كتب

خالد خليفة … رواية أخيرة في حبّ اللاذقيّة

فاطما خضر

علاقتا حُبّ فاشلتان (سام وماريانا، روني ويارا) مُقابل علاقة تتكلّل بالزواج (موسى ومنال)، كأنّ الراحل خالد خليفة يضعنا أمام فرضيّة حول علاقات الحبّ: مُقابل كلّ قصّة حبّ ناجحة، ثمّة قصّتان فاشلتان.

فرضيّةٌ يترك لنا برهانها عبر صفحات روايته «سمكٌ ميّتٌ يتنفّس قشور الليمون» (دار هاشيت أنطوان/ نوفل ــــ 2024). لكنّ الرواية لا تقف عند هذه الفرضيّة، بل هي أشمل وأوسع بمقدار يتناسب مع شغف الروائي السوري المعروف بالحياة والحُبّ والأصدقاء والمدن والثورة والحريّة والجمال. ومن هذا الشغف، انطلق خليفة جاعلاً من اللاذقيّة التي دائماً ما أحبّها مسرحاً أساسيّاً لسرده، وهو الذي اختار لنفسه فيها شراء شاليه -أسماه «شاليه الندم»- شهدت مئات السهرات التي جمعته بعشرات الأصدقاء والأحبّة.

هكذا أراد خليفة أن يجعل لمدينة منحته دلالها وحبّها وصداقة أبنائها من اسمه نصيباً. بتخليدها عبر روايته التي تدور أحداثها في ثمانينيّات وتسعينيّات القرن الماضي. منطلقاً من توسيع المرفأ الذي شهدته اللاذقيّة على مرحلتين (1981، و1984)، والذي شوّه واجهة الكورنيش الغربي، وبالتالي شوّه ذكريات أهلها. الحدث الأوّل الذي ستروى عبره أربع روايات، تسبقها روايةٌ في تقديم الناشر، تحمل معنى الوفاء لروائيّ استثنائيّ ظلّ يقدّم إبداعه للقرّاء حتى بعد رحيله. وها هو بعد عام من الغياب يهدي قرّاءه روايته التي جاء على غلافها «العمل الأخير- صدر بعد وفاته»، فهنا روايةٌ كاملة منفصلةٌ عن العمل. يستعيد بها كلّ من عرف خليفة، ذكرياته مع رجل عرف معنى الحياة فعاشها حتّى آخر رمق، وآمن بالصداقة فكان له مئات الأصدقاء حول العالم.

خالد خليفة… رواية أخيرة في حبّ اللاذقيّة

يضمّ متن الرواية أربعة رواة، تناوبوا عبر أربعة فصول، على سرد ملخّص لسيَر حياتهم التي تتقاطع في مجموعة أحداث مشتركة، فالرواة أصدقاء يشكّلون شلّةً مكوّنةً من ستة أفراد، ثلاثة شبّان (سام، روني، موسى) وثلاث صبايا (ماريانا، يارا، منال)، أطلقت عليهم -وعلى نفسها- منال لقب «المسوخ»، وأسمت الفرقة الموسيقيّة التي شكّلوها وهم في السابعة عشرة من عمرهم Black Birds، حيث جمعتهم رغبةٌ عارمةٌ في تغيير العالم عبر الموسيقى، إذ لم يكن يعجبهم شيء في مجتمعهم، فعاشوا على حافة التجربة التي أوصلتهم إلى أمكنة عميقة وقدرة فائقة على التخلّي، ومثلت حفلتهم الموسيقيّة التي قدّموها على مسرح الكنيسة الحدثَ الثاني الذي سيكرّره الرّواة، خلال قَصّهم لسلسلة أحداث كلّ وفقاً لمحيطه العائلي الذي صاغ تكوينَه النفسيّ، ووفقاً لوجهة نظره، وقراءته لمجريات حيوات ستظهر خلالها عائلات بأكملها مع البيئة المحيطة، ومدنٌ تمثّل مسارحَ ثانويّةً لها (دمشق، جبلة، بيروت، بوسطن، مونتريال…).

اللاذقيّة مدينة الليمون،

لكن تبقى اللاذقيّة بشوارعها وحاراتها المسرح الأساسيّ للسرد. حيث سيشعر القارئ بأنّه يحمل خريطةً يتعرّف عبرها إلى اللاذقيّة، إذ يكاد خليفة لا يغفل عن ذكر اسم شارع أو مقهى أو كافيه فيها، ليخلق مفارقة وسط كل هذا الوصف الدقيق لجغرافيتها. فاللاذقيّة المعروفة بـ «عروس الساحل»، يجعلها خليفة مدينة الليمون. إذ يمنح خصوصيّة لهذه الشجرة التي يتكرّر ذكرها عبر الرواية، فيمنح القصيدة التي كتبتها منال وغنّتها الفرقة في حفلتهم الأولى عنوان «قشورٌ متيبسة في حقول الليمون»: «أمسك يدي جيّداً/المدينة ليست مزدحمة/لكنّي أخاف الضياع» (ترد لازمتها صفحة 72) في حين تظهر مسبقاً مقاطع أخرى منها (ص 29) خلال وصف مجريات الحفلة على لسان سام: «كيف تنام امرأةٌ وحيدة/ في سرير بارد/ ولا يتهدّم عرش العالم/ خذ قلبي/قطّعه وارمِهِ للوحوش الجائعة/ إن كنت مصمّماً على هجري…».

إذن هنا، كما في مواضع أخرى، نقرأ خليفة ليس كروائيّ فحسب، بل كشاعر، إذ ترد في الرواية قصائد أخرى، لبعضها عناوين مثل «الغرباء»، في حين ترك مكان بعضها فارغاً على نيّة العودة لكتابتها لاحقاً، من دون أن يتمّ الأمر.

لا تتوقّف بطولة شجرة الليمون على عنوان الرواية، وأغنية حفلة الكنيسة، بل تمثّل شجرة الليمون التي بَنَت تحتها ماريانا مخدعها في منزل جدّتها الذي نشأت فيه بعدما قتل والدها، وتركتها والدتها لتتزوّج ثانيةً، شاهداً على كثير من الأحداث: مَجون سام وماريانا، حبّ روني ويارا، أحاديث ماريانا وروني لساعات عن تفاهات لا تخطر في بال أحد سواهما، موقف روني من زواج ماريانا من جورج، تفرّق الفرقة وضياع مشروعها…

رواية خالد خليفة…

يحلّ على رواية خالد خليفة ضيوف شرف من أبناء اللاذقيّة بأسمائهم الحقيقيّة، أهمّهم الشاعر والرسّام السوري منذر مصري. حيث يرد ذكره مرّاتٍ عدّة. فهو صديق الأستاذ محمود الأخ الأكبر لموسى، حَفيدَي إقطاعيّ وسياسيّ مهم في جبلة. ويظهر خليفة صديقه -كما هو في الواقع- شاعراً وعاشقاً للموسيقى وداعماً لمواهب الشباب. يسرد خليفة على لسان أبطاله. أنّ مصري أوّل من كان يحضر إلى مكتبته «فِكْر وفَن» أسطوانات الأغنيات الأجنبيّة فور وصولها إلى بيروت. ثمّ يوزّعها خلال أيّامٍ قليلة في أنحاء اللاذقيّة. كما وشجّع «المسوخ» منذ انطلاقتهم. حيث حضر حفلتهم الأولى، ودعاهم مرّات عدة إلى قبوه في «بناية الزوزو» في آخر شارع الأميركانأيضا. كما وأثّر تأثيراً مباشراً على خياراتهم الموسيقيّة وقراءاتهم، وساعدهم على الانتباه إلى المهمل من الشعر والحياة. كما وشجّع منال على طباعة ديوانها الأوّل، مبدياً رغبةً صادقةً لدعمها في طباعته. احتفالاً منها ومَن بقيَ مِن الفرقة بمرور عشر سنوات على نصر «المسوخ» الوحيد.

روايات خالد خليفة

وعلى عكس ما اعتدنا قراءته في روايات كثيرة أبطالها مثاليون وأسوياء. نقرأ هنا عن شباب حالمين عبثيين يعانون مركّبات نَقص نابعة من المنشأ والطفولة غير المطمئنة. كما و يدخّنون الحشيش، ويمارسون الجنس بشبق أيضا. إحداهنّ (يارا) تفضّل السعي وراء الشهرة على حساب الحبّ. وأحدهم (سام) يعتبر أنّ موت أخيه سيعفيه من الخدمة الإلزاميّة، وسيتيح له أن يرث حصته.

تضاف إليهم شخصيّات ثانويّة: مقرّبون من السّلطة يخرجون من أيّ تهمة باتّصال. وآخرون يبيعون إجازات لأفراد الجيش، ويقومون بتفييش من يرغبون، ومقابل مبالغ طائلة يؤمّنون مكالمات… مهرّبون يهرّبون بضائع من لبنان (علب السمنة، محارم، ويسكي، كروزات دخان…). معارضون ومعتقلون، ضبّاط وأفراد جيش… أنماط نساء مختلفة: مطلّقات بحثاً عن الحرية والسعادة. مؤمنات بالحريّة الجنسيّة واللذة، متحفّظات يتمسكّن بالتقاليد، فقيرات تباع أجسادهن الفتيّة من قبل سماسرة لحوم بشريّة بعقود زواج متعة… موت وقهرٌ وظلمٌ وسجونٌ، دعارةٌ ورقصٌ وخمرٌ ومَجونٌ، مجلات بورنو تتسرب وتتنّقل سرّاً بين أيدي الشباب… منمنماتٌ مصغّرةٌ تشكّل مجتمعةً صورةً لمدينة بأكملها، تمثّل انعكاساً لبلد مفتوح على مختلف الأنماط البشريّة البعيدة عن يوتوبيا أفلاطون.

«سمكٌ ميّتٌ يتنفّس قشور الليمون» روايةٌ تتميّز بلغة بعيدة عن الاستعراض. وقريبة ببساطتها إلى اللغة اليوميّة أيضا. تبعد القارئ بسلاستها عن الملل والتململ. كما ومحمّلة بعبارات فلسفيّة عن: الحبّ، الفراق، الحياة، العائلة، الخرافات التي يحوّلها الزمن إلى جزء من التاريخ، جرحى الحروب المنسيون، والموت الذي سنلمَح في أحد أقوال خليفة عنه خلال الرواية، تنبّؤاً باطنيّاً يستبق به جميعَ من نعاه ووصف موته في شقّته في دمشق وحيداً (30 أيلول/ سبتمبر2023): «لا طعم للموت إن ذهبت إليه وحيداً».—

صحيفة الأخبار اللبنانية

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى