمه بحقائق الجغرافيا والتاريخ والعدل.
وهو رغم هيامه بفرنسا يقرر أن شمال أفريقيا (بما في ذلك الجزائر بطبيعة الحال) عربى حتى المحيط الأطلسي؛ وهو رغم عدائه للنازية واضطهادها لليهود يقرر أن أرض فلسطين التاريخية فلسطينية وستبقى كذلك. وبهذا المعنى ليس لدى طه حسين حلول وسط.
والصورة المألوفة عنه هي أنه “أديب”. فهكذا وصف نفسه، وبهذه الصفة أراد أن يعرف. ولكن كثيرًا من قراء طه حسين يأخذون هذا الوصف على علاته ويغترون بالحديث العذب والكلام المنمق، وينسون أن الأديب في عرف طه حسين هو – كما قال القدماء – من يأخذ من كل شيء بطرف. والكتابات المخطوطة التي نحن بصددها تذكرنا بأطراف من اهتمامات طه حسين قد يحلو لنا أن نغفلها لأنها صعبة وشائكة وتخرج عن نطاق الأدب بالمعنى الضيق.
وهناك إذن دراسة يقارن فيها بين علماء الكلام المسلمين وبين الفيلسوف الألماني ليبنتز، وتذكرنا باهتمامات طه حسين الفلسفية و”اللاهوتية”. وذلك أن طه لم ينس قط الدروس التي تلقاها في الأزهر في علم التوحيد. كلا ولم ينس قط الصدمة التي تلقاها عندما درس أبا العلاء وما تركت في نفسه من هزات فكرية بعيدة المدى.
ولقد قلت غير مرة إن طه حسين أقرب أدباء القرن العشرين إلى الفلاسفة. فلو لم يكن أديبًا، لكان فيلسوفًا. وهنا أشير بصفة خاصة إلى مقالة فريدة في أصالتها وعمقها. وأعني بذلك مقالة يشرح فيها بلاغة القرآن الكريم لغير المسلمين. وهي مثار للتعجب والإعجاب لأنه يشرح فيها “إعجاز” القرآن من الناحية الأدبية لمن يجهل العربية أو ينكر على القرآن امتيازه وسموه.
وتلك مهمة صعبة، لكن الصعوبة لا تثني المؤلف المقدام عن التصدي لها. وهو يلزم نفسه في هذا السياق بما لا يلزم فيتطرق بحديثه إلى الموسيقى التي يعرفها عن طريق السمع وإلى الفنون التشكيلية البصرية التي يجهلها.
وطه حسين يؤدى في هذه الدراسة المستفيضة دور الفيلسوف لأنه يتناول جماليات النص القرآني وطابعه “التشكيلي”.
وللاهتمام بالجوانب الفلسفية من تفكير طه حسين أهمية أساسية في فهم كتاباته المطولة في تاريخ الأدب والنقد، وقضية المنهج، والشك، والعلاقة بين العلم والدين. فهي كتابات تتحرك رغم الحديث الهادئ الرائق فوق تيار عميق من المسائل الأساسية، وقلق لا يتوقف بشأنها، وأجوبة متقلبة لا تستقر.
ميدل ايست أونلاين