ثلاثي الربيع الربيع العربي يجتمع في إعلان القاهرة (سامح راشد)
سامح راشد
شهدت القاهرة خطوة ذات دلالات مهمة لجهة العلاقة بين الدول العربية التي شهدت ثورات العام الماضي، فقد صدر “إعلان القاهرة” الذي يدشن تعاوناً ثلاثياً مشتركاً بين تونس ومصر وليبيا، في ما يعد أول محفل جماعي يضم الدول الثلاث، والصيغة الأولى من نوعها بين دول من الربيع العربي، وإن كان من دواع ومبررات لتلك الخطوة المهمة، إلا أن مستقبلها يظل رهن عوامل ومحددات بعضها يرتبط بالأوضاع الداخلية في الدول الثلاث، وبعضها يتعلق بالاستتباعات الإقليمية التي قد تترتب على خطوة غير مسبوقة كهذه، ما يندرج في النهاية ضمن الحسابات الخارجية وتقديرات المصلحة الخاصة بكل من العواصم الثلاث .
توصلت تونس ومصر وليبيا إلى صيغة للتعاون الثلاثي في ما بينها، اتخذت شكل وثيقة حملت اسم “إعلان القاهرة” هدفها تأطير ذلك التعاون . ويعد هذا الإعلان أول أشكال التعاون المشترك الحصري بين الدول التي شهدت ثورات وتغييرات سياسية داخلية خلال العام الماضي، الأمر الذي يفتح الباب أمام أشكال أخرى من التعاون في الإطار ذاته . كما يدعو إلى التساؤل والنظر في طبيعة وأشكال التعاون العربي – العربي بشكل عام، خصوصاً في ضوء الملابسات التي أحاطت بموجة الثورات التي اجتاحت بعض الدول العربية، وتداعياتها الإقليمية وتأثيراتها الداخلية حتى في الدول التي لم تنشب فيها ثورات .
خصوصية الدول الثلاث
تجمع تونس ومصر وليبيا سمات خاصة سابقة على مرحلة نشوب الثورات داخلها . أبرز تلك السمات التجاور الجغرافي بينها والعلاقات الممتدة تاريخيا خصوصاً على المستويات الاجتماعية والشعبية، كما تميزت العلاقات بينها بالاستناد إلى حد بعيد إلى عاملين أساسيين، أولهما البعد الشخصي للعلاقات بين قيادات البلدان الثلاثة، وثانيهما البعد الأمني .
وغني عن البيان أن المحدد الأول قد تغير مضمونه كليّاًمع تغير القيادات السياسية في البلدان الثلاثة، إلا أن آثاره لا تزال باقية من زاوية أن السياسات الخارجية لها لا تزال بعيدة عن المؤسسية ولم تخرج بعد من أسر الشخصنة وانتظار التعليمات والتوجيهات الرئاسية أو القيادية على أي مستوى . ولعل هذا الفراغ في تحديد توجهات وأولويات السياسة الخارجية للدول الثلاث، كان أحد ابرز أسباب تأخر تدشين التعاون الثلاثي في ما بينها .
المحدد الثاني بدوره شهد تغيراً مهماً في الفترة التي تلت نشوب الثورات في الدول الثلاث. فالبعد الأمني المحدد للعلاقات كان قبل الثورات يتركز بالأساس في خشية النظم الحاكمة من جماعات الإسلام السياسي بمختلف أشكالها وتوجهاتها، سواء الفكرية أو الحركية، لذا كان هناك تنسيق مستمر وفعال بين الأجهزة الأمنية والسياسية لمواجهة هذا “الخطر” على الاستقرار كما كانت تراه النظم الحاكمة الثلاثة .
الجديد الذي شهدته تونس ومصر وليبيا هو انقلاب هذا الوضع، فقد أصبحت القوى الإسلامية – بمختلف أشكالها – هي الحاكمة أو على الأقل أصبحت الطرف الأقوى في المعادلات السياسية والاجتماعية الحاكمة للأوضاع الداخلية . ما يعني ببساطة أن ما كان يعتبر في السابق خطراً أمنياً مشتركاً يستوجب التنسيق والتعاون في مواجهته، غدا اليوم هو الوضع الطبيعي.
بيد أن الاعتبار الأمني لم يقل أهمية ولا خطورة عن الفترات السابقة، بل ربما زاد في بعض أوجهه، ذلك أن الأخطار أو التحديات الأمنية المترتبة على الوضع الجديد أصبحت أكثر إلحاحاً وتهديداً، ليس فقط للدول الثلاث المتجاورة، لكن أيضاً لدول أخرى في المنطقة . كما أن تعريف الخطر الأمني ذاته اختلف بحيث لم يعد ينصرف فقط إلى ما يتهدد الحكومات أو الأنظمة الحاكمة، وإنما أصبح يتركز بالأساس على ما يتهدد الشعوب بشكل مباشر . والجديد المهم أيضاً أن غياب الحكومات أو بالأحرى هيبة الدولة وسيطرتها على الأوضاع الداخلية أصبحت بذاتها خطراً ماثلاً وحقيقياً على تركيبة الدولة بل وبقائها بدرجة ما . من هنا، فإن خصوصيات العلاقات والارتباط بين الدول الثلاث ربما اختلفت في مضمونها عما كانت عليه قبل الثورات، لكنها لم تقل أهمية إن لم تزد .
الأمن أولاً
رغم أن التغير في ليبيا تأخر عشرة أشهر كاملة عن كل من تونس ثم مصر، إلا أن أصداء وتداعيات الحالة الليبية تجاوزت في نطاقها الحالتين السابقتين، نتيجة الفراغ الذي أصاب مختلف مفردات الحياة والدولة الليبية، ما جعل ليبيا ساحة مفتوحة أمام انتشار السلاح وحامليه ومهربيه والراغبين في الحصول عليه . فضلاً عن السيطرة المباشرة لفصائل الثوار على الوضع الأمني في المدن والحضر، مقابل سيطرة القبائل والعشائر على المحليات والجهويات في القرى والبلدات خارج المدن . ومع انهيار الجيش الليبي أصبحت مخازن السلاح، بما فيها الأسلحة الثقيلة، مباحة للسطو عليها وتفكيكها وبيعها أو تهريبها لاحقاً خارج ليبيا . ونتيجة انشغال الثوار الليبيين بمهام الأمن الداخلي بالإضافة إلى بعض المواجهات التي وقعت في ما بينهم، أصبحت الساحة الليبية أمنياً في حالة سيولة، بل تحولت إلى سوق رائجة لتجارة الأسلحة وتمريرها عبر ليبيا من وإلى الدول المجاورة . ومن أبرز المظاهر التي صاحبت هذا الوضع الجديد، الأعداد والكميات الكبيرة التي تم ضبطها من أسلحة مهربة عبر الحدود الليبية، خصوصاً داخل الأراضي المصرية . وهو ما ينطبق أيضاً، وإن بدرجة أقل، على دول أخرى مثل الجزائر وتشاد ومالي، حيث بدأت بصمات انتشار السلاح ووفرة الثوار والمجاهدين في ليبيا تنعكس على عمليات التسلل وتهريب الأسلحة عبر الحدود الليبية إلى داخل تلك الدول تحديداً أو باتجاه دول أخرى مجاورة .
ومن أهم الأبعاد المرتبطة بهذا الموضوع الخطر، أن كثيراً من الأسلحة التي يتم تهريبها عبر الحدود الليبية مع مصر يتم ضبطها وهي متجهة شرقاً نحو سيناء، بما يعنيه ذلك من احتمالات استخدامها داخل سيناء لأغراض داخلية . أو أن تمر عبر سيناء إلى غزة والأراضي الفلسطينية . ما ينعكس بالضرورة على استقرار الأوضاع والعلاقات بين مصر والفلسطينيين، سواء في غزة أو في الضفة، وكذلك الأمر بالنسبة ل “إسرائيل” التي تعتبر أن أكبر مصدر لتهديد أمنها – سواء بشكل مباشر أو غير مباشر- هو سيناء والأراضي المصرية . ربما لا يكون الخطر قائماً بالقدر ذاته بالنسبة لتونس، حيث بين ليبيا والجزائر حدود مشتركة، تقلل الاعتماد على الأراضي التونسية في المرور من ليبيا إلى الجزائر أو العكس . لكن تونس أيضاً تواجه أمنياً مشكلات مع ليبيا، خصوصاً في المناطق الحدودية، حيث تكررت عمليات الاختراق للحدود من عناصر مسلحة ليبية بعضها ينتمي لفصائل الثوار، وبعضها مجهول الهوية . كما أن المنافذ الحدودية بين البلدين أيضاً تواجه تحديات وقيوداً على أعمالها ما يجعل الوضع الأمني الحدودي بشكل عام غير مستقر وغير آمن . وكانت دوريات حدودية تونسية تعرضت لهجمات من مسلحين ليبيين عدة مرات في الأشهر القليلة الماضية، بل تعرض بعض ضباط وجنود تلك الدوريات للاختطاف إلى داخل الحدود الليبية . من هنا أصبح الملف الأمني يمثل هاجساً مقلقاً للدول الثلاث كل من زاويتها، في ليبيا أصبح من العسير السيطرة على الوضع الداخلي في ظل السيولة السياسية والأمنية، وفي تونس ومصر أصبح الجوار الليبي مصدر قلق مستمر لأجهزة الأمن .
على هذه الخلفية يمكن فهم التركيز الذي تضمنه “إعلان القاهرة”، وكذلك تصريحات وزراء خارجية البلدان الثلاثة على الجانب الأمني في التعاون الثلاثي المشترك، بل والتطرق إلى بعض تفاصيل هذا الملف الشائك والمهم، ورغم ذلك فإن الجوانب الأخرى في العلاقات المشتركة لم تكن غائبة عن إعلان القاهرة . خصوصاً الجوانب الاقتصادية والفنية .
إعلان القاهرة
كان لافتاً في التطور الجديد في العلاقات بين تونس ومصر وليبيا، الحرص على تأطيره وتوثيقه بشكل مكتوب، ما يمثل بذاته دلالة على جدية الرغبة في التعاون، وأهمية هذا الإطار الجديد في منظومة العلاقات الخارجية للدول الثلاث، وهو ما يتضح من البنود الستة التي تضمنها الإعلان، وكان من أبرزها:
* تعزيز التعاون في المجال الأمني، وتكثيف المشاورات بين الدول الثلاث بخصوص ضبط الحدود المشتركة، ومكافحة الإرهاب وتهريب المخدرات، والهجرة غير الشرعية، والعمل على تنمية المناطق الحدودية اقتصادياً بما يحد من ظاهرة التهريب بكافة صوره، وتفعيل ما تم الاتفاق عليه في هذا الإطار في خطة عمل طرابلس .
* تنشيط التعاون الاقتصادي بين الدول الثلاث، لخلق فضاء اقتصادي متكامل، بهدف دعم التجارة البينية، وتشجيع حركة رؤوس الأموال والأيدي العاملة . وكان لافتاً في هذا الجانب النص على أن ذلك يمثل لبنة على درب تحقيق التكامل الاقتصادي العربي الأشمل .
* دعوة الدول والمؤسسات الدولية المعنية للوفاء بتعهداتها إزاء الدول الثلاث في إطار “شراكة دوفيل”، دعماً للخطوات التي تم اتخاذها باتجاه التحول الديمقراطي في الدول الثلاث . ما يرى فيه الإعلان تعزيزا لجهود الإصلاح والتنمية والاستقرار في المنطقة .
بهذه الصيغة التي تضمنها إعلان القاهرة، من الواضح أن ثمة اهتماماً مشتركاً بين الدول الثلاث، بالملفين الأمني والاقتصادي . مع إدراك الأبعاد الأوسع لكلا الملفين، سواء التداعيات الإقليمية المرتبطة بالملف الأمني، أو الأدوار التي يمكن لدول أخرى أن تقوم بها في إطار التعاون الاقتصادي . ويشير هذا بدوره إلى أن ثمة مخاوف مشتركة بين الدول الثلاث تتعلق بهذين الملفين، وهي مخاوف مرتبطة بأدوار أو أبعاد تجاوز نطاق الدول الثلاث، ما يبرر جزئياً الرغبة في التقارب والتجمع معاً للتعامل مع مفردات ومكونات هذين الملفين بشكل جامعي في مواجهة أطراف أخرى، قد تتضرر من الملف الأمني، أو تؤثر في الملف الاقتصادي .
ومن شأن هذا الحافز أن يساعد على تحويل الإعلان والصيغة الجديدة للتعاون الثلاثي إلى آليات وإجراءات عملية قابلة للتطبيق. فالهدف ليس فقط تحسين الأوضاع أو رفع مستوى التعاون أو تعظيم المصالح المشتركة، وإنما بهذا المنطق فإن ما يمكن اعتباره خطراً مشتركاً أو هواجس متشابهة، هي التي دفعت الدول الثلاث إلى التنسيق في ما بينها، وبالتالي ستكون معاً وبشكل متواز حريصة على استمرار هذا التنسيق ورفع درجة التعاون بما يكفل لها معاً -وبالتالي لكل منها على حدة- مواجهة القضايا والمشكلات التي تواجهها ترتيباً على أوضاعها الداخلية أو ترتبط بالأوضاع الداخلية في الدولتين الأخريين .
في هذا السياق يصبح مفهوماً تماماً مسارعة وزراء خارجية الدول الثلاث إلى إعلان رغبتهم في تفعيل “إعلان القاهرة” في اليوم التالي مباشرة لتوقيعه . فقد أعلن كامل عمرو وزير الخارجية المصري نية الدول الثلاث وضع قواعد لتفعيل ما تم الاتفاق عليه خلال الاجتماع الثلاثي الذي شهد الكشف عن “إعلان القاهرة”، مشيراً إلى تشكيل لجان فنية مشتركة ستبحث بالتفصيل كيفية تحويل الإعلان إلى إجراءات وآليات واتفاقات تنفيذية .
ليس ضد أحد
من أبرز الإشكاليات المرتبطة بهذا التطور الجديد في علاقات ليبيا بكل من تونس ومصر، علاقات الدول الثلاث مع الدول الأخرى في المنطقة، وكذلك علاقاتها الثلاثية المشتركة في الإطار الجماعي العربي والإقليمي . فقد أصبح واضحاً أن ثمة قواسم مشتركة تجمع الدول الثلاث وتدفعها -إن لم تكن تجبرها- على التقارب والتنسيق في ما بينها، ما يطرح تساؤلاً حول إمكانية ظهور تجمع سياسي جديد إلى النور قريباً، يضم الدول الثلاث باعتبارها طليعة دول الربيع العربي . مدعومة في ذلك بأسبقيتها في اتخاذ خطوات نحول التحول الديمقراطي وبناء الدولة، وكذلك التجاور الجغرافي والتقارب بين التوجهات والاتجاهات المجتمعية لها . وبغض النظر عما قد تؤول إليه تلك المحاولة من نجاح أو إخفاق أو تأرجح بين هذا وذاك، الحاصل أن الدول الأخرى في المنطقة أصبحت أمام احتمال نشوء كيان إقليمي فرعي جديد . ما سيلقي بظلاله بالضرورة على توجهات تلك الدول إزاء الدول الثلاث المشكلة لهذا الكيان المحتمل، فضلاً عن انعكاسات أخرى تتعلق بالجامعة العربية التي تمثل المؤسسة الرئيسة في النظام العربي، إذ سيفرض تساؤل مهم نفسه على الساحة العربية مع أول محفل أو استحقاق عربي، وهو هل سيكون للدول الثلاث موقف موحد تجاه القضايا والملفات العربية والإقليمية؟ وهو تساؤل مشروع ومبرر تماماً في ظل حرص الدول الثلاث على تضمين إعلان القاهرة بنداً يتعلق بالموقف من القضايا العربية المثارة على الساحة حالياً، خصوصاً القضية الفلسطينية والأزمة السورية، إذ يعكس ذلك الحرص إدراكاً من الدول الثلاث أهمية البعد الإقليمي في التحرك الذي تقوم به، ليس فقط من زاوية تأثير وتأثر الأطراف الثلاثة بالأوضاع الداخلية في دولها، لكن أيضاً من زاوية وجود ملفات وقضايا عاجلة وملحة مطروحة أمام الدول العربية وتنتظر اتخاذ مواقف أو تبني إجراءات بشأنها . وما يفهم من إعلان القاهرة أن الدول الثلاث سيكون لها موقف أو مواقف منسقة في ما بينها، بدليل أنها تطرقت في تصريحات الوزراء الثلاثة إلى تفاصيل خاصة بالأزمة السورية وضرورة أن يتم التعاطي معها وحلها في إطار الجامعة العربية، في إشارة واضحة إلى الحرص على تثبيت الجامعة كإطار وفضاء للحل ولإدارة الأزمة، وتلميح أيضاً إلى أن التجمع الثلاثي الجديد ليس خروجاً عن الإطار العربي الأوسع، وإنما هو فقط جزء منه . ومما يؤكد هذا التحليل، حرص وزير الخارجية التونسي على نفي أن هذا التجمع يجسد محوراً ثلاثياً، وتأكيده ما ورد في البند الأول في الإعلان حول أنه مفتوح أمام جميع الدول العربية الراغبة في المشاركة . فهذا الاستدراك له مغزى مهم لجهة طمأنة أية مخاوف محتملة قد تصيب أياً من الدول العربية الأخرى سواء المجاورة مباشرة للدول الثلاث أو المحيطة بها في المنطقة .
من هنا، يمكن القول إن “إعلان القاهرة” يفتح الباب أمام صيغة للتعاون والتنسيق بين تونس ومصر وليبيا في ملفات وقضايا ملحة وعاجلة ومفصلية، إلا أنه في الوقت ذاته لم يتبلور بعد ليكتسب صفة تجمع أو تكتل سياسي فرعي، فضلاً عن أن دواعي هذا التنسيق ومبرراته، لها طابع إقليمي في شق كبير منها، ما يعني أن البعد الإقليمي الحاضر بوضوح في نص الإعلان وتعليقات مسؤولي الدول الثلاث، سيظل حاضراً أيضاً أثناء تفعيل الإعلان والتفكير في تطبيقه، أو ربما تطويره لاحقاً ليتخذ شكلاً مؤسسياً أو تنظيمياً، وبالتالي ليس من المتصور أن يتجاوز التنسيق بين الدول الثلاث حدود الرغبة في مواجهة ملفات وتحديات مشتركة ومرتبطة، والاستفادة من القواسم المشتركة في ما بينها، من دون المساس أو الاقتراب من أية ارتباطات أو أبعاد أخرى تتعلق بحسابات ومصالح كل من الدول الثلاث وعلاقاتها العربية أو الإقليمية مع بقية دول المنطقة .
صحيفة الخليج الإماراتية