تحليلات سياسيةسلايد

عام على “طوفان الأقصى”.. الشرق لن يعود كما كان، والجديد لم يولد بعد

بعد مرور عام على معركة “طوفان الأقصى”، نجد أنفسنا أمام مشهد إقليمي جديد بالكامل، حيث لم تعد القواعد السابقة تحكمه، وما زال قيد التشكل. هذا يعني أن خطط جميع الأطراف، بما فيها “إسرائيل” والولايات المتحدة، ليست مضمونة النجاح، بل تواجه تحديات من إرادة وسلوك الفاعلين الآخرين، بما في ذلك المقاومة وصمود الشعوب التي تدعمها.

 

ويقول موقع “أسباب” للشؤون الاستراتيجية إنه منذ انطلاق عملية “طوفان الأقصى”، التي دفع فيها قطاع غزة ثمنا باهظا، وعلى الرغم من فقدان المقاومة التي أطلقت العملية، عدد كبير من قياداتها مثل الشهيدين رئيس الحركة إسماعيل هنية ونائبه صالح العاروري، وربما استشهاد نصف المجلس العسكري لكتائب القسام وربما آلاف المقاتلين، فإن المؤكد أن هزيمة حماس عسكرياً أو القضاء عليها كما تصورت “إسرائيل” ما زال هدفا بعيد المنال.

أما في لبنان، يتلقى حزب الله ضربة قاسية غير متوقعة، تضمنت استشهاد كل مجلسه العسكري تقريبا، وعلى رأسهم أمينه العام التاريخي السيد حسن نصر الله، وخليفته المحتمل هاشم صفي الدين، فضلا عن عشرات الكوادر النوعية في مستويات وتخصصات مختلفة، كما تلقى ضربة موجعة لمنظومة اتصالاته السرية، واستبيحت ضاحيته المفضلة في جنوب بيروت كما لم يحدث من قبل. ومع هذا، فما إن قررت “إسرائيل” اختبار الغزو البري، ظهر واضحا أن الأضرار الفادحة التي لحقت بمنظومة التحكم والسيطرة لدى حزب الله، لا تعني أبدا أن هزيمته باتت مسلم بها، أو أن الغزو البري سيكون مجرد نزهة لجيش الاحتلال، كما أن قدرة الحزب على استهداف الداخل الإسرائيلي لا يبدو أن الضربات الإسرائيلية ستنجح في إيقافها قريبا.

يقول “أسباب”، إن هذه ليست هي الصورة الوحيدة التي يجب أن نتأملها بعد عام من الطوفان؛ ذلك أن غبار المعارك ودماء الشهداء ودمار العمران لا يكفي بمفرده لاستشراف التحولات البعيدة التي أطلقها الطوفان، أو التي كشف عنها وجعلها أكثر وضوحا. ولابد من الأخذ في الاعتبار أن بعض تلك التحولات باتت ضمن مكونات المشهد الجيوسياسي الجديد لمنطقة الشرق بمجرد انطلاق العملية ونجاحها صباح السابع من أكتوبر 2023، ولا يمكن لآلة الدمار العسكرية الإسرائيلية أن تعيد حركة الزمن إلى الوراء، وكأن ذلك الصباح لم يمر على منطقة الشرق. المؤكد أن الضرر الفادح الذي لحق بإسرائيل، لا يمكن أن يمحوه أي مستوى من التوحش العسكري.

بعيدا عن أسئلة الحرب المباشرة، والتي تظل مهمة، والسيناريوهات المحتملة مثل احتمالات توسع الحرب البرية في لبنان، ومستقبل التصعيد العسكري بين الاحتلال وإيران، ودخول جبهات أخرى على خريطة الحرب كالأراضي السورية أو العراقية، فإن هذا العدد من مآلات يركز على الصورة الأوسع، حيث يسلط الضوء على استنتاجات جيوسياسية، لاحظناها خلال عام الطوفان، ونرجح أنها لن تتأثر جوهريا بالسيناريوهات المحتملة المتعددة لسير المعارك على الأرض.

نموذج ما بعد الطوفان لم ينضج بعد

يقول موقع أسباب، إن الدرس الافتتاحي بعد عام من الطوفان، هو أن محددات المشهد الإقليمي السائدة قبل الطوفان، لم تعد قائمة، وليس من المجدي بأي حال التفكير في سلوك الفاعلين – خاصة الإسرائيلي – وفق تلك القواعد. يشمل ذلك قواعد الصراع بين إيران ومحورها من جهة، و”إسرائيل” من جهة أخرى، والديناميات التي حكمت القضية الفلسطينية نفسها. نحن الآن إزاء نموذج تفسيري جديد تماما (Paradigm)، وهو ما زال قيد التشكل، لم ينضج بعد.

بمعنى أننا في مرحلة انتقالية نحو نموذج جديد (Paradigm Shift)، ولا يجري الصراع حاليا وفق قواعد سابقة متفق عليها، أو قواعد جديدة جرى الاعتراف بها، ولكن حدود هذا النموذج الجديد، وقواعده الحاكمة للمعادلات والتوازنات السائدة فيه، يجري الآن فرضها بقوة الدم، ووفق المدى الذي تصل إليه الصواريخ، وبمستوى صمود المقاومة وثبات الشعب الحاضن لها والواقف على أرضه، في فلسطين ولبنان، وغيرها.

الذهول عن هذه الحقيقة لا يربك المتابعين والمعلقين فقط، بل أربك تقديرات بعض أطراف الصراع نفسه. فعلى مدار العام الماضي، أثبت نتنياهو، أكثر من أي طرف آخر، أنه يعني حقيقة نهاية النموذج السابق. ومن ثم؛ ظهر تركيزه وتمسكه اللافت بكل ما هو استراتيجي من وجهة نظر الاحتلال. ما منح “إسرائيل” تفوقا نوعيا خلال العام المنصرم في مواجهة المحور الإيراني هو أن “إسرائيل” كانت تعلم جيدا ماذا تريد، ومن ثم كانت مستعدة لتجاوز المسلمات السابقة كي تحقق أهدافها، بينما كانت إيران ومحورها تدري فقط ما الذي لا تريده، وهو الحرب المباشرة، ومن ثم راهنت على مسلمات ومعادلات لم تعد قائمة أصلا، فتحولت إلى قيود فرضتها إيران على نفسها، وحدت من قدرتها على المبادرة، أو حتى توقع خطوات “إسرائيل”.

على سبيل المثال؛ تجاوزت “إسرائيل” مسألتين كانتا مسلمتين في أي تحليل للمشهد في الأشهر الأولى من الحرب، حين كانت التحليلات ما زالت مقيدة بمسلمات ما قبل الطوفان. المسألة الأولى: أنه لا يمكن لإسرائيل تحمل حرب طويلة. بينما تهيأت دولة الاحتلال لمعركة ليست فقط طويلة، وإنما مفتوحة، وبات واضحا أنها تحشد الامكانات الاقتصادية والعسكرية، سواء الذاتية أو الغربية خاصة الأمريكية، اللازمة للمواصلة ليس فقط حتى نهاية 2024، بل أبعد من ذلك بكثير.

المسألة الثانية: أن “إسرائيل” غير قادرة على خوض مواجهة متعددة الجبهات. هذا أيضا جرى تجاوزه. سبق أن أطلقت “إسرائيل” بنفسه مواجهة متعددة الجبهات عام 1967. والآن، تتجهز لمواجهة متعددة الجبهات، طبعا طالما ظل الدعم العسكري الأمريكي حاضرا في المنطقة. لا شك أن هذه المسألة تظل نسبية، حيث لا تشهد كل الجبهات نفس المستوى من العمليات العسكرية، لكنّها تظل كلها جبهات مفتوحة في نفس الوقت، والأمر الذي له دلالة خاصة أن “إسرائيل” هي من تبادر لتوسيع تلك الجبهات، وليست الأطراف الأخرى.

كلا الافتراضين كانا صحيحين قبل الطوفان، لكن بعده تغير النموذج بأكمله، ومن ثم لا يمكن للمسلمات حول نهج الاحتلال الأمني والعسكري السائد منذ أوسلو أن يقدم تفسيرا أو توقعا لسلوكه بعد الطوفان. بل يجب النظر لسلوكه في سنوات التأسيس الأولى التي كان يخوض فيها صراعا وجوديا في بيئة معادية على كافة الجبهات.

يتجلى ذلك في غزة؛ إذ لم ينشغل نتنياهو بإنجازات تكتيكية وعملياتية، ولم يقبل بها كإنجاز كاف كي يتخلى عن أهدافه البعيدة: إضعاف حماس استراتيجيا وإبعادها عن حكم غزة، والاحتفاظ بالسيطرة الأمنية على القطاع، ودفع عدد من السكان للرحيل.

ظهر هذا في سلوكه إزاء قضايا مثل الإصرار على احتلال محور فيلادلفيا، ورفض عودة النازحين إلى شمال القطاع، ورفض خطط اليوم التالي (حتى لو كانت أمريكية) التي لا تلبي معاييره الأمنية الجديدة، فضلا عن عدم الاكتراث بمسألة استعادة الأسرى وعدم الخضوع لضغوط الرأي العام المحلي بخصوص هذا الملف إذا كان ثمن استعادتهم هو التخلي عن أي من الأهداف بعيدة المدى التي وضعها للحرب.

أما في جبهة لبنان؛ أكد نتنياهو مجددا أنه ليس مشغولا بالتكتيك. بمعنى أن استعادة الأمن في الشمال لن تتحقق من وجهة نظره بإبعاد حزب الله إلى ما وراء الليطاني فحسب، ولكن بضمان فرض معادلة من الردع تضمن أن ألا يكون الحزب قادرا على تهديد الشمال مجددا، وذلك بتوجيه ضربة استراتيجية لقدراته، أو أنه لن يلجأ لاحقا إلى استخدام ورقة تهديد مستوطنات شمال “إسرائيل” إلا كقرار حرب شامل عليه تحمل تبعاته.

وبالتالي فإن الهدف هو ليس إعادة تموضع حزب الله جغرافيا في الجنوب اللبناني، من حيث مدى ابتعاده عن الحدود وطبيعة تواجده العسكري، ولكن الهدف هو إضعاف حزب الله استراتيجيا، وإعادة رسم تموضعه في مجمل معادلة الصراع الإيراني مع “إسرائيل”، باعتبار أن خطوة “إسرائيل” التالية بعد لبنان هي العمل على إضعاف إيران نفسها.

معنى أن “النموذج الجديد” لم ينضج بعد أن خطط كافة الأطراف، بما في ذلك “إسرائيل” والولايات المتحدة، ليست مضمونة النجاح، وإنما محل تدافع مع إرادة وسلوك كافة الفاعلين الآخرين. امتلكت “إسرائيل” المبادرة إزاء استهداف إيران وحزب الله، واجتازت كافة الخطوط الحمراء السابقة، لكنّها في المقابل كان عليها تقبل أن الآخرين سيجتازون أيضا خطوطا حمراء مقلقة، وأصبح من معادلات الصراع الجديدة أن إيران تهاجم العمق الإسرائيلي مباشرة دون أن يكون هذا بالضرورة بمثابة “إعلان حرب”.

وبالإضافة لذلك، أصبح الداخل الإسرائيلي عرضة لهجمات من اليمن والعراق، وهي معادلة لا تحقق لإسرائيل معايير الأمن التي تريد فرضها واستعادتها بعد الانهيار الكبير في نظرية الأمن الإسرائيلي في السابع من أكتوبر/تشرين أول 2023. وليس أبلغ دلالة من هذا أنه وبعد عام من طوفان الأقصى، أظهر استطلاع أجرته هيئة البث الإسرائيلية أن 86٪ من الإسرائيليين غير مستعدين للعيش في غلاف غزة بعد انتهاء الحرب.

عربي بوست

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى