قضايا المرأة في المحاكم الشرعية العثمانية في مصر (خالد عزب)

 

خالد عزب

قالوا إن المرأة كم مهمل في المجتمع المسلم.. وقالوا أيضا إنها تعامَل كالجواري.. ورددوا أنها تعيش في ظلمات الرجال.. وأنها يجب أن تخرج إلى النور وعصر التنوير وتعيش كما تعيش المرأة الأوروبية.. وقالوا الكثير والكثير.. وقدموا للمرأة نماذج ممسوخة من خلال الكتب والمجلات والصحف والتلفاز والإذاعة تنقل بكلماتها التحلل الاجتماعي إلى مجتمعنا..
وتبقى المرأة المسلمة المؤمنة صامدة أمام هذا كله مقتدية بنساء السلف الصالح اللواتي شاركن في الحياة التي كفلها الشرع لهن في هذه المجتمعات التي وصمت بالتخلف. ولم يمنعهن الشرع الشريف كما ذكر المستغربون من ممارسة حقوقهن.
وترد وثائق المحاكم الشرعية العثمانية والآثار العمرانية للمرأة المسلمة والحقائق التي سجلها المؤرخون والرحالة المسلمون والإفرنج على المستغربين رداً لا يحتاج إلى تعليق من جاحد، فمن ينكر الوثائق الواضحة التي تسجل الحياة اليومية للمجتمع إلا إذا كان أعمى النظر والعقل والقلب.
ومن خلال هذا الموضوع سأطرح بعض ما ورد في هذه الوثائق، لكي نعلم ما كانت عليه حال المرأة في المجتمعات المسلمة.
قضايا المرأة
تعتبر سجلات المحاكم الشرعية المحفوظة في دار الوثائق القومية في القاهرة، سجلاً حافلاً لتطبيق الشرع الشريف العادل في قضايا المرأة المختلفة، ويتضح من استقراء عقود الزواج ما يلي:
إن عقود الزواج التي تم إبرامها بالمحكمة الشرعية كانت لشتى فئات المجتمع وكذلك لطوائف الجند العثماني المقيمين في البلاد، هذا فضلاً عن الجالية التي وفدت إلى مصر، ومعظمها من الشام والمغرب والسودان. وهو ما يوضح أن المجتمع في ذلك العصر لم يكن يفرق بين الناس على أساس موطنهم الذي ولدوا فيه، بل الكل صهر في بوتقة الإسلام ليشكلوا جميعاً المجتمع المسلم. وتؤكد عقود الزواج وتنوعها أيضاً حيوية المجتمع المسلم في مصر وسلامة بنائه الاجتماعي في ظل الشريعة الإسلامية وتطبيق تعاليمها على أسس من المودة، وذلك في جانب من أهم جوانب الحياة، وهو الأحوال الشخصية، ما جعل من الأسرة المصرية نموذجاً عالياً في الترابط والتماسك، الأمر الذي تأصلت معالمه على امتداد العصر العثماني، وبهر العالم الأوروبي حين اتصل بمصر في مطلع العصر الحديث.
وتكشف وثائق الزواج الدقة الكاملة في تحرير العقود. ومن نماذج وثائق الزواج التي تم إجراؤها في محكمة الباب العالي في القاهرة:
– وثيقة بتاريخ 11 شعبان سنة 1013 هجرية، تتضمن ثلاثة أركان أساسية لها دورها في إتمام عقد الزواج، وهي تحديد شخصية طرفي التعاقد، وهما الزوج والزوجة والصداق ووكيل للزوجة، حيث تؤكد نصوص الشريعة الإسلامية وجود وكيل للزوجة عند إتمام عقد الزواج، وهو أمر يحقق للمرأة، كما يقرر الفقهاء، توفير ركن الحياء لها ولكرامتها. فضلاً عما يحمله وجود الولي من تكريم لأسرة المرأة المتزوجة. ونصت الوثيقة أيضاً على وجود الشهود.. كما تتضمن كذلك عدداً من الأركان المهمة، منها ما نصت عليه من ذكر اسم الزوج والزوجة ثلاثياً، بما ينافى الجهالة، والركن الثاني الذي تتضمنه الوثيقة هو الإيجاب والقبول، اللذان يستدل بهما على توافق الرغبتين واجتماعهما على عقد الزواج المعين. والإيجاب يكون من ولي الزوجة أو من الزوج. ونصت الوثيقة على هذا الركن بعد ذكر الصداق، وعلى أن وكيل الزوجة قبض مقدم الصداق. ومن ثم زوجها له بذلك وكيلها المذكور أعلاه تزويجاً شرعياً وقبله الزوج المذكور أعلاه لنفسه على ذلك قبولاً شرعياً. والركن الثالث من أركان عقد الزواج، يؤكد قيام الزوج بالعمل على حسن العشرة مع زوجته، وتوفير أسباب الراحة المادية والمعنوية لها، والعمل أيضاً على إثبات حسن النية في مراعاة العشرة مع زوجته بتأمينها طبقاً لشروطها التي أتاحتها لها تعاليم الإسلام السامية. فنصت الوثيقة في عقد الزواج على أن الزوج «قرر لها (زوجته) بدلاً من كسوتها الشرعية لها عليه سلخ كل شهر من تاريخه (عقد الزواج) من الفضة الأحمدية ثمانية أنصاف»، أي مبلغ من النقود ثابت تأخذه عند مطلع كل شهر هجري.
ونصت الوثيقة بعد ذلك على أن الزوج قبل راضياً بشروط زوجته لضمان حسن العشرة لها على نفسه برضاه، ومن شروط الزوجة التي وردت في العقد، أنه متى ضربها ضرباً مبرحاً يظهر أثره على جسدها في غيظ، أو نام خارجاً بغير منزلها ثلاث ليال متوالية بغير ضرورة شرعية، أو سافر وتركها مدة أربعة أشهر وهي بلا نفقة ولا منطق، وثبت ذلك عليه أو شيء منه بطريقة شرعية، وأبرأته زوجته المذكورة في ربع دينار من باقي صداقها عليه، تكون حين ذلك طالقاً طلقة واحدة تملك بها نفسها تطليقها تطليقاً شرعياً.
ويؤكد هذا الركن الثالث من أركان عقد الزواج الذي تم إبرامه في محكمة الباب العالي في القاهرة مدى الاحترام الذي نالته المرأة، وما قرره العقد لها من ضمانات، وبخاصة في ما يتعلق بالجانب المعنوي من حياتها، وأن الأزواج كما تقرر في العقد قبلوا شروط أزواجهن عن طيب خاطر، وهي الروح التي نصت عليها التعاليم الإسلامية.
وتبين قضايا الطلاق حين تضرر المرأة من زوجها، مدى استجابة القضاء الشرعي لذلك، ومن هذه القضايا قضية سجلتها سجلات محكمة الباب العالي بتاريخ 20 ذي القعدة سنة 994 هجرية، ونلاحظ أن القاضي طلب حضور كل من الزوجة والزوج إلى المحكمة أمام القاضي عند طلب الطلاق، وحرصت المحكمة على التأكد من شخصية أطراف الدعوى، بخاصة أن المرأة هي التي تقدمت بطلب الطلاق، منعاً لأي شبهة قد تتعلق بشخصية طالبة الطلاق. فجاء في نص الوثيقة عن هذا الركن الأول ما يلي:
– سألت الحرمة دلال المرأة بنت حسن بن قاسم الرماح، وهي ربعة القامة مدورة الوجه ذهبية اللون مفروقة الحاجبين زوجها الشيخ محمد بن موسى أبى زيني الأزهرى، أن يخلعها من عصمته وعقد نكاحه خلعاً شرعياً.
ويوضح نص هذه الوثيقة أن الزوجة هي التي تقدمت برفع دعوى الطلاق من زوجها، وأن الإجراءات كانت تتطلب ذكر الاسم ثلاثياً، منعاً للجهالة، ثم إضافة الأوصاف الخاصة التي تزيد من التأكد من شخصيتها، وذلك حين تكون لها صفات جسمية مميزة أو شكل مميز، ثم تذكر الوثيقة اسم الزوج أيضاً ثلاثياً، منعا للجهالة أيضاً، مع ذكر لقب الزوج المميز له والدال على مكانته الاجتماعية.
الركن الثاني من الوثيقة، وهو تطبيق قواعد الخلع الذي طالبت به المرأة زوجها، وذلك تطبيقاً للشريعة الإسلامية، حيث تقدم المرأة للزوج ما يقبله مقابل القيام بخلعها، وبالتالي تطليقها وفقاً للتراضي بينهما وأمام القاضى، تأكيداً لهذا الخلع. ونصت الوثيقة على أن الزوجة طلبت الخلع مقابل التنازل عن مؤخر صداقها، وما تجمد لها من نفقة على الزوج، وذلك على بقية صداقها عليه، الشاهد به كتاب الزوجية بينهما وعلى ما تجمد لها عليه من الكسوة إلى تاريخه.
والركن الثالث في الوثيقة يتضمن شهادة الشهود على هذا الخلع وما ارتبط به من اتفاق، وذلك بحضور أقارب للزوجة، فضلاً عن شهود المحكمة، وأصدر القاضي حكمه بطلاق دلال بنت حسن من زوجها محمد بن موسى بناء على طلبها.

صحيفة الحياة اللندنية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى