بريسترويكا» بوتين: شرق أوسط روسي؟ (ربيع بركات)

 

ربيع بركات

حين أطلق الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشيف البريسترويكا العام 1985، لم يكن في ذهنه اقتصار المبادرة على الداخل السوفياتي فقط، بل أراد لها أن تخط مساراً يعيد ترسيم العلاقات الدولية على نحو مختلف. وقد ذاع صيت العبارة الروسية الشهيرة في العالم أثناء حكمه الذي امتد ست سنوات، واختُتم بنعي المنطومة الاشتراكية المتداعية بأكملها العام 1991. ودخل المصطلح إثر ذلك الموسوعة السياسية على أنه مرادف لـ«إعادة الهيكلة»، وفق الترجمة الحرفية للعبارة، ولإعادة إنتاج نمط مختلف من العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الداخل السوفياتي، وفق الدلالة المعنوية لها. غير أن جانباً مهماً مما أراد مطلق العبارة لها أن تعنيه أُغفل بتواتر استخدامها لاحقاً، ببساطة لأنه ظل في إطار الأمنيات. والجانب المقصود هو ذاك المتعلق بالطرح الخارجي لها، أي ذاك الذي أريد منه إيجاد نقطة توازن بين ضرورة «إعادة هيكلة» الداخل (التي انتهت إلى «إعادة تأسيس» دول وجماعات)، والحاجة إلى تقديم نموذج دولي يتجاوز الثنائية القطبية من دون أن يقع في فخ أحاديتها. هكذا، تغلب معنى «البريسترويكا» الداخلي على موازيه الخارجي، فعُدّت نقطة التحول نحو تعددية حزبية وتوسعٍ في الحريات العامة وخصخصةٍ جزئيةٍ لعملية الإنتاج داخل الاتحاد السوفياتي، بمثل ما اعتُبرت فصل الختام لمنطومة ايديولوجية قامت على نقيض هذا المسار برمته، بينما ظلت مبادئ السياسة الخارجية التي انطوت عليها البريسترويكا، كحفظ التوازن في العلاقات بين الدول وعدم توسُّل القوة للتدخل في شؤونها، مبادرة أحادية تفتقر إلى الإجماع الدولي. فطبقتها موسكو مرغمة بانسحابها من أفغانستان ومخيّرة في تعاطيها مع الاحتجاجات الشعبية ضد الأنطمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، فيما استخفت بها واشنطن في حرب الخليج الثانية مع مفارقة المارد السوفياتي الحياة قبل أن تغفلها تماماً باحتلالها بغداد مع «تحالف الراغبين» عام 2003.
غير أن سياسات غورباتشيف انتهت إلى تصفية الإرث السوفياتي بمعناه المباشر كاملاً. وهو الأمر الذي ردد لاحقاً أنه لم يكن يريده. فأحال تهمة تفكيك الإمبراطورية إلى خلفه يلتسين الذي بادر إلى توقيع اتفاقيات الانفصال مع عدد من جمهوريات الاتحاد (أوكرانيا وبيلاروسيا)، مستغلاً الفوضى الناشئة في السلطة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة على غورباتشيف نفسه. وذهب الأخير إلى حد اتهام يلتسين بالخيانة، وبتلقي تشجيع من صقور إدارة بوش الأب (والإبن فيما بعد) وزير الدفاع ديك تشيني ومدير المخابرات العامة روبرت غايتس، اللذين راهنا على خياره القاضي بـ«علاج الصدمة» shock therapy بدلاً من الإصلاح التدريجي، خيار غورباتشيف. وقد كان من ارتدادات انهيار الاتحاد غلبة نهج فوضوي في مرافق الإدارة السياسية الروسية كافة، مصحوباً بتراجع مدوٍ في ميدان السياسة الخارجية. واستمر الأمر على هذا الحال حتى تبوأ بوتين منصب الرئاسة. والأخير، خلافاً لما يتوقع المرء، نال إعجاب مطلق «البريسترويكا» إلى أن أخذ يضيق على المسار الديموقراطي داخلياً بعد العام 2006. إلا أن التطور الديموقراطي لم يكن في أعلى سلم أولويات بوتين. فهو كان معنياً، ومنذ اللحظة الأولى لمجيئه، بإعادة الاعتبار لموسكو في الميدان الخارجي، وهو الذي اعتبر في خطاب له أمام الكرملين قبل ثماني سنوات أن انهيار الاتحاد السوفياتي «شكل أكبر كارثة جيوسياسية خلال القرن الماضي، ومثل مأساة حقيقية للشعب الروسي».
ليس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سليل نمط الحكم الروسي الذي سبقه. وهو غالباً ما «يتهم» بالعمل على إعادة وصل ما انقطع مع الحقبة الحمراء، من دون تقديم رؤية واضحة حول كيفية إنجاز ذلك. فلا عقيدة حاكمة تصلح نموذجاً للتصدير، ولا خيار قومياً يمكن الركون له تماماً داخل الحدود وما دونها. لكن الحقيقة أن الرجل يظهر نزعة للعودة إلى اللحظة الفاصلة في التاريخ الروسي والانطلاق منها، تلك التي أفلتت من يد غورباتشيف حين تعامل معها بتبسيط وأفلتها بعده يلتسين مختاراً.
الرئيس الروسي دشن، ببساطة، عملية «إعادة هيكلة» السياسة الخارجية لبلاده بعدما فات الأمر سلفه. وهو، اليوم، يذهب بخياره هذا إلى حده الأقصى. وهو ينجز، بمعنى من المعاني، الجزء الذي أغفل من «البريسترويكا». وعملية «إعادة الهيكلة» هذه، تقتضي الحفاظ على ما تبقى من إرث السياسة الخارجية السوفياتية حول العالم، ومن ثم البناء عليه لتأمين مناطق نفوذ تحدد شكل الاستراتيجية الروسية ومجالها الحيوي للعقود المقبلة. يترافق ذلك مع الحاجة إلى «تطوير» دواخل الدول المعبرة عن هذا الإرث، بما يتلاءم مع الانفتاح الديموقراطي الجزئي (وغير المستكمل) الذي أنجزته البريسترويكا في موسكو نفسها. سوريا لا تشذ عن هذا الاعتبار. فالنظام الحاكم وفق الرؤية الروسية بحاجة ماسة إلى تعديل بنيوي. واستنزافه المتمادي سهل عملية تطويعه لقبول هذا الخيار. والتعديل هذا، إن حدث وتساوق مع رغبة موسكو، يغيّر من دون أن يجتث.
ولعل دمشق تشكل اليوم أول مختبر حقيقي للمقاربة الروسية هذه، حيث «إعادة الهيكلية» عملية تتعاضد في إنتاجها الاعتبارات الداخلية والخارجية. فالحالة الليبية التي سبقتها كانت أكثر استعصاء على الروس لأسباب عديدة. أولها أن سرعة الأحداث أصابت موسكو بالإرباك. وثانيها أن طبيعة النظام (والشخص) الحاكم في طرابلس كان أبعد عن الواقع وأكثر التصاقاً بالوهم، ما عقد محاولات ترشيد خطابه وعقلنة سلوكه. وثالثها أن الرئيس الروسي كان ميدفيديف – رديف بوتين – وهو الأقل مبادرة والأبطأ في حسم القرار. فيما رابعها تمثل بغياب حاضنة إقليمية وامتداد جغرافي مساعد شبيه بذاك المحيط ببلاد الشام.
غير أن اللحظة الراهنة، وإن كانت محكاً لاختبار «النموذج الروسي» في الخارج، إلا أنها أعجز عن إخفاء تعثراته في الداخل، وجلها بنيوي. وقد نشرت دورية «فورين أفيرز» في هذا السياق مقالاً قبل أيام حول حملة مكافحة الفساد التي أطلقها الرئيس الروسي تحت عنوان «التدمير الذاتي لبوتين»، فاعتبر المقال أن حملة زعيم الكرملين من شأنها أن تسحب منه دعم نخب رأسمالية نافذة وتغرق النظام القائم أساساً على قواعد فاسدة لصيقة بالقطاع العام (شركة غازبروم نموذجاً بخسارتها 40 مليار دولار العام 2011 بحسب تقرير نشر على موقع بلومبرغ). إلا أن تقديراً كهذا، رغم شيوعه أحياناً، يبدو قاصراً عن فهم ميكانيزمات الواقع الروسي. فسياسة الكرملين ممسكة بإحكام من قبل نخب في الأجهزة التنفيذية، لا الأسواق المالية، و«البريسترويكا» التي يعاد إنتاجها اليوم تعطي الخارج أولوية بالضبط، لأنه يوفر للسلطة عناصر قوة تسمح لها بضبط مساحة الفوضى الداخلية التي أنتجها الانتقال السريع نحو اقتصاد السوق. وهو بذلك يستحدث في هذا الداخل ديناميات ويفتح له أسواقاً أقفلت مع أفول النجم الأحمر أو قبل ذلك بسنوات. إستكمال «البريسترويكا»، بناء عليه، هو مشروع بوتين. والشرق الأوسط «الجديد» ليس بمنأى عن هذا المشروع.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى