حقّق الكاتب البرازيلي إيتامار فييرا جونيور دخولاً باهراً إلى عالم الأدب بروايته الأولى «السّكين الأسود» (دار لغة ــ ترجمة فاطمة محمد)، التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» الدولية لعام 2024. كما فازت بجوائز أدبية مرموقة.
ينتمي فييرا جونيور إلى مجتمع الكيلومبولا المؤلَّف من العبيد الأفارقة الذين كانوا يعملون مجاناً بموجب النظام الاستعماري الذي جلبهم إلى البرازيل بالقوّة للعمل في المزارع والمناجم من دون مقابل. هذه الخلفية التاريخية والاجتماعية أثَّرت على الكاتب، الذي يأخذنا في رحلة لاكتشاف مجتمع الكيلومبولا ومعتقداتهم وأعيادهم الدينية، التي تمزج بين ثقافات مختلفة، بالإضافة إلى التحدّيات التي يواجهها أفراد هذا المجتمع، مثل سرقة ثقافتهم من ملّاكي الأراضي، ومنعهم من بناء منازل دائمة، فضلاً عن التقلّبات المناخية والجفاف. كما يتناول المشكلات المُتعلّقة بالكحول والعنف الأسري، ويستعرض نظامهم الصحيّ المُعتمد على المعرفة التقليدية بالنباتات الطبية.
تحكي هذه الرواية قصة عائلة من مجتمع أفرو ــ برازيلي استقرت في مزرعة آغوا نيغرا، الواقعة في ولاية باهيا في البرازيل. سُمح لهذه العائلة ببناء مسكن بدائي من الطين، وزراعة حديقة صغيرة تكفي للعيش الذاتي، مقابل عمل شاق غير مدفوع الأجر في مزارع المالك.
تتنوّع الأصوات في الرواية، إذ تُروى الحكاية عبر ثلاث شخصيات نسائية: الأختان بيبيانا وبيلونيسيا، والقديسة ريتا بيسكاديرا. يبدأ السرد بقصة الفتاتين الصغيرتين بيبيانا وبيلونيسيا، اللتين تجرّأتا على فتح حقيبة جدّتهما «دونا أنا»، المُخبّأة تحت السرير لاختبار السكين العاجي الرائع بداخلها. أثناء اللعب، تجرح بيبيانا لسانها، في حين يتعرض لسان بيلونيسيا للبتر، ما يُفقدها القدرة على الكلام. هذا الحادث يُغيِّر حياة الشقيقتين ويُقرّبهما من بعضهما. هكذا، تصبح بيبيانا صوت أختها، فهي الوحيدة القادرة على فهم مشاعرها وأفكارها والتعبير عنها.
مع تقدُّم الزمن، يخفت هذا التقارب، إذ تنفصل حياة الشقيقتين وتختار كلّ منهما طريقاً مختلفاً. تغادر بيبيانا مع حبيبها سيفيرو لبناء حياة جديدة والنضال من أجل حرية العائلة والأرض والحقوق المسلوبة، في حين تبقى بيلونيسيا في المزرعة للعناية بالأرض وحفظ طقوس الأجداد وإرث نساء العائلة.
بالتناوب، تتحدث الأختان عن حياتهما وعائلتهما وحبهما للأرض وتضامنهما وأحلامهما المستقبلية المتعارضة تماماً، وتُسلّطان الضوء على العبودية المُتنكّرة في ثوب الحريّة لشعب عانى كثيراً من الاستغلال. تُمثِّل بيبيانا القوة والرغبة في التغيير، فتسعى مع زوجها سيفيرو إلى كسر قيود الظلم الاجتماعي والاقتصادي التي تحيط بها وبعائلتها، بينما تُمثِّل بيلونيسيا المقاومة الصامتة، فهي شخصية مُعقّدة، تعاني صدمة نفسية وجسدية نتيجة فقدان قدرتها على الكلام بعد حادثة استخدام السكين. تحمل بيلونيسيا داخلها إرثاً من المعاناة والصراع، لكن رغم صمتها، فهي ليست شخصية سلبية؛ بل رمز للصمود الداخلي والتكيّف مع الصعوبات. تعكس تجربة بيلونيسيا الشخصية عمق الألم الذي يعانيه أولئك الذين يعيشون في ظل قهر لا يستطيعون التعبير عنه بالكلمات. كما أنّها تتحلّى بقوة شخصية تسمح لها بمواجهة العنف الذكوري ومساعدة النساء اللواتي يتعرضن للقمع والضرب.
أما والد الفتاتين، الطبيب المعالج زِيكا، فهو يُمثل مقاومة وصمود العمال الزراعيين البرازيليين في مواجهة الاستغلال الذي يمارسه ملّاكو الأراضي. بصفته أباً ومعالجاً وحارساً للتقاليد والمعارف القديمة، يُجسِّد هذا الرجل الارتباط العميق بين الإنسان والأرض، وهو ارتباط يتّسم بالمعاناة ولكنه يتميّز أيضاً بمعرفة عميقة واحترام للطبيعة.
تنجح الرواية في تصوير معاناة العائلات التي يمكن أن تجد نفسها بين عشية وضحاها مضطرة إلى مغادرة منازلها، رغم أنها اعتنت بالأرض لسنين طويلة من دون أجر. يُركِّز السرد على علاقة الهيمنة التي يمارسها الملاكون على العمال، والتمرُّد الذي بدأ ينمو بين الأجيال الشابة التي تطالب بحقها في الأرض متأثرة بشخصيات مثل سيفيرو، الذي يشرح للمزارعين عن ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية، وخاصة أنّ الأرض ازدهرت بسبب العمل الشاق الذي قامت به الأسر العاملة، وليس بسبب الملاكين الذين لم يُقدّموا شيئاً بل جمعوا الثروات على حساب الفقراء.
تعتمد الرواية تقنية السرد بصيغة المُتكلِّم، ما يتيح للقرّاء استكشاف عمق مشاعر وأفكار كل من بيبيانا، بيلونيسيا والقديسة ريتا. هذا الأسلوب الروائي الحميم يعطي صوتاً للفئات المهمشة، ويقدم نظرة داخلية لكفاحهم من أجل الحياة الكريمة في ظل نظام قمعي واستبدادي. تلعب الواقعية السحرية دوراً مهماً في إثراء السرد وإضفاء أبعاد رمزية على أحداث الرواية. على سبيل المثال، تظهر الرؤى والرموز والأحلام التنبؤية بشكل طبيعي في القصّة، وتتقبلها الشخصيات كجزء من واقعها. غالباً ما ترتبط هذه العناصر بالأرض والأسلاف، ما يُعزِّز العلاقة بين الأحياء والأموات، وبين الحاضر والماضي.
يكتسب السّكين، المغلف بقماش مُلطّخ بالدماء، دلالة أسطورية ورمزية، فهو يُجسّد الأسرار العائلية، والصدمات الماضية، إذ تبدو هذه الأداة كأنها تمتلك حياة خاصة بها، وقوى سحرية تؤثر على مصائر الشخصيات. حتى الطبيعة نفسها تبدو كأنها تمتلك صفات خارقة، فالأرض والنباتات والحيوانات ليست مجرّد عناصر في المشهد، بل كائنات حية تتفاعل مع الشخصيات. غالباً ما تكون هذه العلاقة الحميمة مع الطبيعة مشوبة بالتصوّف، إذ ترتبط الدورات الطبيعية للفصول بمصائر أبطال الرواية.
تتجلى الواقعية السحرية أيضاً في امتزاج الماضي والحاضر والمستقبل أحياناً بشكل غير واضح، كما في سرد الأحلام أو الذكريات، حيث لا تتبع الأحداث دائماً تسلسلاً زمنياً خطيّاً. هذا البناء المُبعثر للزمن الروائي، يعكس إحساس الشخصيات الداخلي بالوقت، إذ تبقى الأحداث الماضية، خاصة الصدمات، حيّة في ذاكرة الفتيات وتؤثر باستمرار على الحاضر.
يُقدّم الجزء الجزء الأخير من الرواية، الذي ترويه القدّيسة الراحلة ريتا بيسكاديرا، رؤية عميقة للعذاب الذي عاشته الشخصيات، ويُضفي على الأحداث بُعداً من الأمل والشفاء الروحي. يُعزِّز كلام القدّيسة الشعور بالتوازن الأخلاقي ويشير إلى إمكانية الخلاص وتحقيق العدل، ما يمنح الرواية نهاية متفائلة مليئة بالرجاء، ويُؤكِّد على أنّ الألم ليس نهاية المطاف، بل هو مرحلة آنية من رحلة أبدية نحو السّلام الداخليّ.
في الختام، تبرز رواية «السكين الأسود» كعمل أدبيّ استثنائي يمزج بين الواقع التاريخي والخيال الساحر، متناولاً قضايا عميقة في المجتمع البرازيلي. عبر أصوات شخصياته النسائية القويّة وتوظيفه الماهر للواقعية السحرية، ينجح إيتامار فييرا جونيور في رسم صورة حيّة ومؤثرة لمجتمع الكيلومبولا، مستكشفاً تعقيدات الهويّة والظلم الاجتماعي والكفاح من أجل الكرامة والعدالة. هذه الرواية لا تقدم فقط سرداً مؤثراً، بل تدعو القراء إلى التأمل في قوّة الذاكرة الجماعية، وأهمية الجذور الثقافية، وضرورة مواجهة تركة الماضي الاستعماري.
صحيفة الأخبار اللبنانية