النّسَبُ المنحول موضوع فيلمي كوين وهيروكازو الفائزَين في «كانّ» «حياة أديل» الفائز بـ«السعفة الذهبية» يتحدّى الأخلاق السائدة ( زياد الخزاعي)
كان – زياد الخزاعي
لم يخذلنا المخرج الأميركي ستيفن سبيلبيرغ، رئيس لجنة تحكيم الدورة الـ66 لمهرجان «كانّ» السينمائي (اختتم مساء الأحد الفائت)، نحن الذين وقعنا في شغف حكاية غرام البطلتين الفرنسيتين الشابتين، في تكريم العمل الإنقلابيّ «حياة أديل الفصل الأول والثاني» (أو «الأزرق أدفأ الألوان») للمخرج التونسي الأصل الفرنسي الهوية عبد اللطيف كشيش بـ«السعفة الذهبية». لم يتعلّق الأمر البتة بمؤامرة فرنسية، أو خصام بين أعضاء لجنة التحكيم، أو ضغوط أطراف داخل المهرجان أو خارجه. فكل ما قيل في هذا الخصوص ترّهات ومواقف عصابية ومنافقة، لم تشاهد نصّاً سينمائياً نارياً وديناميكياً وعميق النظرة إلى طبقية تتصارع بعضها مع البعض الآخر، على جبهات السياسة والإنتاج والإيديولوجيا، لكنها تجتمع، شاءت أم أبت، على ألفة نادرة حول المهجة ولوعاتها، والعواطف وآلامها، والحب وحرائقه، والهوى واشتهاءاته، والشهوة وصباباتها. إن أفعال الحبّ وممارساته ومواقعاته وهزّات جماعه بين الفتاتين، التي شعت بفضل ارتجالية مشهديات كشيش، تلوّنٌ بصريٌ وتشكيليٌ لجسدين نضرين يتقابلان على الهيام، ويتعاهدان على ألفة مثلية. في مجتمع لا يرى ضيراً في تعميم الأخيرة كسلوك اجتماعي يحميه القانون، حقّق صاحب «خطأ فولتير» (2000) اختراقاً سياسياً موازياً، يتماشى مع ما تمّ تشريعه في فرنسا وأوروبا.
مشهديات
لكن، هل حقاً يُمكن اعتبار «حياة أديل» إعلاناً ضد الجنسانية التقليدية وتنميطاتها؟ هل هو تثوير لسلوك السينما تجاه المشهد البورنوغرافي وألعابه وخلاعاته؟ لا ريب في أن المشهديات الباذخة للمواقعات الجنسية بين أديل وإيما (أداء خاطف لأديل أكسارخوبولس وليا سيدو، وتصوير فذ للتونسي سفيان الفاني) روّعت الذهن الكهنوتي النقديّ، الذي رفضها بعجالة وضجيج فارغين، مُسقطاً من حساباته وجودها كفعل بشري يومي ولازم، مثلما غضّ اهتماماته عن أحداث تمتد نحو ثلاث ساعات، ومثلها محاورات وشخصيات وبنى اجتماعية، مُعتبراً إياها نفايات سينمائية. وحدهم، أولئك الذين وجدوا في فيلم كشيش نيّة صادقة لصوغ شكل سينمائي مغاير في نبرته وصنعته حول سيرة كائن هامشي، ربحوا رهان فطنتهم، سواء بإجماع رأي أهل النقد العالمي على فرادته، أو «سعفة ذهبية» انتصرت لقوله التثويري.
تفشل أديل، ابنة الضواحي، في إقامة علاقة بشاب في مدرستها، ليس لأنها وعت اختلافها، بل لأن «الكائن المؤتلف» لم يظهر في حياتها، إلاّ حينما تقاطع تاريخها صدفة، ووسط شارع باريسي مزدحم، مع صاحبة شعر أزرق، نعرف لاحقاً أنها من محتدّ غنيّ ومثقّف ومنفتح، تدرس الفنون في الـ«بوزار». يُقابل كشيش بين عالميهما، من دون أن يزايد واحد على آخر. أي أن مرّات عرض المشهديات العائلية محسوبة العدد للطرفين، كما أن دقائق عرضها متشابهة في طول أزمنتها، وهو أمر فريد يطاول بنية شريطه بالكامل، ويحوّله إلى تراكم نادر من متابعة دؤوبة لحياتيّ بطلتيه وتفاصيلها المتشعبة (أُشيع أن كشيش صوّر عشرات الساعات، وصرف خمسة أشهر في توليفها مع أربعة مساعدين، بينهم شريكته في كتابة السيناريو غالية لاكرو).
حياة أديل محكومة ضمن تراتب يومي متباسط إلى حدّ الملل. حتى مضاجعتها فتى ولهاناً «لم يكن خارقاً»، قامت بها كفعل ندّي ضد مناكفة صويحباتها حول «برودتها الجنسية». وحدها، قبلة عابرة من زميلة لها، تفجّر فيها الفضول، تمهيداً لظهور شخصية إيمّا، فتتكرّس مثليتها. لا يضع صاحب «المراوغة» (2003) الجنس كمبرّر لنضج أديل، بل إن انخراطها لاحقاً في العمل، كمربيّة في مدرسة أطفال، يكون الإيذان بتكوّن شخصية أكثر استقلالاً، ما يمهّد ارتكابها زلّة مع معلّم زميل لها، ويصبح انفصالها عن إيمّا حتمياً، نظراً إلى أن الثقة تم اختراقها. تصبح أديل منذ الآن وحيدة حتى النهاية. بدأ شغفها بشعر أزرق، وانتهى وهي ترتدي ثوباً باللون نفسه، سائرة في زقاق باريسي خال من العابرين، إشارة إلى أن ولاءها لصداقاتها وثبات أمانها الشخصي لن يُخترقا. طوق شذوذها لن يمنع انخراطها في مجتمع لا يرى فيها مَنقَصَة.
نيويورك واليابان
بعد حصولهما على «السعفة الذهبية» في العام 1991 عن «بارتون فينك»، عاد الأخوان الأميركيان جويل وإيثان كوين إلى واجهة جوائز «كانّ»، مع عملهما التهكّمي «في كيان ليوين ديفز»، الفائز بـ«الجائزة الكبرى»، وهو تكريم لا يفي قيمة عملهما وبصيرته حقهما، هو الذي استعاد الأجواء الموسيقية لنيويورك في ستينيات القرن الماضي، ما يمكن عدّه خيانة من «لجنة سبيلبيرغ». يسعى الشاب ديفيز إلى الفوز بعقد تجاري يكرّسه مغنّياً منفرداً. بيد أن محاولاته تبقيه خاسراً على الدوام. كيانه عصيّ على إدراك حقيقة أن صنعته رهنٌ بمجموعة موسيقية انطلقت موهبته معها. ينهار عالم ديفيز ببطء: حبيبته جين بيركلي تخبره أنه حامل، وتظنّ أنه والد الطفل، قبل أن يكتشف أن صاحب الحانة الشهيرة في حي «غرينتش فليج» البوهيمية، حيث يقدّمان وصلاتهما على مسرحها، هو الذي أغواها وحبّلها. يتساير هذا الانكسار العاطفي مع إعراض مكاتب العملاء في دعم موسيقاه، وتأمين عقود حفلاته، لنراه في خاتمة الفيلم معزولاً، وهو يستمع إلى أولى أغنيات اليافع بوب ديلان، الذي سيصبح لاحقاً إيقونة الموسيقى الأميركية الـ«فولك».
لم تمنع ميلودرامية حكاية فيلم المخرج الياباني كوري ـ أيدا هيروكازو «مثل أب، مثل ابن» من إعلان «لجنة سبيلبيرغ» تكريمه بجائزتها. فهو نصّ مفاجئ يحمل خطاباً مسيّساً لواحدة من خطايا حروب اليابان المعاصرة، من حيث اختلاط النطف، وتيتم أجيال، وتداخل أنساب مجهولين. حكاية البطل ريوتا، الذي تبلغه السلطات أن ابنه كيتا (6 أعوام) ليس من صلبه، قبل أن يكتشف أن فلذة كبده البيولوجي يعيش مع عائلة أخرى ذات أصول وضيعة. تقود سوريالية الجريمة، التي ارتكبتها ممرّضة سعت إلى تغيير أقدار الوليدين، كلا الطرفين إلى شراكة مثيرة. يُقابل هيروكازو بين طبقتين اجتماعيتين في يابان الألفية الثالثة: ريوتا المنتمي إلى النفوذ المالي، ويوكاري سايكي المحصّن بالضواحي المتواضعة، ودماثة العامل الدؤوب. الأول كائن بلا عواطف، ميّال إلى التنظيم. أما الثاني، فهو نموذج مطلق للحيوية والتلقائية. عاطفي، وسريع الإندماج مع الآخرين، وديناميكي حينما يتعلّق الأمر بالفرح والجماعية. الحاسم لدى المخرج هيروكازو أنه لا يدين أو يتنمّر على قدر عائلتين تشهدان عاصفة عاطفية، بل يُعقلن قبولهما إلى قدر أعمى.
صحيفة السفير اللبنانية