لا يزال الحديثُ هنا عن كتاب ديفيد هيل الجديد، «الدبلوماسيّة الأميركيّة نحو لبنان: دروس في السياسة الخارجيّة والشرق الأوسط» (صدر الكتاب تزامناً في ترجمة عربيّة لكنّ هذه المراجعة تعتمدُ على النسخة الإنكليزية).
ويعترف الدبلوماسي الأميركي في الأربعينيّات بـ«جهود فرنسيّة للتلاعب بنتائج الانتخابات (المهمة في لبنان في أيلول 1943) وذلك لترجيح كفّة المسيحيّين الموالين لفرنسا لكنّ الولايات المتحدة أعلنت أن الانتخابات هي خطوة نحو السيادة والاستقلال». من السذاجة الافتراض أن أيّ انتخابات تجري في بلدان العالم الثالث (وحتى الأوّل في سنوات الحرب الباردة) لا تكون أميركا ودول الغرب تتدخّل فيها مباشرة لترجيح فوز الموالين للمصالح الأميركيّة (في الحرب الباردة كانت الحكومة السعوديّة، بإيعاز أميركي، تموّل سراً الحزب الديمقراطي المسيحي في إيطاليا لمنع فوز الشيوعيّين. ولم يفشل الشيوعيّون في الوصول إلى السلطة في إيطاليا في تلك السنوات إلا بسبب تآمر مباشر من الحكومة الأميركيّة). ويقول هيل إن الحكومة الأميركيّة كانت تربط ربع الاعتراف باستقلال لبنان وسوريا بتمكّن القوى المحليّة في البلدين من الإمساك بزمام الحكم، لكنّ الفرنسيّين لم يكونوا في وارد السماح بذلك. ويصف الدبلوماسي الأميركي في بيروت إميل إده بأنه «دمية فرنسيّة» (علمتُ أخيراً أن عائلة إده -بأمر من ريمون- أحرقت الأوراق الخاصّة بإميل إده ربما لما فيها من مراسلات مع الصهاينة). أمرت الحكومة الأميركيّة دبلوماسيّها في بيروت، جورج وادزورث، بعدم التعامل مع حكومة إده غير المنتخبة. أميركا تفضّل غير المنتخبين عندما يكونون من أدواتها لا من أدوات غيرها، ولو من الحليفة فرنسا. لكن موقف الحكومة الأميركية لم يكن كما يصفه هيل: فقد أعدّت المخابرات المركزيّة تقريراً فصّلت فيه أسباب ضرورة معارضة الحكومة الأميركيّة لحركات التحرّر والاستقلال حول العالم خوفاً من وقوعها في الحضن الشيوعي.
ويعتمد هيل (كالعادة في الكتاب) على مراجع مختلفة (ومن نوعيّات متفاوتة في المصداقيّة) في سرديّته لتاريخ العلاقة. هو أحسن في الاعتماد على كتابات أسامة خليل القيّمة عن السياسة الأميركيّة في الشرق الأوسط (خصوصاً كتابه «قصر أحلام أميركا: التخصّص في الشرق الأوسط وظهور دولة الأمن القومي» الصادر في عام 2016 عن دار نشر جامعة هارفرد). يرى خليل أن الحكومة الأميركيّة وجدت في الجامعة الأميركيّة في بيروت ضالتها لخدمة المصالح الأميركية، وبطرق عمليّة، في مواجهة النازية، والشيوعيّة بعد ذلك. في عام 1944، تلقّت الجامعة أول هبة أميركيّة مباشرة وموَّلت الحكومة الأميركيّة تعليم مادة بالعربيّة عن التاريخ الأميركي (من المؤكد أن الحكومة اختارت أستاذاً ملائماً). وسعت إدارة الجامعة لنيل المزيد من التمويل لاستعمال الجامعة لتنفيذ السياسات الخارجيّة الأميركيّة. لكنّ نقاشاً دار بين إدارة الجامعة والحكومة الأميركيّة حول محاذير الربط الوثيق بين الجامعة والحكومة الأميركيّة وتأثير ذلك على الفعالية السياسيّة للجامعة. يقول هيل إن الاتفاق تمّ حول ضرورة تجنّب ما هو بروباغاندا (هل تدخل المادة التي موّلتها أميركا في الجامعة عن التاريخ الأميركي؟). وحسب دراسة خليل، فإن الحكومة رفضت عدداً من اقتراحات الجامعة لتمويل برامج محدّدة لكنّ النقاش السياسي كان دائراً دوماً بين إدارة الجامعة والحكومة الأميركيّة حول أفضل الطرق لخدمة مصالح السياسة الأميركيّة في الشرق الأوسط ولتغيير المزاج العربي من أميركا.
من الطريف أن هيل يذكر كلمة بروباغاندا من دون أن يلاحظ أن كتابه (ذا القيمة الضئيلة) يدخل في سياق البروباغاندا: دعاية سياسية ممزوجة مع جهل بالموضوع. يقول مثلاً إن التدخل الأميركي في لبنان في عام 1958 كان «الإنزال العسكري الوحيد الذي بادر إليه (أينزهاور) خلال سنواته الرئاسيّة الثماني». طبعاً، ليس هذا صحيحاً على الإطلاق. لو أحصينا التدخّلات العسكريّة المباشرة في عهد أينزهاور، فسيرد ما يلي من تدخّلات عسكريّة:
1) إيران في عام 1953 عندما تولّت المخابرات الأميركيّة تنفيذ خطة «أجاكس» لإقصاء حكم مصدّق. 2) غواتيمالا في عام 1954 حيث نفّذت المخابرات الأميركيّة خطة «بي بي سكسِس» لإقصاء الرئيس جاكوبو أربنز عن الحكم، لأن الحكومة الأميركيّة وجدت فيها تعاطفاً مع الشيوعيّة. 3) لبنان لدعم شمعون بوجه خصومه. 4) كوريا، مع أن الحرب بدأت في عهد ترومان. 5) أزمة مضيق تايوان في عام 1954. 6) أزمة فييتنام حيث دعم أيزنهاور الاحتلال الفرنسي بقوّة كما أرسل مستشارين عسكريّين إلى حكومة جنوب فييتنام.
أمّا لو حصرنا التدخّل العسكري بالإنزالات فقط، كما يأتي في الكتاب، فسيرد: التدخل العسكري في لبنان ومضيق تايوان وكوريا. كيف أن هيل، الدبلوماسي الأميركي الذي يكتب عن السياسة الخارجيّة الأميركيّة، يجهل تاريخ التدخّل العسكري لحكومته عبر التاريخ المعاصر؟
يحكم هيل على أيزنهاور بالنجاح من جراء تدخّله العسكري في لبنان، لكنّ الحكومة الأميركيّة خسرت كميل شمعون الذي كانت تريده في المنصب مدى الحياة، لو كان ذلك بمستطاعها. يقول هيل إن أيزنهاور نجح في «فرض القوة الأميركيّة ووضع حد أمام التوسّع الناصري». لكن ما هو التوسّع الناصري الذي يتحدّث عنه؟ كان بمستطاع عبد الناصر أن يؤجّج المسلمين واليسار لضمّ لبنان إلى الجمهوريّة العربيّة المتحدة، لكنه لم يفعل ذلك. لم يكن هناك من توسّع ناصري كما يشير هيل، بل كان هناك تعاطف حقيقي وقويّ من قبل الجماهير العربيّة مع المشروع الناصري التحرّري الوحدوي. نتكلّم عن رجل ألهم أمراء في آل سعود للانشقاق عن شقيقهم الملك واللجوء إلى القاهرة.
ثم إن هيل ينسب فضل السلم الأهلي (النسبي) الذي تبع التدخّل العسكري الأميركي إلى التدخّل العسكري الأميركي. هذه كأن نقول: إن موسم البطّيخ كان ممتازاً في عام 1958 بسبب التدخّل العسكري الأميركي. ثم: هل توقّفت المؤامرات الأميركيّة في لبنان والمنطقة في تلك المرحلة؟ ألم تكن أميركا ترعى منذ ذلك الحين الميليشيات اليمينية الطائفيّة التي أشعلت الحرب في لبنان مرتيْن، في غضون أقل من عشرين سنة؟
يعترف أن مجموعات في داخل الإدارة الأميركية وضعت في عام 1957 اقتراحات لعمل عسكري بريطاني-أميركي مشترك في حال حدوث انقلابات في الأردن أو لبنان. وفي الوقت الذي كان شمعون ينفي فيه أنه طلب التمديد، يعتمد هيل على وثائق أميركية تقول إن شارل مالك حثَّ الحكومة الأميركيّة مباشرةً على دعم التمديد لشمعون وإن وزيري خارجية أميركا وبريطانيا قرّرا في أيار 1958 دعم شمعون. وأرسل السفير الأميركي، روبرت ماكلنتوك، إلى حكومته مُعلماً إياها أن شمعون سيطلب حتماً إنزالاً أميركيّاً بناءً على «عقيدة أينزهاور»، مع أن السفير اعترف لحكومته أنه ليس ثمّة عدوان شيوعيّ في لبنان، بعكس ما تتطلّب بنود «عقيدة أيزنهاور». عندها استخلص المسؤولون الأميركيّون أن شمعون يستعمل «عقيدة أيزنهاور» كوسيلة لتجنّب تقديم تنازلات سياسيّة داخليّة ولخدمة مصالحه الشخصيّة. وفي حزيران 1958، وافقت الحكومة اللبنانيّة على طلب شمعون لتدخّل عسكري أميركي-بريطاني. بهذه الخفّة، تعامل الرؤساء الموارنة مع السلم الأهلي في حقبة ما قبل الحرب. وعندما قرّر الأميركيّون إنزال المارينز، وعدوا فؤاد شهاب بمنحه إعلاماً مُسبقاً لكن قبل 90 دقيقة فقط من التنفيذ. استجداهم شهاب من أجل مهلة أطول حفاظاً على تماسك الجيش لكنّ الحكومة الأميركيّة رفضت.
لا شكّ أن الكاتب صهيوني صفيق. ليس هناك من أي تعاطف مع الشعب الفلسطيني في محنته. يتفطّر قلبه حزناً وأسى على كل «ضحيّة» إسرائيليّة فيما يمتنع عن إبداء أي تعاطف مع ضحايا عدوان إسرائيل في المنطقة. يذكر مثلاً أن عمليّة فدائيّة ضد إسرائيل في عام 1955 قتلت «مدنياً إسرائيليّاً». لا يكترث لآلاف الضحايا العرب. ويشير هكذا عرضاً إلى «ظهور إسرائيل المستقلّة». بالنسبة إليه، فإن إسرائيل في عام 1948 لم تكن غير دولة تدافع عن استقلالها بوجه الاستعمار. تقرأ عن صهيونية ورجعيّة الرجل وتتذكّر أنه كان (ولا يزال) مُلهماً لقادة ثوّار الأرز وثوّار تشرين الأصغر سناً.
يعترض هيل على «حلف بغداد» لأن بريطانيا وليس أميركا كانت تديره. ويقول إن نتائج الحلف كانت مخيّبة لأنها سمحت لأعداء أميركا بوصف الغرب بأنه يمارس «الطموحات الإمبرياليّة القديمة» باسم الأحلاف. يظنّ هيل أن الفكرة الأخيرة تظلم الغرب مع اعترافه بأن أميركا وبريطانيا كانتا تريدان «تشكيل الشرق الأوسط ضد الشيوعية السوفياتيّة». يهجو عبد الناصر لأنه «سرّعَ حملات التخريب ضد خصومه المحافظين في العراق ولبنان والأردن وسوريا». وهل الغرب لم يكن يسرِّع حملات تخريب ضد أعدائه في كل أنحاء العالم؟ وهو يخطئ عندما يقول إن الحكومة الأميركية وازنت بين حاجتها إلى دعم حلفائها ومصلحتها في «احتواء» الحركات القوميّة العربيّة. أين ومتى احتوت واشنطن الحركات القوميّة العربيّة؟ يعترف مسؤول المخابرات الأميركيّة السابق، أرتشي روزفلت، في كتابه «شبق المعرفة»، أن الحكومة الأميركية أخطأت في مساواة القوميّة العربيّة بالشيوعية واعتبار عبد الناصر أنه مجرّد أداة بيد الشيوعية العالميّة. أميركا عادت الحركات القوميّة العربية وحاربتها. مذهل كم أن هيل يجهل أدبيّات تلك المرحلة في الشرق الأوسط. كل مراجعه حديثة جداً.
ثم يحدّثنا هيل عن كمال جنبلاط فيقول الخبير في الشأن اللبناني إن كمال جنبلاط «لم ينجذب إلى أيديولوجية القوميّة العربيّة» وإنه كان «قوميّاً لبنانيّاً». لقد ارتبط جنبلاط خلال مسيرته الطويلة بالقوميّة العربيّة وكان معارضاً للقوميّة اللبنانيّة (صحيح أنه كان هناك فترة في عام 1956 عندما لم يؤيّد جنبلاط عبد الناصر، ما دفع كلوفيس مقصود لترك الحزب التقدمي الاشتراكي اعتراضاً، حسب ما أخبرني الأخير، لكن هيل لا يعلم هذه التفاصيل. يبدو أنه ظنّ أن كمال جنبلاط كان من مؤسّسي 14 آذار). عندما يحاول هيل أن يكتب بطريقة إنشائية، تخرج الجمل منه إما مضحكة أو كليشيهات مجترّة. يقول: «في لبنان الكثير من المسرّات. المروّجون يقولون إنه يمكن أن تسبح في البحر في الصباح وأن تتزلّج بعد الظهر». هل يظنّ هيل أن القارئ عن لبنان يسمع الكليشيه هذا للمرّة الأولى؟ حتى عندما يضيف ما معناه أنه من المشكوك فيه أن أحداً تجشّم هذا العناء، فإنه يكرّر كليشيه آخر عن الموضوع.
وفي نهاية عهد شهاب، يجلس السفير الأميركي مع فؤاد شهاب ويعرض عليه قائمة بالمرشّحين خلفائه مع علامات منَحَها سفير الدولة العظمى لكلّ منهم. تخيّل لو أن السفير الإيراني فعل ذلك اليوم في الوقت الذي يصرّ فيه بعض اللبنانيّين على أن لبنان واقع تحت الاحتلال الإيراني. يعطي السفير علامة 85 لشهاب ويناقش شهاب في الأسماء. اقترح شهاب بعض التعديلات على قائمة السفير التراتبية وأعطى لنفسه أعلى علامة، وأتى بعده في قائمته عبد العزيز شهاب وشارل حلو. لكنّ شهاب عدلَ عن فكرة التمديد لنفسه وفضّل الحلو على شهاب كي لا يُتهم بالمفاضلة العائليّة.
(يتبع)
صحيفة الأخبار اللبنانية